المـرأة السـجينة: لحظات بَائسة في سراديب النسيان

منذ سنة

تحقيق ـ بلال الطيبنساء مَسكُـونَات بـالخَـوف، الغَـوص في تفاصيـل حياتهـن البطيئـة وبسـرعة ليس سهلاً، بصعوبة اجتـزت ذلك الحـاجز، تمَلَكني الحـزن وأنا أتعرف على قِصصهن الواحـدة تلو الأخـرى، ظروف اجتماعية واقتصادية قاهـرة ألقت بهن إلى فلوات التيه، وضيق السجن، تقطعت بهن السبل، وانقطعت جسـور التواصل، يعشن خلف القضبان حيـاة قاسية، الوقت يمر ثقيلاً بطيئاً تضيع فيه قيمة الأيـام، وحلاوة السنيين، مازالت حكايـات شتى من أوجاعهن ملفـوفة بخطوط حمـراء طي الكتمان، تقابلها حكايات مبثوثة خرجت للتـو عن حـدود الصمت، لا أستبعد أن تكون عُرضة للمـزايدين الباحثين عن أي شيء ينتقص من قيمـة الإنسان والوطن

====================================تُهم أخلاقيةتأكد لي أنَّ غالبية نزيلات السجن المركزي بتعز ريفيات أميات لا يقدرن ما يملكن، ولا يفقهن أشياء عن محظورات الحياة؛ بدليل أن أكثر من نصفهن تهمهن أخلاقية (زنا أو اختلاء وهروب)، فيما تهمة القتل أو الشروع به، والسرقة تنحصر في عدد محدود منهن

 كانت البداية مع السجينة أ

س

غ التي تحدثت ببرأة طفلة، وسذاجة مجنون، ستة أشهر من عمرها الغض مضت وهي حبيسة جدران مُغلقة، وكما تتذكر من انتهك عرضها جيداً، فإنها بالمقابل لا تجيد حسبة الأيام الخوالي؛ فعمرها كما تجزم لا يتجاوز 15 ربيعا (إدارة السجن نفت ذلك)، ولو كان كذلك لكان مكانها دار الأحداث، ما زالت قضيتها تروح وتجيء بها من وإلى المحكمة، تستجدي رحمة القضاء في إثبات أبوة ولد ولدته سفاحاً، نكران الأب المُغتصب لم يدم طويلاً، يوم التقيتها كانت عائدة من المحكمة وفي نفسها شيء من انتصار، لقد انتصر لها الشهود، وحق لها أن تستعد ليوم طلاقها من السجن طبعاً

 يشاركنها ذات التهمة السجينتان القاصرتان (عين، وصاد) الأولى عمرها 15 عاما، والأخرى أكبر من ذلك بقليل، مكانهن الطبيعي والقانوني دار الأحداث، والحاصل أن حيلهن المسنودة بانعدام وثائق الإثبات قد انطلت على الجهات الضبطية؛ وإن بقين أصلاً في ذلك الدار فلن يسأل عنهن أحد؛ فيما يبقى الإفراج عن أحدهن مشروط بـ 20,000 ريال كفالة، هي عاجزة حتى عن إحضار فلساً واحداً منه

إعدام ميتياما في السجن مظاليم، قد تكون (س

س) أكبر السجينات سناً - هكذا خيل لي - حكايتها تدور في البوتقة ذاتها، اثنتي عشرة عاماً مضت وهي تنتظر إعدامها المُرتقب، ليست هاربة من الموت؛ بل تتمناه بكل جوارحها، هكذا قالت، وأضافت: إن إعدامها الحقيقي حدث في اليوم الأول لدخولها السجن، وأصل الحكاية أن ثمة خلاف حدث بين زوجها وأبناء عمومته، وما أن تجرأت وصدت إحدى اعتداءاتهم، حتى أردت أحدهم قتيلاً، حُكم عليها بالإعدام، وعلى الزوج بالسجن، ليقتل هو الآخر بعد الإفراج عنه مسموماً في مدينة الحديدة، كغطاء للجريمة الأخيرة، أستمر غرمائها بالمطالبة بإعدامها مُستعينين بضعفها، وتخلي الجميع عنها

حسب تأكيدات من داخل السجن أن الرغبة في الانتحار تبقى طلباً ملحاً عند بعض السجينات لفظاً لا تأكيداً، عدا السجينة (ع

