د. ثابت الأحمدي : حواريّة نصفِ القرن.. إليَّ في ذكرى ميلادي الخمسين!
منذ 5 ساعات
د
ثابت الأحمدي نصفُ العُمرِ الأول تطلعٌ للمستقبل، والنّصفُ الآخر حنينٌ إلى الماضي
أدلفُ في هذه الليلةِ عتبةَ الخمسينِ من العُمر، في رحلة ممتعة لم تخلُ من الشّقاء، أو رحلة شاقة لم تخلُ من المتعة
! وهذه حياة أيّ إنسانٍ مهما كان، أو قل طبيعة الحياة، كما فصّلتها تعاليمُ الطاويّة الصّينيّة القديمة، ومنه استقى هيجل فكرته الأساسيّة التي عُرفت فيما بعد بقوانينِ الجدل الهيجلي، وتبنّتها الماركسيّة بعد ذلك
ــ يا رجل، دعك من هيجل وماركس، ما ذا تريدُ أن تقول في هذه الليلة تحديدًا؟ هل من جديد لديك؟نعم، ولا، في نفسِ الوقت
جديدي قديم، وقديمي جديد
ــ لا تزال في عنادك السّفسطائي المعهود
ثمة بقايا شيء من خفّةِ الأربعينيّ تسيطر عليك
اختصر
هذا جائزٌ وغير جائز
الحياةُ ذاتُها سلسلة طويلة، كلُّ حلقة مُتمِّمَةٌ لما قبلها ومُمهِّدةٌ لما بعدها؛ فالجديد آتٍ من القديم، والقديم متصلٌ بالجديد
ألم تسمع بنظريّة الفعل وردِّ الفعلِ، كقانون وجودي من قوانينِ الطبيعة، لا من قوانينِ الفيزياء فقط؟ ــ يبدو ألا فائدة من الحديث معك، تحومُ حول الفكرة من بعيد، لم تقترب بعد
قل شيئًا وإلا
في ذكرى ميلادي الخمسين لا أحتفل بما مضى من الزمن، إنما أحتفل بما تبقى من الزمن، وبما علمني الزمن، أحتفلُ بالماضي رصيدًا كيفما كان، وبالمستقبل حُلمًا كيفما سيكون
أعيشُ قلقي الوجودي المشروع، بشيءٍ من الرضا واللارضا معا
! إنّ سنواتي الماضية بقدر ما هي أوراقٌ تساقطت، هي- أيضًا- جذورٌ امتدت، بقدر ما هي ذكرى في الماضي، هي- كذلك- حضورٌ في المستقبل
أغادرُ هذه الليلة عَقد الأربعين، وهو عقد شيخوخةِ الشّباب، نحو الخمسين، وهو عقد شبابِ الشّيخوخة، يتجاذبني طرفان: شبابُ الأمسِ في عناد غاشم، وشيخوخة الغد في ثقة كبيرة
وفي ميدان كهذا ينتصر ضعفُ الشّيخوخةِ على قوة الشباب
ــ حسنًا، ها أنتَ فهمتَ المقصود، وبدأتَ الإجابة، لعلّ هذا من بوادرِ حكمةِ الخمسين
! وما ذا بعد؟ ــ نصف قرن من الزمنِ حملتُه، أو حملني، لا فرق
تعلمتُ فيه أنَّ الصّمتَ في حد ذاته لغة وموقف وفصاحة ونُبل
ــ يا رجل! عن أيِّ صَمتٍ تتحدث، وصفحاتُ الكتب والمواقع تمتلئ بثرثراتك، وها أنت الآن في هذه اللحظة تواصل الثرثرة، ثلاثون عامًا وأكثر وأنت تكتبُ، ألم يصبك الملل؟ ألم يأنِ لك أن تصمت بُرهة من الزمن؟! ــ يبدو أنك لا تعرف حقيقة الكتابة لمن عشقَها واتخذها مسلك وجود ودربَ حياة
!نعم، ثلاثون عامًا وأكثر، وأنا أذيبُ سنوات عمري حبرًا على صفحات الأيام؛ لأني أؤمنُ أنّ الكتابة ليست ترفا ارستقراطيا زائدا على معنى الحياة؛ بل هدفا ورسالة، نستنزفُ معها أنفاسنا الذائبة، نشعل بين لفيف الظلمة قبسا من النور والتنوير
