د/ إبراهيم محمد مهدي : قتيلة البؤس

منذ 10 أشهر

    على سفح تلة من تلال الوادي تتربع قرية آفاق، ويتوسطها عشها المتهالك، فكلما هب النسيم تناثرت أجزاؤها، وتبعثرت محتوياته، قبل عقد ونيف من الزمن خرجت آفاق إلى الدنيا على بساط عشها المهتري الممزق، خرجت بصيحاتها الحزينة التي ظلت ترافقها كظلها، خرجت إلى أفق ضيق، وضيق موحش، ووحشة مظلمة، فبدأت ترى نور الحياة الباهت، وظلمتها الموحشة، فلما بلغت خريفها الرابع اُنتزع  منها حضنها الدافئ،  وسُلب منها القلب الحاني، وأسلمها الزمن لواقع مظلم، ومجتمع ظالم فأخذت تترعرع بين قساوة القريب وشدته، وظلم المجتمع وشماتته، دميتها الكآبة، وألعابها أصناف عدة من الحرمان، كانت إذا استقرت بعشها تنغرس أنياب التعب  بجسدها الهزيل، وإن خرجت للأفق تنغمس  في نظرات المجتمع القاصرة، وتعامله القاسي، وسخريته المقيتة، فلا تجد  منه إلا ساخرا دنيئا، أو هازئا ليئما، أو متعالٍ مختالا، إلا من رحم الله!!  حُملت أثقال الجبال، وتحملت وطأة الحال، فعاشت غريبة بين أهلها، ويتيمة في عشها، فأصبحت أما لأبيها، وكافلة لأخوايها، ترعاهما بعناية، وتتحسس عنهما بدراية، فكانت أما رؤوما، وأختا حنونا، فكان لا يتنفس الصبح إلا بخطواتها البريئة، وقواها الهزيلة، تحمل بيديها الضعيفة ذرات القمح -إن وجدت بعشها- وتبذل كل قواها لصنع خبز متفحم؛ كي تتجنب العقاب، وتدفع عن نفسها العتاب، وتسد رمق أخويها، فإن لم تجد ما تسد به رمقها طوت بطنها، وقضت يومها جائعة بائسة، وحملت عصاها وهشت بها غنمها، فتجول في المرعى ببطن خاوية؛ لتشبع بطون مواشيها، وما أن تتربع الشمس في كبد السماء حتى تعود آفاق أدراجها فتدلف برجليها الهزيلتين إلى عشها لتجمع ما تناثر منه، وتقوم بواجبته، وحمل أتعابه

  فما أن تحاول التقاط أنفاسها حتى يحين موعد ورود الماء، فتحمل عصاها ودابتها؛ لجلب الماء من النبع الذي يقع أسفل التلة، فما كذبها النبع يوما، فكلما وردته عكس لها صورتها البائسة، ووجهها الشاحب  الذي بدأ الحزن ينقش في أجزائه تجاعيد البؤس رغم صغرها!فما أن تميل الشمس إلى المغيب، وتتوارى في خدرها، ويبدأ الليل بإيسدال لباسه وضرب حجابه؛  تعود آفاق لعشها المتهالك بقلب موجع، وجسد مثقل، وقوى منهارة، تفترش العراء، وتلتحف السماء، تعيد في مخيلتها تفاصيل يومها البائس، وأحداث مسلسلها التراجيدي، وتراجع كل ما حاط بها، أو حل بعالمها؛ فتبكي واقعها البئيس بكاء ثكلى فقدت وحيدها، وتندب حظها التعيس، وتظل تكتم تنهاداتها الموجوعة التي تخاف أن تجهر بها، فتغسل وجنتيها البريئتين بدموعها الطاهرة، ثم ترفع بصرها شاخصة إلى السماء تشكو واقعا مظلما، وعالما ظالما، وهكذا ديدنها وسيرتها

 *عاشت اثني عشر خريفا تصارع عواصف البؤس وشدته، وتكافح الحرمان ومرارته، وتكابد واقعا مظلما ومجتمعا ظالما لا يجيد إلا الشماتة، ولا يتقن إلا الهمز واللمز، ولا يجود إلا بالنفث والنفخ

 لم تعش طفولتها الأولى، ولم تذق دلال طفولتها الأخرى، تجرعت الشقاء بأنواعه، والبؤس بأصنافه، فلم تجد السعادة إليها طريقا، ولا الابتسامة إليها سبيلا، كان لباسها البؤس، ورداؤها العوز، ولحافها العناء، وزينتها الحاجة، وكساؤها الفاقة

 ماتت وهي تنفخ كير لهبها، وتحمل بين كفيها عجينة لم ينضج خبزها بعد

 رحلت قبل أن تكتمل طفولتها، وذبلت قبل يناعها!عاشت غريبة، وماتت مثقلة!!  -هكذا هم البؤساء في واقعنا المعاش يأتون غرباء، ويعيشون بؤساء، ويموتون غرباء، فلا يجدون مبشرا بقدومهم، ولا ناعيا لرحيلهم،  حتى الأقدام تتثاقل والمسافات تتطاول لموارأة جثمانهم؛ فالمجتمعات طغت عليها الأهواء فتأرجحت مكايلها، وبخست موازينها، وانحطت مقاييسها، فأصبحت نظراتها ذهبية، وهمساتها مادية، وغفواتها محسوبية،  بصرها من حديد، وسمعها ما يفيد! أصبح النفاق لها دينا، والرياء ديدنا، والمحابأة شرعة ومنهاجا!!! تبا لبني الإنسان عندما يتنصلون عن القيم، ويخلعون لباس الإنسانية، وينزعون رداء الرحمة؛ فيسود الغاب، وتطغى الأنانية، وتتغلب الوحشية!  رحمها الله، ولا أرانا الله وإياكم فقد الأحبة، وذهاب فلذات الأكباد، وذبول زهرات أطفالنا! وحسبنا الله ونعم الوكيل!