أ)، فهي أكثرهن إصراراً على الانتحار ليس هروباً من وضع السجن؛ بل قهراً من ظلم أهلها الذين أخذوا ولدها بمجرد خروجه إلى وجه الدنيا، وأخفوه

 جزء من تلك الرغبة ما زالت تلاحق السجينة (م

ع) المُتهمة بقتل ولدها، هي كما تصف مُتهمة قبل ذلك من الزوج بأن الولد مُش ابنه، متخذاً من ذلك مبرراً في التقصير في جانب النفقات، قُتل الولد مَخنوقاً فيما أصابع الاتهام هذه المرة طالت الأب والأم معاً

نظرة مضادةهناك صورة نمطية مغروسة في مخيلة كثيرين، تشكلت مع مرور الوقت، والتلقي المفتوح للأفلام السينمائية الجريئة التي جعلت من سجون النساء وكراً للقسوة، والقهر، والتحرش، والاستعباد، أثرت هذه الإشكالية مع الأخت كريمة العراسي وزميلات لها متطوعات من قبل الهلال الأحمر، في مساعدة السجينات وإخراجهن من الخواء النفسي، والعجز الاجتماعي الذي يعشنه، وفوق هذا وذاك تأهيلهن مهنياً وحرفياً حتى ينتصرن على واقعهن المُر، وقد أجمعن أن تلك الصور السينمائية لا تتكرر في واقعنا المعاش، وأنَّ سجينات بلادي طيبات ضعيفات لا حول لهن ولا قوة

  بعد ذاك استرجعت مع كريمة وزميلاتها لحظات قدومهن قبل خمس سنوات لأداء مهامهن الجليلة في السجن، كان اليوم الأول صعباً فثقافة الإلغاء وتقمص دور القاضي والجلاد مُعشعشة لحظتها على الجميع، ومع مرور الوقت انتهت تلك النظرة القاصرة، والنظرة المضادة أيضاً، وتحولت إلى تعامل راقي قائم على المودة والمحبة والانسجام

 أحسن حالاًما أن نثرت تساؤلاتي أمام مكتب مدير عام السجن المركزي بتعز المقدم محمد الكول، حتى فاجأني بالقول: لن أكون مبالغاً أن نزيلات السجن عندنا يحصلن على دعم ورعاية

لن يجدنه حتى في بيوتهن وبين أهليهن

، وحين وجدني الكول مُستغرباً من توصيفه المُتباهي حد الكمال، حاصرني بأسبابه المُقنعة، فعدد نزيلات السجن لا يتجاوز 34 سجينة، مقارنة بـ 1250 سجين ذكوري، وهو رقم  صغير جداً، وغير مُربك، تسهل متابعته وخدمته دون إخلال، يضاف إلى ذلك أن الجمعيات المُهتمة بحقوق الإنسان مثل المعهد السويدي الألماني للسجينات، واتحاد نساء اليمن، وعدد من رجال البر والخير، خدماتهم تتوارد إلى السجينات باستمرار ودون انقطاع لعديد اعتبارات دينية وأخلاقية، وعلى النقيض من ذلك يبقى الاهتمام بالجانب ألذكوري موسمياً ومحدوداً، ينقطع طول العام ولا يأتي إلا دفعة واحدة وفي شهر رمضان الفضيل

وأضاف الكول أن الاهتمام بالسجينات لا يتوقف عند هذا الحد وحسب، فالسجن دار إصلاح وتهذيب، وهم في هذا الإطار يعملون جاهدين على تدريب وتأهيل جميع النزيلات، وإشغال وقت محبوسيتهن بما يعود عليهن بالفائدة والنفع، ولديهم من أجل ذلك مدرسة للتعليم، ومحو الأمية، وتحفيظ القران الكريم، ومشغل تدريبي للخياطة والتطريز، وتعليم المشغولات اليدوية

وبالنسبة لعدد الطاقم الأمني النسائي المصاحب فإن عددهن يقترب من نصف السجينات، يؤدين مهامهن الموكلة إليهن باقتدار

أمينه القدسي إحدى هؤلاء، حدثتني عن حال السجينات وحالهن، فهي وزميلاتها يتناوبن طول الوقت على حراسة سجن النساء من الداخل، ومرافقة السجينات إلى المحكمة، كما نفت وجود أية صعوبات تعترض مسار عملهن