نرمّمُ المعاني المشوهة ببلسمِ الوعي، وصولا إلى إنسان نيتشه
الكتابة ليست حرفة كما تتوهم؛ بل حياة خاصّة داخل حياتنا العامة
ظِلا في الهَجير، وكَـنًّا في الزمهرير
ــ واصل ثرثراتك إذن أيها الخمسيني، فإنّي مستمع ومستمتع
سأفعل، بعناد طفل في السّابعة، وبثقة شاب في الثلاثين، وحكمة شيخ في الثمانين، ولتستمع وتستمتع معي:أقفُ الليلة بثقةٍ على عتبة الخمسين، لا مثقلا بآثام الماضي، فأيٌّ منّا جميعًا لم يقع في الإثم، أو لم يقع الإثمُ عليه؟ ولا وجِلا من نوبات المستقبل، فأيٌّ منا- أيضًا- لا تقع عليه نوائبُ الشيخوخة بآلامها؟! أقفُ وسطا بين نشوةِ أفلاطون الحالم ومزاج المعري المتشائم، بين عدميّة نيتشه ووجوديّة سارتر؛ مستقرئا مسيرة نصف قرن بما لها وعليها
لا أتباهى بما أنجزتُه، إن كان ثمة إنجازٌ في الواقع، هذا واجبي الوجودي أصلا، ولا أخجلُ من أيّ خطأ وقعتُ فيه، فالأخطاءُ جزءٌ من مسيرتنا لا بدّ منها
ما الخطأ ــ في حقيقته ــ إلا الوجه الآخر للصّواب
في سباقِ الجيادِ الصّاهلة قد تضحك الحُمُر العرجاء على الخيلِ الأصيل الذي تأخرَ قليلا عن الخيل الفائز في مضمار السّباق؛ لكن في المحصّلة النهائيّة يبقى الحمارُ حمارا، ويبقى الجوادُ أصيلا، فلمَ الخجلُ إذن؟ أرأيت؟!!شواهقُ الجبال عُرضة لعواصف الرياحِ وقواصف البروقِ أكثر من بطون الأودية
لا تكترث للشانئين
الإنجازُ واجبك الوجودي، والخطأ احتمالك الإنساني
وتأكد: لن تنجحَ في خُطوة واحدة حتى تتعثرَ في عشر
ولو سألتَني عن أقصرِ تعريف للحياةِ لقلتُ لك إنها: الإنجاز
سرُّ الوجود الإنساني لا يكمنُ في البقاء حيًّا فقط؛ بل في العثور على شيءٍ نعيشُ من أجله
هكذا يقول ديستوفيسكي، وهكذا علمتني الخمسون
ــ تبدو حكيمًا بعض الشّيء؛ ما الذي غيّرَك بعد كلِّ سنواتِ طيشك؟حكمة التجربةِ لا أكثر
نكتسب المعرفة بالمحاولة والخطأ، هذا ما تقرره نظريّة عالم النفس الشهير ثورنديك
الحياة بطبيعتها ليست عدلا دائمًا؛ لكنها حكمة دائمة، نسعد بحلوها، ونتعلم من مُرّها، مع اللذة تنمو أجسامنا، ومع الألم تتعلم عقولنا
وأهَمُّ من طول التجربة استيعاب التجربة، حتى لو كنتَ في العشرين من العُمر
ــ أراك تغوصُ في العميق الآن
الأصدقاء والأعداء جزءٌ من حياة أيِّ إنسان؛ فما ذا علمتك الخمسون؟هذه مفردةٌ مهمةٌ من مفرداتِ أيّ إنسان، وبادئ ذي بدء سأُجمِلُ لك القول في الأصدقاءِ بشكل عام، في عبارة وجيزة
ــ يعجبني الإيجاز، فهات
الأصدقاءُ أحدُ اثنين: أحدهما تبكي عليه، والآخر تبكي منه
! منذُ عشرِ سنوات لم يتوقف بكائي في صديقي الكبير الشهيد أحمد الأبارة
ــ هذا إبهامٌ وغموضٌ لا نحتمله
