د. ثابت الأحمدي : البحر الأحمر في الاستراتيجيّة الإسرائيليّة.. قراءة على ضوء رؤية شمعون بيريز
منذ 4 ساعات
د
ثابت الأحمدي لم يكن رئيس الوزراء الصّهيوني الأسبق شمعون بيريز مجرد سياسي، كعادة رجال السياسة المعروفين بأنماطهم المتبادرة إلى الذهن؛ بل فيلسوف سياسة واقتصاد وفكر؛ كان مُنظّرًا كبيرا، وراسمَ استراتيجيّات واسعة، على الأقل كما يوحي كتابه الشرق الأوسط الجديد الذي حدد فيه المعالم الأساسية والخطوط العريضة لهذه السياسة، وذلك في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي
شمعون بيريز في كتابه هذا دمج الاقتصاد، بالسياسة، بالتقنية، بالسياحة، بالنقل، بمشاريع كثيرة، تجمع دول البحر الأحمر الثماني، كضمانة كبرى من ضماناتِ السّلام في المنطقة، وكاتجاه إجباري لا مناص منه للجميع، لتجاوز صراعات العقود الماضية، وللبدء بمرحلة جديدة من السّلام المستدام حد تعبيره!جاءت هذه الاستراتيجيّة من نظرةِ بيريز المفكر السياسي، والمنظر الاستراتيجي، أكثر منها من موقعه السياسي، كرئيس وزراء للكيان الصهيوني، كما يبدو؛ لأنها تتسم بالمرونة والواقعية إلى حد ما، وهي رؤية رفضها المتطرفون من الكيان نفسه، خاصّة وأن الرجل يؤكد بالقول: لا يمكنُ إقامة شرق أوسط جديد على أساس سياسي فقط
الاقتصاد من وجهة نظره رافعة سلام أخرى
هذه الاستراتيجية تأخر تنفيذها منذ ذلك الوقت، لأسباب عدة، من بينها تصلب اليمين الراديكالي داخل الكيان الصهيوني نفسه الذي يرفض هذه الاستراتيجية المرنة التي سار على نهجها خلفُ بيريز آنذاك إسحاق رابين، ودفع حياته ثمنًا لذلك، إضافة إلى مستجدات أخرى طرأت على المسرح الدولي، بعد ذلك، لعل أهمها أحداث سبتمبر 2011م وتداعياتها؛ لكنها اليوم قد بدأت، وفي أكثر من اتجاه، وأكثر من مسار، عبر شركاء مصالح، بعضهم وظيفيون وآخرون تربطهم مصالح مشتركة، في حدها المعقول، على الرغم من توحش الأيديولوجية الصهيونية التي لم تقدم أية طمأنة حتى الآن لشركاء المستقبل
! عمليًا
بدأت الاستراتيجيّة بالتنفيذ، وهي مستمرة مستقبلا، بمشاريعها العملاقة: موانئ، مطارات، مدن سكنية، مؤسسات أمنية وعسكرية، مشاريع تنموية
إلخ
أبعاد أخرىثمة بُعدان آخران في هذه الاستراتيجيّة فرضتهما متغيرات العشر السنوات الأخيرة؛ حيث لا نستطيع الحديث عن مضامين هذه الاستراتيجية وأهدافها البعيدة بمعزلٍ عن مستجداتِ السنوات الأخيرة، يتمثلان في ركيزتين اقتصاديتين كبيرتين، تنطوي كلٌ منهما على بُعد سياسي خالص، إلى جانب البعد الاقتصادي:الأول: خط الحرير الصيني البحري، الذي تتبناه الصين، والذي تم الإعلان عنه في سبتمبر 2013م
الآخر: الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي الذي تتبناه أمريكا وأوروبا، بدرجة رئيسية، والتحقت به دول إقليمية فاعلة، والذي تأسس- لا شك- رد فعل على الأول، ضمن صراعات اللاعبين الكبار، وقد تم استمالة الهند غربيا، وتم التوقيع عليه في سبتمبر 2023م، في مجموعة قمة العشرين في الهند، والذي وصفه موقع قناة الحرة الأمريكي بأنه قد يغير وجه التجاري العالمي؛ أي بعد عشر سنوات تماما على إعلان طريق الحرير الصيني
هذا البعدان-ـ على تناقضاتهما- يمثل لهما البحر الأحمر المتن المائي الأهم الذي يغذي البحر الأبيض المتوسط بتجارتيهما، وصولًا إلى أوروبا، أو قل: جسر العبور الأهم الذي يربط الشرق بالغرب، ويجب أن يكون هذا الجسر آمنا، لتسهيل حركة التجارة الدولية، والمرور الآمن
النظام الإقليمي والمشاريع المشتركةبالعودة إلى كتاب شمعون بيريز، المذكور آنفا، نقتطف منه هذه النصوص، كما وردت، للتأكيد على ما ذكرنا، يقول: إنه ولكي ننقذَ مستقبلَ الشرق الأوسط، ونؤمّنَ لمواطنيه الأمانَ المطلوب فلا يكفي تسوية الخلافات بشكلٍ ثنائي، أو حتى متعدد، فالمطلوب هو بناء شرق أوسط جديد
ومن منطلقِ المناطق فإنه يمكنُ لنا أن نبدأ في نقطة البحر الأحمر، فقد تغيرت شطآن البحر الأحمر من الزمن؛ حيث أصبحت مصر والسودان وارتيريا تقع على أحد الجوانب، فيما تقع إسرائيل والأردن والسعودية على الجانب الآخر، والبلدان هذه إنما تجمعها مصلحة مشتركة، بحيث يمكنُ القول بأنه لا يوجد هناك أسباب للنزاع، فأثيوبيا من بعد نظام منجستو، وارتيريا المستقلة حديثًا تريدان إقامة علاقات سليمة مع جاراتها، بما في ذلك إسرائيل، في حين أنّ مصر وقعت اتفاقية سلام بالفعل مع إسرائيل؛ أما الأردن والسعودية واليمن فتريد تأمين حرية الملاحة والصيد وحقوق الطيران