ما أن وصفت أمينة السجينات بالمساكين حتى أكدت استحقاقهن للعقاب، وأتبعت الإدانة بدليل ملاحظتها المستمرة لأغلبهن باكيات نادمات طالبات الغفران، عدا سجينة واحدة تلبث على الدوم في صب دعواتها المكلومة لكل من ظلمها، تهمتها الاختلاء، وفوق هذا تطالب باستمرار بأن يجرى لها الفحص الطبي فهو - حد إلحاحها - سيؤكد عذريتها

 همسات خجولةتؤكد غالبية الدراسات المهتمة أن سجون بلادي ينقصها الكثير، فهي خالية الوفاض من الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، ومبانيها وعلى الأخص سجون النساء بحاجة إلى إعادة نظر في التصميم والتجهيزات، وتشكو من محدودية الخدمات، بالإضافة لعدم وجود أية برامج تشمل توفير خدمات الرعاية والتأهيل والتدريب والتوعية والتثقيف، سواءً للسجينات أو لأطفالهن المتواجدين معهن، مما يشعرهن بوطأة العقوبات، ويزيد من اتساع الهوة بينهن والمجتمع، وهو ما يعكس نفسه على بقائهن في عالم الجريمة، وتفضيلهن لممارسة الانحراف

تُصر هنا كريمة العراسي على توجيه الدعوة لمصلحة السجون بالعمل على إيجاد مُصلحين نفسين واجتماعين لدعم السجينات، فهي وزميلاتها بفعل تواصلهن المستمر مع السجينات كُن يتقمصن دور هؤلاء المصلحين في بعض الجوانب، وقد لمسن تحسناً كبيراً في التعامل، والأداء والإنتاج، كما لم تخفِ استغرابها من تلك النداءات والمناشدات التي تتردد بين الفينة والأخرى، مطالبةً بالإفراج عن سجناء مُعسرين ذكور، أو ممن قضوا ثلثي المدة مهما كانت قضاياهم وكيفما كانت، في حين لم يحصل أن وجدت مناشدة شاردة تطلق لإطلاق سراح سجينة واحدة، وإن وجدت فهي محاولات من بعض الأسر لا تعدو أن تكون همسات خجولة تكرس الخطيئة والظلم

الزواج من السجيناتالسجينة امرأة لها عواطفها وأحاسيسها الفياضة، من حقها أن تتزوج، وتنجب، وتعيش حياتها كما الآخرين، ثمة سؤال مُتصل تبادر إلى مُخيلتي وأنا أجوب أروقة السجن المركزي بتعز: هل من الممكن أن تتزوج إحداهن سوأ كانت عزباء أم أرمل من زميل لها في السجن، أو من مُنقذ يأتي بحصانه الأبيض من خارج الأسوار؟!لم تكن الإجابة سهلة، حتى وإن حصل الطلب بمقدماته المعروفة، وتحقق القبول، فالعرس واللقاء ألحميمي لن يتم إلا هناك خارج السجن، قد يقول القائل أن القانون يجيز الخلوة الشرعية للمساجين، ولكن: هل للنساء المتزوجات من ذلك نصيب؟!

 ما أن ولد هذا السؤال، حتى جاءت إجابة أحد مسؤولي السجن مبهمة غير مشبعة بالاستدلال القانوني الدامغ، لأن العُرف القبلي هو السائد، وهناك سجينات متزوجات، ولم يحصل أن تقدمت إحداهن بذات الطلب؛ أو جاء الزوج من خارج السجن يبحث عن حقه الشرعي؛ ووضع الرجال في هذه الحالة أحسن بكثير، وغرف الخلوة الشرعية جاهزة لكل السجناء المتزوجين

تعمقت في ذات الجزئية أكثر مع المحامي عبد الحكيم الحاج، وبدوره قال أنه في حال وجود حالات مشابهة وولي أمر متبرئ كما هو شائع في مجتمعنا، فالعقد هذه المرة يتم بواسطة المحكمة، فيما يتكفل القاضي بتحديد الشرط والمهر والكسوة، لافتاً إلى أن الراغب في الزواج يتقدم بطلبه إلى إدارة السجن عبر النيابة، فيما تتكفل الإدارة بمعرفة رغبة الطرف الآخر السجينة عبر طاقمها النسوي، هذا إذا كان المُتقدم يعرفها سلفاً، وفي حال العكس يتم الأمر بالصورة ذاتها مع فارق أن إدارة السجن بطاقمها النسوي تتكفل بالكشف عن الراغبات بالزواج، على أن تتم إجراءات التعارف بين الطرفين، إما في المحكمة أو بعد خروج السجينة