فهلا أفصحتَ في القول؟ حسنًا؛ ليس كلُّ عدو هو شرٌ محضٌ أبدا؛ بل أحيانا خيرٌ محض
الأمر يتوقف على ردة فعلك الإيجابيّة تجاه ما تراه عداوة أو شرا
ليس كل ما يؤلمنا هو من فعلِ أعدائنا؛ بل من طريقةِ تعاطينا مع ما حدث لنا
إذا أسقطنا البيضة من الأعلى في كأسٍ مملوءةٍ بالماء تبعثر الماء وبقيت البيضة سليمة؛ لكننا إذا أسقطناها على حجر انكسرت للتو
! في الأولى وقعت على جسم أضعف منها، ففعلت فعلتها، وفي الثانية وقعت على جسم أصلب ففعلَ الجسمُ فعلته، فكن أنت الجسم الصّلب، أو حجرَ يسوع؛ إذا وقعت على شخص تهشّم، وإذا وقع عليها تهشّم أيضا
تعامُلك مع الحدثِ، لا الحدث ذاته هو ما يؤلمُك
أرأيت؟!! ــ هذه مثاليّة فلسفيّة وتنظيرٌ من سِرياليّاتِ صديقِك سام الغُباري
لم تقنعني بحُجّتك رغم صحتها
سأقول لك: أكادُ أجزمُ أننا في حاجةٍ إلى الأعداءِ أحيانا كما نحن بحاجة إلى الأصدقاء
نحتاج إلى العدوِّ الذي يتتبع زلاتِنا ويكشفُ عن عيوبنا حتى وإن بالَغَ في ذلك؛ بل وإن افترى وتحاملَ وخَصَم وفَجَر، كنقيضٍ موضوعي ومغاير للصّديقِ الذي يغضُّ الطرفَ عن زلاتنا، ويربتُ على أكتافنا في كلِّ مَرة وحين
نحتاج للعدو الذي يستثيرُ فينا العزائم، يستنفرُ القوى، ويستجيشُ الإرادات، وهذا يقتضي منا أن نختارَ أعداءنا كما نختارُ أصدقاءنا، فليس كلُّ الناس صالحين للعداوة، مثلما ليس جميعُهم صالحين للصّداقة! في هذا العالم الذي يمورُ بالضّجيج، ويعجُّ بالمتناقضاتِ، نحن جزءٌ منه
بعضُ أخطائنا التي نقعُ فيها ليست أخطاءنا في الواقع، هي أخطاءٌ فُرضت علينا من خارج محيطنا، سلوكياتٌ، أو ربما قناعات حُكِمْنا بها رغمًا عنا
! لسنا وحدنا في هذا الكوكب، فلدينا شركاء آخرون، هم هُمومُنا ونحن هُمومُهم
نمثل معًا أعدقاء هذا الوجود
وما مِن خصمٍ إلا ويتطبعُ بطباع خصمه دون أن يدري! المشاعرُ تتلاقح تلقائيا، كما يقرر جوستاف لوبون
أخطاءُ الآخرين أيضا ليس بالضّرورةِ أن تكون أخطاءهم وحدهم، قد تكونُ أخطاءنا نحن، من طريق غيرِ مباشر، ومن حيث لا ندري
! الفردُ تُرسٌ في الآلة الكبيرة، حركتُه في محيطه ومجتمعه مرهونة بحركة بقيّةِ التروس التي تحركه ويحركها في نفس الوقت، وإنَّ توقُّفَ أيّ ترسٍ في الآلة الضّخمة يوقف بقيتها جميعا؛ بل يوقف الآلة ذاتها
من هذه الجدليّة يتناسلُ صوابُك وتتناسلُ أخطاؤك كفرد ما دمتَ تتحرك، وما دمتَ تسعى، وما دمتَ تُرسا في الآلة
ومن هذه الحتميّة الوجوديّةِ تكون أيضا تصرفاتك
وكم هي الأخطاء الكثيرة التي تسبق الإنجازَ الصّحيح؟ وكم هيَ الخطوة الناجحة التي تسبقُها عشراتُ الخطى المتعثرة؟ أنت سلسلة أخطاءٍ ممتدةٍ من سلسلة نجاحات في نفسِ الوقت، والعكسُ أيضا صحيح
يأتي النجاح من الفشل، ويأتي الفشل من النجاح في متوالية جدليّة لا تنفك عن بعضها، كما تقرر تجريبيّة فرنسيس بيكون، و جون لوك