ويمكننا كخطوة أولى التركيز على القضايا الإنسانية، مثل التعاون في عمليات الإنقاذ البحري والجوي، وإقامة شبكة اتصالات للإنذارِ المبكر من المناورات البريّة والبحريّة، كما ويمكنُ الحفاظ على النظام الإقليمي من خلال المشاريع المشتركة، أبحاث، تطوير، مصادر الغذاء من البحر، وكذلك السّياحة؛ أما إقامة حلف استراتيجي فستكونُ خطوة ممكنة في مرحلة متقدمة
ص: 90
إن بناء الطرق، وتمديد خطوط السكك الحديدية، وتحديد المسارات الجوية، وربط شبكات النقل، وتحديث وسائل الاتصالات، وتوفير النفط والماء في كل مكان، وفقًا للاقتصادِ وليس السياسة، وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر سوف يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط
ص: 149
الموانئ ومناطق التجارة الحرةيمكن بناء ميناء إيلات- العقبة، المشترك عند مدخل قناة البحر الأحمر- البحر الميت
وستضم المنطقة الحرة صناعة خفيفة، ومراكز تجارية وخدمات ترفيهيّة وإدارية وتسويقيّة، وستكونُ هذه المناطق في المرحلة الأولى تحت سلطة البلدان التي تقع فيها، ولكنها في النهاية ستصبح خاضعة للإدارة المركزية الخاصّة بالمجتمع الإقليمي، وستتمتع بوضع إقليمي، وهذه أيضًا سوف تُسهم في استقرار الشرق الأوسط
ص: 154
ويقع خليج إيلات عند تقاطع إسرائيل والأردن ومصر، ولا يبعد كثيرًا عن حدود العربية السعودية، وهذا موقع مثالي من أجل إقامة مطار دولي رئيسي، يخدم البلدان الأربعة، وسيحول المطارُ الحدودَ إلى جسور، ويوحد الثقافات والمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والتجارية، والأهم من ذلك الناس، دون اعتبار للأصل، للدين، للجنسية، أو الجنس
ص: 158
اليمن في الاستراتيجيةوالوضع مختلف في حوض البحر الأحمر؛ حيث الظروف أصبحت مواتية، لتحويل البحر الأحمر إلى مياه زرقاء هادئة، وتُظهرُ الخريطة أنّ الشّواطئ الغربية للبحر مصفوفة ببلدان صديقة
عند مدخل البحر الأحمر تقع اليمن
إن من مصلحة اليمن الحفاظ على الأمن وحقوق صيد الأسماك في البحر الأحمر
فالبحر الأحمر له قيمة استراتيجية مركزية؛ لهذا فيمكنه أيضًا أن يصبح خليجًا للسّلام الحقيقي الشّامل، ويمكننا اتخاذ إجراءات تعاونيّة من شأنها أن تبني الثقة، مثل إنشاء شبكات إنذار مبكر متبادلة حول التحركات العسكريّة، مع الاقتصار على القوات العسكرية، والأسلحة المسموح بها، أو تنفيذ مشاريع مشتركة لإنقاذ صيّادي الأسماك والربابنة
إنني على ثقةٍ بأنّ البحر الأحمر يمكنُ أن يكونَ نقطة الانطلاق لاتفاقية مناسبة لمراقبة السلام، ويمكنُ للبحر أن يُسهمَ في السّياحة صيد الأسماك وقضاء الإجازات، وكذلك في أعمال نقل النفط والبضائع
ويُمكننا بناء طرقٍ طويلةٍ على طولِ شواطئه، وحفر أنفاقٍ لجر المياه، وتمديد خطوط أنابيب للنفط والغاز، وربط شبكات للكهرباء والمواصلات
كما يُمكننا أن نجعلَ من البحر الأحمر منطقة مزدهرة للتجارة، فالبحر الأحمر عبارة عن خليج طويل ضيق، ونظرًا لضيقه فإننا نستطيع أن نجسره بالسلام
ص: 165
خلاصة القولتجري اليوم عمليّة حرث جديدة للمنطقة، بمواصفات تخص اللاعبين الكبار، وبشروط المرحلة القادمة، بعيدا عن مصلحة أهل الأرض المحروثة الذين لم يكبروا بعد، بعد أن تم النظر إليهم كوريثٍ قاصر، أو كسفيه محجور، إذا ما استعرنا المصطلح الفقهي؛ حيث يحق للحاكم حجر تصرفات القاصر والسفيه، وتنصيب والٍ عليه، حتى يرشدَ ويؤوب لعقله، خاصة بعد تراجع التفرد المطلق للولايات المتحدة الأمريكية الذي استمر ما يزيد عن 20 عامًا، منذ العام 1990م، وحتى العام 2013م تقريبا؛ حيث بدأت أقطاب جديدة في البروز، أهمها الصين التي ترتبط محوريا بروسيا وإيران، اللاعبين الّلذَين برزا بقوة في السنوات الأخيرة، هذا المحور له تأثيره الكبير على مسرح السياسة الدولية، وعلى الاقتصاد الجديد، والحروب الجديدة، في ظل تطور رقمي مهول، يمضي للأمام كلمح البصر، لا مكان فيه للكسالى، ناهيك عن النائمين في أحلامهم الوهمية، أو المغفلين في صراعاتهم البينية، ونحن ذلكم: الكسالى، والحالمون، والمغفلون معا
!