وما أحب التنبيه إليه أن أغلب الشواهد الحية على زواج السجينات قليلة جداً؛ بل لا تكاد تذكر في غالبية السجون اليمنية، خاصة وأن العُنوسة ضاربة جذورها في مجتمعنا اليمني ككل، فما بالكم بالزواج من سجينات هن في نظر الجميع مجرمات منبوذات، ومحكوم عليهن بالإعدام سلفاً

الجرح الغائرالعفو عن أي امرأة خرجت من السجن أياً كانت جريمتها تدور في بوتقة الفرحة التي لم تكتمل؛  لأن هذا الخروج يتحول ما بين ليلة وضحاها إلى جريمة أخرى لا تغتفر، كثيرات هن السجينات اللاتي خرجن من السجن مكسورات الأنوف، ليجدن في الأسرة والمجتمع سجن كبير ذو قضبان أبدية لا ترحم، فيه ألسنة لاذعة، ونظرات ازدرائية مَشُوبة بالشك والظلم والقهر، لا تتوقف عن ملاحقة هذه أو تلك، عار الجريمة يبقى فوق رؤوس الجميع، تُوصد أبوب الحياة الكريمة ومُتطلباتها، فيما أبواب الخطيئة مَفتوحةٌ على مصراعيها، وليس بمُستغرب أن تَجد مِن السَجِينات أنفسهن من دخلن السجن للمرة الأولى ظلماً، ليكون هذا المجتمع سبباً في عودتها إليه أكثر من مرة، ما زالت حكاياتهن تختزل مساحات شاسعة من الوجع، إنه الجرح الغائر الذي لا يندمل، والقسوة المفرطة التي لا حدود لها

 التقيت بمساعدة أحد المحامين إحدى هؤلاء السجينات المفرج عنهن، وإن كان حديثها الأول للصحافة مشروط بعدم ذكر الاسم أو التهمة، وما يهمنا وبغض النظر عن إصرارها المبحوح أنها دخلت السجن ظلماً وبتهمة ملفقة، إلا أنَّ تركيزنا يبقى على الأثر النفسي والاجتماعي الذي لحق بها من ساعة القبض عليها وولوجها السجن، وصولاً إلى الإفراج عنها المتبوع بفاجعة التخلي والنكران من الأسرة وكل المجتمع، ثلاث سنوات قضتها في السجن لم يسأل عنها أحد، قالت إن حياة السجن ليست بتلك القسوة التي يصورها الإعلام، وأحاكي الناس، ففظاعة النكران لا تضاهيها أية قسوة، ويوم أطلق سراحها لم تفرح؛ بل تمنت على روتين الإفراج أن يطول ويطول، وعلى عزرائيل أن يأخذ روحها؛ ولو لم تكن مُتعلمة وتفقه أشياءً من قهر الحياة، وغدر الزمن، لكان حالها الآن أسوأ بكثير، لقد ذابت في زحمة المدنية، وأوجدت لنفسها عملاً في إحدى محلات الاتصالات، وتواصلت مع الجميع دون أن يعرف أحد حقيقتها

إلى أيــــــــــن؟(نادية

م) هي الأخرى سجينة مُفرج عنها، تلقت نبأ انتهاء محبوسيتها بوجوم شديد، ما أن تبادر إلى مسامعها الخبر، حتى عادت إلى عنبر السجن المركزي في صنعاء، وهي تبكي وتتوسل قائلة: إلى أين أخرج

لا أريد الخروج

، حكاية نادية تناقلتها عديد وسائل إعلامية على اعتبار أنها ليست السجينة الوحيدة التي ترفض الخروج من السجن، لذا فالبقاء في السجن أفضل بكثير كما تقول نادية، كونها لا تعرف أين ستذهب؛ لأن أسرتها ترفض رؤيتها، وقد سبق وأن حذروها من مغبة العودة إليهم، حتى لا يعود بعودتها الحديث عن الفضيحة التي سببتها لهم؛ بل أنهم هددوها بالقتل إن فعلت