الحياةُ قائمة على الفعلِ وردِّ الفعل
على الشّيءِ ونقيضِه معا، على أساسِ الفعلِ المنعكس؛ أيّ فكرة المثير والاستجابة للمثير، وفقا لعالم النفس السُّلوكي الشهير واطسون، زعيم المدرسة السُّلوكيّة
الوردُ لا يعبقُ أكثر إلا إذا حركته أعاصيرُ الرياح
أغزر الينابيعِ لا تتفجر إلا بعد البراكينِ المزلزلة
الشّجرة المثمرة لا تُعطي أكثر إلا إذا تشذبت زوائدُها
أغدق الغيثِ ما تخلّله غضبُ الرعود وعنف القواصف
! مرة أخرى، نحتاج أحيانا للعدو الذي يتتبع نواقصنا ويرصد أخطاءنا؛ لأنَّ النقدَ جزءٌ من العمل، وجزءٌ من مسيرة النّجاح أيضا، أيًّا كان هذا النقد، وأيًّا كان غرضُه
هذا أمرٌ مهمٌ في حياتنا حتى لا نتوهَ في غمرةِ الصّمت عن أخطائنا، أو نغرق في وهْمِ ما نراه صوابا
نحتاج من يفتش عن سيئاتنا، ويظهرها لنا بأبشعِ صُورها
لعلّ يسوعَ قد أدركَ هذه الحقيقة من وقت مبكر، فقال أحبُّوا أَعداءَكم
أعداؤُنا جزءٌ من نجاحنا أحيانا، وهاتوا لي عظيما واحدا من عُظماءِ الإنسانيّة قاطبة نجحَ واجتازَ القمّة بلا عدو
إنها تحدياتُ الطبيعةِ والحياة
تحديات العقل مع الأخطار المحدقة به من حوله
إنّ كلَّ رغبة لا يمكن إشباعها فورا تجلب رغبة القدرةِ على إشباعها
هكذا يقول برتراندراسل
الخيلُ الذلول لا يجعل منك فارسًا بارعا؛ بل الخيل الحَرُون الجَمُوح
الطريق السّالك لا يجعل منك عَدّاءً ناجحا؛ بل الطريق المُنحني المتعرج
نحتاج من يرمي بجلامدِ الصّخر في طريقنا، لنجعلَ منها صروحا نحو المجد، لنجعلَ من الجبال الشوامخ درجات للترقي في الوصولِ إلى معارج الكمال
نحتاج من عدوّنا أن يرميَ بأخشاب حقده في طريقنا، لنجعلَ منها سلالمَ نحو القمّة
أهوى الحيـاة بخيرها وبشـرِّهاوأحبُّ أبنــاءَ الحيـــاة وأرحــمُوأصوغ فلسفة الجراح نشائدايشدو بها اللاهيْ ويشجى المؤلمُ لا أريدُ طريقا سالكا أمضي عليه، فالكسول يستطيع فعلَ ذلك ولستُ بالكسول
لا أريد متنا ناعما أطير عليه، المُعاق أيضا يفعل ذلك ولستُ بالمُعاق
لا أريدُ الوصول إلى القمّةِ محمولا على ظهر أحد، الأعرج يستطيع الوصول إلى القمّة بهذا ولستُ بالأعرج
أريد أن أجتازَ كلّ عقبات التحدي بثقة واقتدار
لا أستسيغ الفوز هَينا ليْنا
أحبذُ النجاح جَمرة لا خمرة، أفضّله لفحة لا نفحة، أستلذُّه بحبّاتِ العَرَقِ المتقاطر، لا ببراعم الورد المتناثر
بقيظ حُزيران، لا بقَـرِّ كانون
لا أحبُّ العيــش إلا قمّــــة إن تفت فالموت أعلى القمم لا تطلب من الله حياة سهلة؛ بل اطلب قلبًا قويًا يسير إليه، ولو فوق الشوك
هكذا يقول شمس الدين التبريزي
لله درُّ أعدائنا فلكم ساعدونا على النجاح
! ولا درَّ درُّ أصدقائنا الذين زهَّدونا بما نحن فيه
