أحمد عباس : القومية حين تفقد معناها
منذ 2 ساعات
أحمد عباس سكرتير تحرير أول لم يكن المؤتمر القومي الذي عُقد في بيروت بقيادة حمدين صباحي مجرّد تظاهرة فكرية باهتة، وإنما كان مرآة عاكسة لأزمة عميقة يعيشها التيار القومي العربي منذ عقود
غير أن الصدمة الكبرى لم تكن في الشعارات المكرّرة عن المقاومة، بل في المشهد الذي ظهرت فيه كلمة عبدالملك الحوثي، زعيم الميليشيا الحوثية التي تمزّق اليمن، البلد الذي يُنظر إليه على أنه مهد العرب الأول، وتعلن انتماءها لمحور غير عربي، لتُبث من على منصة يُفترض أنها قومية
هنا انكشفت المفارقة: كيف يمكن لمؤتمر يحمل اسم “القومي العربي” أن يمنح صوته لجماعة تُجسّد نقيض القومية فكراً وممارسة؟ كيف تتحوّل القومية، التي تأسست على رفض الطائفية والإقليمية، إلى غطاء سياسي لمشروع مذهبي يتبنّى خطاب الولاية ويستمد مرجعيته من خارج الجغرافيا العربية؟ ما حدث في مؤتمر بيروت ليس حادثاً معزولاً، وإنما هو تتويج لمسارٍ طويل من التآكل الداخلي الذي ضرب المشروع القومي منذ هزيمته التاريخية عام 1967
في تلك الحرب، لم تُكسر الجيوش العربية فقط، بل انكسر الحلم ذاته في حياة قائده جمال عبد الناصر، الذي عاش السنوات التالية مثقلاً بالخيبة وهو يرى مشروعه يتهاوى
كانت نكسة 67 إعلاناً عن هشاشة البنية الفكرية والتنظيمية للمشروع القومي، وعن افتقاره للنضج المؤسسي الكفيل بضمان استمراره بعد القائد
ومنذ تلك اللحظة بدأ الانحدار، وتحوّل الحلم القومي من مشروع تحرر عربي شامل إلى شعارات متوارثة، ثم إلى واجهة سياسية يمكن لأي تيار أن يتخفّى خلفها ليبرّر تحالفاته
واليوم، بعد أكثر من نصف قرن، نرى القومية وقد تحوّلت من نداء للوحدة إلى مظلة تتسع للطائفية، ومن خطاب استقلالي إلى تبرير الارتهان لمحور إقليمي تقوده إيران، لا هدف له سوى تمزيق الدول العربية
إن استضافة عبدالملك الحوثي لم تكن خطأ عابراً، بل تجلّياً صارخاً لانحراف المسار
فحين تُفتح المنصة القومية أمام رجل يفتك بالدولة الوطنية في اليمن ويهدد المحيط العربي برمته، فإن المعنى الأصلي للقومية يُنتزع منها
إنها لحظة سقوط رمزي لفكرة وُلدت لتوحيد العرب ضد الاستعمار، فإذا بها اليوم تمنح الشرعية لمن يمزّق أوطانهم باسم الولاية أو الممانعة
لقد بدا حمدين صباحي، أحد أبرز رموز التيار الناصري، وكأنه يوقّع شهادة وفاة القومية العربية بصيغتها القديمة
فالقومية التي فشلت في تجديد نفسها بعد 1967، ولم تُنتج مشروعاً مؤسسياً عقلانياً بعد رحيل عبد الناصر، أصبحت اليوم واجهة يمكن أن تُستخدم لأي مشروع يتلبّس عباءة المقاومة ولو كان غريباً عن روح العروبة
إن جوهر الأزمة القومية اليوم لا يكمن في ضعف التنظيمات أو انحسار التأييد، بل في ضياع المعنى ذاته
فحين تُختزل القومية في الشعارات، وتفقد استقلاليتها الفكرية أمام المحاور الخارجية، تصبح مجرد صدى لماضٍ لم يكتمل نضجه
فالقومية التي لا تحمي الدولة الوطنية، ولا تصون سيادتها، ولا ترفض الوصاية الأجنبية، ليست سوى قشرة لفظية لمحتوى فقد روحه
وربما آن الأوان أن يعترف القوميون العرب بأن ما انهار في 1967 لم يكن جيشاً فقط، بل بنية فكرية لم تكتمل، لم تتجاوز شخص القائد، ولم تتحول إلى مشروع مؤسساتي حيّ
واليوم، بعد مرور أكثر من نصف قرن، ما زال ذلك الفشل الأول يُلقي بظلاله، فبدلاً من أن تستعيد القومية دورها التوحيدي، نراها تتنازل عن ذاتها وتتحالف مع نقيضها
وكما تحوّلت الكثير من أحزاب اليسار إلى شعارات ومقرات فارغة، تجمّع القومجيون العرب في قاعة واحدة يستمعون لخطاب المسخ عبدالملك الحوثي
ولا غرابة في ذلك، فنحن في زمن المسخ، كما قال عادل إمام في أحد أفلامه