أحمد حوذان : أرحب… حين تتحول النكبة إلى وعيٍ وطني

منذ 19 ساعات

 لم أتصور أن تلك الجرائم حدثت في أرحب، رغم أني من الصحفيين المتابعين لكثير من الانتهاكات التي قامت بها جماعة الحوثي الإرهابية

لا أدري، هل هو نسيان بسبب موجات الأحداث المتعاقبة التي جعلتني أتناسى هذا الكم الكبير من الجرائم، أم أن فظاعة المشهد تفوق الذاكرة

شاهدتُ اليوم في ريبورتاج قصير عُرض في فعالية لنكبة مديرية أرحب، الكم الهائل من الجرائم التي تعرضت لها تلك القبيلة: قتل الطفولة وكبار السن دون رحمة، والنساء، وتدمير كلي لبيوت الله، وتجريف كامل للسكان، وترهيب بشكل فظيع رأيته في زاوية قصيرة موثقة فيديو، بأصوات مرعبة تجعلك تذرف الدموع دون شعور

تراجعت قليلًا إلى تاريخ الجماعة، ثم دخلت في تفكير عميق، وأنا أستحضر أن هذه الجماعة يبدو أنها درست القبائل بكاملها، وماذا تفعل في كل منطقة حتى تُرهب أبناءها وتُخضعهم

كانت أرحب بعد مناطق عمران، التي يظن الكثير أن محافظة عمران، وقبلها محافظة حجة التي ظلت سنوات تقاتل، دفعت عمران بكل ثقلها لعلها تتنفس وتنهي الخطر الإرهابي القادم الذي سيجتاح اليمن بكاملها

لكنها تُركت وحيدة، وكان للأسف الإعلام يساند الإرهاب الحوثي، بعضهم كان لا يُدرك خطر هذه الجماعة بسبب الكثير من التفاصيل والأحداث التي مرت باليمن، وبسبب الحزبية التي أطاحت بالبيت اليمني

شيء عجيب ومذهل، بل تزداد قتامة الصورة، أن تجد اليوم من يُسوق لهذه الجماعة أنها يمكن أن ترزح للسلام، تاركًا ماضيًا أسود من القهر والألم وجراحًا غائرة لا تندمل، بل لا تزال المليشيات ترتكبها، في الوقت الذي نُسوق نحن للسلام متناسين تاريخ الجماعة القريب

اليوم، وأنا أشاهد في قبيلة واحدة هذا الكم الهائل من الإجرام، إلا أني نسيت وتناسيت، وأنا كصحفي عايش الأحداث وكاتب في تاريخ هذه الجماعة الإرهابية

هل أني تناسيت بسبب الأحداث المتوالية، أم أننا نحتاج كمًا كبيرًا متدفقًا لهذه الأحداث كي نُعرّف بها أبناءنا؟أن تُدرّس هذه الأحداث في الجامعات والمدارس، وتُسخّر مطابع، وتُقام ندوات بشكل مستمر، وتُقام مجالس ومقاهٍ لهذه الأحداث، وأيضًا على كل محافظة أن تفتح مجالس ثقافية لأبنائها لتتناول هذه الجرائم، ويُعرّفون أبناءهم بها، ويدعون الإعلام، ويُحرّكون المياه الراكدة

علينا أن لا ندفن تاريخًا من القهر، وأن نُعرّف بتاريخ هذه السلالة، وأن لا نجعلها أيامًا عابرة، كما عملنا مع سبتمبر العظيم، الذي لم نتعرف على تفاصيله بالكامل، بل تعمدت السلالة التي عادت من الظلام أن تُخفي جرائمها

ثم ما لبث أن وقعنا في الفخ السلالي الإرهابي المجوسي، بعد أن تخللت في مفاصل الدولة، وسُخّر لها القضاء والمنح والمنظمات الدولية

فعادت بالانتقام، وقتلت أكثر من ستين ألف جندي بداية حروبها، ولم نتعض، بل استطاعت عبر الكحلاني والشامي والمؤيد، وكثير من البيوت التي كانت في الدولة، أن تُغذي صراعًا سياسيًا بين الأحزاب، أدى إلى انقضاضها على الدولة

اليوم نكتب لنوعي الناس، لنذكر، نشارك، نعمل جميعًا لتوعية الشعب اليمني الذي لا نريد له أن يعود مرة أخرى، وأن يُخدع بالأحلام، وأن يكون واعيًا من أجل اليمن أولًا بلا حروب، وأن تتحقق العدالة الانتقالية

لم تكن نكبة أرحب مجرد حادثة عسكرية في سياق حرب، بل لحظة كاشفة سقط فيها القناع عن مشروع لا يعرف إلا القتل، ولا يجيد سوى الهدم، ولا يعترف باليمن إلا ساحة نفوذ وسلطة

أحد عشر عامًا مرّت، وما يزال المشهد حاضرًا: بيوت مفجرة، مساجد مهدمة، نساء ثكالى، وأطفال كبروا في مخيمات النزوح

غير أن ما لم تنجح فيه المليشيا الحوثية، هو كسر إرادة أرحب، أو محو هويتها، أو دفعها إلى الاستسلام

في مأرب، حيث اجتمع أبناء أرحب لإحياء الذكرى، لم يكن الحدث مناسبة خطابية، بل فعل مقاومة بحد ذاته

كلمات رئيس هيئة الأركان العامة لم تكن مجرد استذكار، بل قراءة استراتيجية لمعنى الصمود القبلي حين يتحول إلى ركيزة وطنية، وحين تصبح القبيلة حامية للهوية لا بديلًا عن الدولة

شهادة وكيل أول محافظة صنعاء أعادت تسليط الضوء على حقيقة المليشيا التي تبدأ بالصلح وتنتهي بالمقابر، وتنقض العهود، وتستبيح الدماء، وتحوّل المساجد إلى أهداف عسكرية

وهي شهادة تختصر جوهر الصراع: مشروع حياة في مواجهة مشروع موت

حديث ناشطات من أرحب، شيوخ، قادة عسكرية، تحدثوا معي عن أرحب ليست قبيلة طارئة في تاريخ اليمن، بل جزء أصيل من مسار مقاومة الاستبداد منذ قرون، وأن من قاتل هذه السلالة عبر التاريخ لم يفعل ذلك إلا دفاعًا عن الحرية والكرامة

اللافت في هذه الذكرى، ليس حجم الألم فحسب، بل اتساع الوعي

فالنساء اللواتي تحدثن عن الانتهاكات لم يقدمن أنفسهن كضحايا فقط، بل كشاهدات على الجريمة، وحاملات لذاكرة لن تُمحى

والناشطون الحقوقيون لم يرفعوا شعارات، بل أكدوا أن كل جريمة موثقة، وكل انتهاك محفوظ، وكل دم له صاحب

أرحب اليوم ليست مجرد مديرية منكوبة، بل رمز لقضية أكبر: قضية وطن اختُطف، لكنه لم يُهزم

وفي كل ذكرى، يتأكد أن النكبات في اليمن لا تُنسى، بل تتحول إلى وعي، وإلى عهد، وإلى طريق طويل لا ينتهي إلا باستعادة الدولة