عدوي هو صديقي أحيانا؛ بل في أحايين كثيرة
فكم لفَتَ انتباهي إلى ثلمة في جهدي الناقص؟! كم استفزني بطيش عباراته التي هدتني لمعارجِ الكمال في حده الإنساني؟ وكم ألقى أمامي من جلامدِ الصّخر ليعيقَ مسيري، فحوّلتُها إلى درجات للترقي؟ لولا أعداؤنا ما نجحنا
لولا أعداؤنا ما تقدمنا خطوة واحدة
أعداؤنا هم شركاء النجاح، فهلمُّوا يا أعداء
! سأمضي ولو لاقيتُ في كُل خُطـوةحُســــام يـــزيد أو وَعيدَ زيـادِولو أخّــرت رجلي خُطاها قطعتُهاوألقيتُ في كـــفِ الريــاحِ قيــاديفلا مهجتي مني إذا راعـها الشّــقاولا الرأس منّــي إن حَنته عَـواديولا الروح منّي إن تباكت، وإن شكافـؤادي أســــاه فهو ليس فـــــؤاديهو العُمر ميدانُ الصّراع وهل ترىفتى شــقّ ميـدانا بغـير جهـــــــاد؟ ــ حسنا
والآن اقتنعت
مزيدا يا راعيَ البقر!آه
نعم، ذكرت
كنتُ كاو بوي، في صِباي المبكر
في تلك القرية الريفيّة النائية والبدائيّة أيضا، مطلع ومنتصف ثمانينيات القرن الماضي رعيتُ البقر في أحراش وادي البُلبل، مسقط رأسي ومهد صباي الأول، مع بعض أقراني الصّغار، وآنذاك ناغيتُ أجواء الطبيعة السّاحرة بقلب طفل بريء، أصغيتُ لنُسيمات الصّباح، أنستُ لحفيف الشجر، عشقتُ ليلا وسوسات القمر، والقمر رفيق ابن الرّيف دوما، على غير قمر المدينة البائر
هكذا ابتدأتُ المشوار، متشحًا حُلمًا ورديًّا بأسمالٍ بالية، كأسمالِ أيّ طفل ريفي آنذاك، كان يتخيلُ نهاية العالمِ خلف جبل بني خطاب الذي أمامه، وحين عرف سوق الرباطِ لأول مرة، على بُعد كيلوهاتٍ قليلة منه اعتقد أنّ العالم كله قد زاد قليلا إلى هناك، وما بعده كونٌ لا يُدرك
! في وادي البُلبل تهجّيتُ- صغيرًا- صفحة الطبيعة، ككتابٍ منظور، تلذذتُ برائحة ترابها، بخرير سُيولها، بظِلال غُيومها، بسجع يَمَامها، برائحة البُنّ صبيحة كل يوم، بتسابيح جدي وصلاته آخر كل ليلة، بمواويل البُلبل الغرّيد الذي كان يطرب مسامعنا كل صباح، مبشرا بهطولِ الغيث، أو هكذا كان يعتقد الناس
البلبلُ رسولُ الرّبيع، يغني باشتياق
كما تقول الشّاعرة الإغريقيّة سافو؛ شاعرة الحُب والجَمال، كما تُلقب
في حضنِ هذه الطبيعة الرؤوم أدركتُ- بكيفيّةٍ لا تُكيّف- أنّ الإصغاء أول الحكمة، وأنّ النجاح يتمثل في الوفاءِ لحُلم الطفولة الأول، وأنّ الوصول إلى القصرِ الباذخ قد يبدأ من الكوخِ المتواضع، وأنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة
والمقولة الأخيرة من فلسفة لاو تزو التي سحرتني مؤخرا، ووجدتُني أعتقدُ فيها ما اعتقده شوبنهاور في أسفار الأوبانيشاد الهندية: إنك لن تجدَ في الدنيا كلها دراسة تفيدك وتعلو بك أكثر مما تفيدك وتعلو بك دراسة أسفار أوبانيشاد
لقد كانت سلواي في حياتي وستكون سلواي في مماتي