يقول المحامي عبد الرحمن برمان أن السجينة تعامل كمجرمة بمجرد القبض عليها إلى أن تموت، وهذا للأسف الشديد عين الظلم، والأصح حسب برمان أن لا نكيل التهم هكذا جزافاً، مستدلاً بالقاعدة القانونية أن المُتهم بريء حتى تثبت إدانته، والمجتمع هنا يقسوا ويفرط بالقسوة، وهو تصرف عده برمان مُحفزاً رئيسياً لأسرة هذه السجينة أن يتخلوا عنها سواءً كانت بنتاً أو أخت أو زوجة، ويعلنون للملاء أنهم ليسوا على صلة بها، وهو الأمر الذي له مردود قاسي على السجينة نفسها، فتصبح في وضع نفسي سيئ للغاية، تفقد بسببه الدافع المعنوي، فتتحول من حالة المواجهة والدفاع إلى حالة الانهيار

 الإجرام الحقيقيعديد جمعيات ومنظمات مُجتمعية مازالت تجاهر طول الوقت بأنها خير ساند وداعم لأوضاع السجينات وتلقفهن من براثن السجن والمجتمع، وهنا في سجن تعز يبقى اتحاد نساء اليمن هو الحاضر الأبرز في هذه الجزئية تحديداً، سواء بشهادة القائمين على السجن أو الاتحاد نفسه، فهذه رمزية الإريانى - رئيسة الاتحاد - أكدت ذلك، وأضافت أن جهودهم جبارة في مساندة السجينات المتضررات من هذه الجزئية، وقد أنشأوا لأجل ذلك مركزاً لإيواء وإعادة تأهيل السجينات، وأن عدد المتواجدات فيه يخضع لاعتبارات عدة، فهو أحيان يزيد وأحيان ينقص، وحددت الارياني المدة التي تقضيها الواحدة منهن في ذات المركز بأنها لا تقل عن ستة أشهر، يتم خلالها تأهيل السجينات التأهيل الجيد من أجل إدماجهن في المجتمع، وتهيئتهن لإعالة أنفسهن من خلال كادر نسوي متخصص، كما أشارت إلى وجود حالات تم تزويجهن عن طريق المركز، وحالت أخرى تم الصلح بينهن وبين أسرهن

مُشكلات مُعقدةكما ذهب عدد من الأخصائيين الاجتماعيين إلى القول أن تخلي الأسر عن بناتهن بعد دخولهن السجن أو خروجهن منه يرجع إلى اعتبارات عدة، لعل أهمها أن هؤلاء النسوة كائن ثانوي الدور والوظيفة، ومحاسبتهن على أخطائهن أمر لابد منه، مما يجعلهن يعشن دوماً تحت الضغط والتهديد، سواء أكانت على صواب أم خطأ

الدكتورة أنيسة دوكم مدير مركز البحوث النفسية في جامعة تعز ذهبت لمثل ذلك، وزادت عليه: أن تلك الظاهرة جزء من ذلك الظلم الذي كرسته الثقافة الذكورية المستقوية والمستبدة في المجتمع، وأنها ومن خلال زيارات سابقة للسجن أطلعت عن قرب على حال السجينات المقلق، حيث الآثار النفسية غير العادية بادية وبوضوح، فلا أمل، ولا مستقبل، ولا مساندة اجتماعية، وهو الأمر الذي يقود إلى نتائج كارثية على السجينة ذاتها وعلى المجتمع ككل

 تَعز غَير بعيداً عن التعميم المُشاع حول هذه الظاهرة تبقى تعز استثناء فريد ومميز، نزولي الميداني إلى أروقة السجن كان مُكمل مُهم لاستقراءات سابقة غير دقيقة تمت خارج الأسوار، وكانت الحصيلة خير دليل في إزالة اللبس، وإثبات الحقيقة عن قُرب، ومما تأكد لي أن عدداً قليل من السجينات يتجرعن ذات البلوى، وهو باعتقادي مؤشر إيجابي مقارنة بحال السجينات في باقي المحافظات