هكذا قال
حالي مع الطاوية، كحال شوبنهار مع الأوبانيشاد
أكاد أجزم أنّ شوبنهاور لم يقرأ الطاويّة
! ــ أراك مُغرما بوادي البلبل، ما الذي علمك هذا الوادي يا راعي البقر؟ لم أعد أرعى البقر اليوم، فقط أحنُّ إلى ذلك
تلك مرحلة، مررت بعدها بعدة مراحل، كانت كلُّ مرحلة تُسلّمني لأخرى بكل أمانة، كوديعة متنقلة، لم تستقر حتى الآن، هذا أولا
وثانيًا: التشبث بالجذور الأولى، والحنين للنبع الأول سِمة طبيعيّة لا للإنسان فقط؛ بل حتى لكائنات الطبيعة، ونحن جزء من الطبيعة، ماءُ البحرِ الذي يتكثف ويتحول إلى أمطار غزيرة سرعانَ ما تنساب قطراته في شلالات هادرة عبر الجبال الشواهقِ والوديان المتعرجة لتعود إلى البحر مرة أخرى
ألم تقل الحكمة الآشوريّة: النّهر الذي ينسى منبعه سيجفُّ يوما؟! ألم تتذكر تقريريّة أبي تمّام تلك؟! على ضفته الجنوبيّة اكتسبتُ لغتي الأولى، ولهجتي الأولى، وقلبي الأول
ولهذا تراودني بين الحين والحين فكرة أن أكتب عنه مادة مستقلة
وهذا يكفي
ــ في طفولتك تلك، أشقوتَ أم سعدتَ؟ شقوتُ وسعدتُ في وقت واحد معا! ــ أتريد أن تعود بنا إلى لغطك السّابق
أجب بوضوح، كيف شقوتَ وسعدتَ معا؟ هذه لوثة عقليّة من لوثات الكاو بوي
لا عليك، تمهّل
لسنا في معادلة رياضيّة حتى نتكلم بلغةِ التجريد، فنجيب بلا أو بنعم هكذا جافة ونتوقف
نحن نتحدث عن حياة مكتنزة بالمفردات المتداخلة، بالصورِ المتشابكة، بالمرئي واللامرئي منها، أنا جُزيءٌ يسير من هذا التجلي الأعظم في الكون المتعدد، ألم أقل لك: الإنسان ترسٌ في الآلةِ الضّخمة؟! أكثر من ذلك ألم يقل ابن عربي: أنّ الموجود عين الواجد؟ وأنّ الذات عين الآخر؟ أين أنت من هذا يا رجل؟! لا أدري لماذا تذكرت صديقي العزيز أمين الوائلي الآن؟ ربما لأنه أول من أخذ بيدي نحو سواحل ابن عربي العميقة وغادر
! ربحتُ شعلة القلب، مع ستة قناديل مضيئة
أسعدُ لحظاتي تلك اللحظة التي أشعر فيها أني سادنٌ مخلص لهم، مُلبٍّ لمطالبهم
إنهم ضيوفي الدائمون الذين أسعدُ بهم على الدوام، ومن دعا ضيفا وجبت عليه خدمته، ووجب عليه إكرامه، وأنا ذلك الخادم المخلص
آه
تذكرت
أنا وجيلي أسعد أطفال اليمن منذ سقوط الدولةِ الرسوليّة، أتكلم الآنَ عمّا يقاربُ سبعمئةِ سنة
كلُّ الأجيال التي قبلنا جاعت وعرت، كذلك الحال مع الجيل الذي بعدنا جيل اللحظة يجوع ويعرى أمام ناظرينا، وعلى مرأى منا، رغم أننا في القرن الواحد والعشرين! الحروب قدر بلدي المُنهك من زمنٍ طويل، بين كل حربٍ وحربٍ حربٌ ثالثة، مع كل جيل وجيل ألَمٌ ممتدٌّ ووجعٌ متصل
نَصِلُ الشهقة بالزفرة، والأنين بالحنين، نودعُ ميتا بميت، مسافرا بغائب، ومهاجرا براحل