كريمة العراسي إحدى مُتطوعات الهلال الأحمر أعطتنا صورة صادقة وأكثر واقعية من داخل سجن النساء نفسه، فثقافة التخلي والنكران موجودة هنا ولكن بنسب متفاوتة، ولعل الشيء الجيد - حسب وصفها - يتمثل بأن الأهل لا يتخلون عن بناتهم حتى النهاية، وفترة القطيعة هذه لا تدوم كثيراً قد تكون شهر شهرين خمسة أكثر، وهذا يعني أن غالبية السجينات عانين من ذلك ولكن بصورة مؤقتة

 أسباب خفيةالبحث في أغـور المسببات التي أدت إلى وصـول المرأة للسجن، قد يكـون ضرب من الطواف البعيد عن بؤرة البداية، ولو تأملنا الدراسات المُتاحـة في هذا الجانب جيداً، لأدركنا عمق الإهمال الذي كرسه الباحثون والمُهتمون في دراساتهم وأبحاثهم، فهم لم يتطرقوا لمثل ذلك؛ على اعتبار أننا مجتمع ريفي مُتخلف تطغي عليه العادات والتقاليد البائدة

قد يكون الباحث نبيل عبد الرقيب العديني أول من ركز على تفاصيل هذه الجزئية، فتلك العادات حد وصفه تعتبر مبرراً كافياً في عدم إعطاء المشكلة الاهتمام الكافي، مؤكداً على ضرورة وجوب دراسة هذه القضية في جوانبها المختلفة، كونها تشكل ظاهرة اجتماعية واقتصادية خطيرة لها آثارها السيئة في محيط المجتمع بوجه عام، وفي المحيط الأسري بشكل خاص، لأن المرأة نصف المجتمع وإيداعها السجن أمر يترتب عليه خسائر وأضرار اقتصادية واجتماعية خطيرة تمس المرأة نفسها قبل أن تمس المجتمع

اللجنة الوطنية للمرأة كان لها دور السبق في دراسة أوضاع السجينات في بلادنا عن كثب، وقد أعطت تلك المُسببات حيزاً لا بأس به في مُجمل تناولها المُستفيض، فكان الأمر أشبه بالعناوين اللافتة غير المشبعة بالدراسة والتحليل، ونبهت ذات الدراسة إلى أنَّ معاناة المرأة السجينة تبدأ من الأسرة، والمحيط الاجتماعي، وغلبة العادات والتقاليد السائدة التي تفرق بين الذكر والأنثى في المعاملة والتنشئة والحقوق، وأنها تعاني من  محدودية التمكين الاجتماعي والاقتصادي، ومحدودية المشاركة في الحياة العامة، وفي اتخاذ القرار، حتى تلك القرارات المرتبطة بحياتها ومستقبلها

 فجـــــوةفيما يجزم المحامي جمال محمد الجعبي بوجود فجوة كبيرة بين النصوص المجردة، والواقع المعاش، والضحية المرأة، مما يتطلب من الجميع العمل ردمها كجهد مُشترك بين الدولة والمجتمع بمنظماته وناشطيه، حيث يفترض في القوانين أنها تراعي وضع المرأة لاعتبارات فسيولوجية واجتماعية متعددة، الجعبي من خلال بحث له عن سجن المرأة

نظرة في النص والواقع تعمق كثيراً في دراسة تلك النصوص

وقد اتضحت تلك الفجوة التي قصدها حال تحليله لقانون الإجراءات الجزائية الذي يحوي أحكام متعلقة بسجن المرأة مراعياً لخصوصياتها، حيث تنص المادة 500 على أنه إذا كانت المحكوم عليها بعقوبة سالبة للحرية حبلى جاز تأجيل تنفيذ هذه العقوبة حتى تضع حملها وتمضي مدة لا تقل عن شهرين على الوضع، فإذا رؤي التنفيذ عليها وجب معاملتها معاملة خاصة ومناسبة لحالها

 فيما يرى العديد من العاملين في مجال القضاء والباحثين أن هذا النص لا يتم العمل به لأسباب تعود لشحة الإمكانيات والقصور في الوعي القانوني لدى القائمين عليه، وفي ذات الصدد ثمة إشكالية قائمة نبه إليها المحامي الجعبي وكثير من المهتمين تتعلق بعدم السماح بخروج المرأة من السجن عند انتهاء مدة العقوبة ما لم يتقدم أقاربها لاستلامها، على الرغم من وجود نصوص قانونية ملزمة تحض على ذلك

- فقرات من تحقيق مطول (ملف صحفي) نُشر في صحيفة (الجمهورية) 11 يناير 2011م