فوجٌ يموتُ وننساه بأربعـة فلم يعد أحدٌ يأسى على أحدِ ما مِن جيل إلا وتعرض في طفولته ــ كما في شيخوخته ــ لنكباتِ الحروب وكوارث الاقتتال، ونحن الجيل الوحيد منذ سبعمئةِ سنة نجونا بأعجوبة من هذه الكوارث
أرأيت؟! فاجأتني
راعي بقر، وقارئ للتاريخ
! أهكذا علّمك أستاذك شاكر الهتاري؟ نعم، رعيتُ البقر، وعملتُ في التدريس، كما عملتُ أيضا إمامًا وخطيبًا، بعد ذلك عشقتُ الصّحافة حدّ الهُيام، ومؤخرا وجدتُني كمن ظلَّ وحيدًا بين غابةٍ من السّباع والوحوش، وسط دخانِ السّياسة الخانق! ثلاثون عامًا مع الكتاب والقلم، سُلافتُها حتى الآن 27 مؤلفا، ومعها أحتفظ بإرشيفٍ ضخمٍ من الحواراتِ السياسية والثقافية، تزيد عن 700 حوار، إلى جانب أعمال أخرى، منذ العام 95 في صحيفة الجمهورية الثقافية، وفي غيرها من الصحف، وحتى العام 2014م، واسألوا عنها الرفيق عادل الأحمدي
من الجمهورية ابتدأت، وفيها انتهيت؛ ممتنا لأستاذي في هذا المضمار سمير اليوسفي
سمير هو الذي صنعني صحفيا، إن صحّت الصّنعة أولا
لن أنسى- بطبيعة الحالِ- معلمنا الكبير نصر طه مصطفى، وهو أستاذ الأساتيذ، مدرسة سياسية وثقافية باذخة، ومِن عالم الصّحافة عبرتُ إلى عوالمَ أخرى، لا أزال أتأرجح فيها، ولا أدري بعد أين سيستقر بي المقام؟ يا للشقاء المُمتع
أمّا أستاذي شاكر الهتاري، فالواقع أنه لم يعطني السّمكة؛ لكنه علمني الاصطياد
ممنون له
في التاريخِ أنا تلميذ صغير في مدرسة أستاذي حيدر علي ناجي
ــ أود أن أسألك وتجيبني بصدق
ثق، لن أجيبَ بغيرِ الصّدق
خمسون عاما ربحتَ فيها؟ أم خسرتَ؟ ربحتُ وخسرتُ
! يا رجل! متى ستتخلص من فوضى الاستهتار؟ أتقول الشّيءَ ونقيضه معا؟ هل أنت قطة شرودنجر؟ ميتة ولا ميتة في وقت واحد؟!صدقني، لقد أجبتَ عن سؤالك بنفسك
حالنا اليوم هو حال قطة شرودنجر تمامًا، ولن أزيد
علمتني الخمسون أنّ بعض الربح خسارة، وأنّ بعض الخسارة ربح؛ ذلك لأني لا أقيس الخسارة والربح بالماديّات، هذا أولا، الحياة فضيلة، والحياة إنجاز، والحياة شُعور، وليس من الضّروري أن يكون الإنجاز ماديا فقط
ثم إنه حتى بالحسابات الماديّة الصّرفة يقولون: من لا يخسر لا يربح
الحياة بطبيعتها ربح وخسارة، وفي زمن كزمننا هذا، الناجح فيه من يحافظ على رأس المال
ــ حسنا، ما رأس مالك إذن؟ الحقيقة لي رأسٌ بلا مال، ويصح أن أقول: رأسمالي هو رأسي وحده، وعليه يصح القول: المال رأس، والرأس مال
وهذا هو رأسُ مالي، ومالُ رأسي!! ــ يا لشقاوتي بك أيها الخمسيني الخَرِف، لم أعد أفهم طلاسمك هذه؛ باختصار، ماذا علمتك الخمسون؟من وحيِ الخمسين تعلمت أنّ الحكمة ليست في كثرة المعارف النظريّة، ذلك لأني وجدتُ مثقفين بلا وعي، كما وجدتُ واعين بلا ثقافة، وأهمُّ من الثقافة الوعي، بما هو حالة فوقية متسامية، وبما هو غاية الغايات
وهل نتعلم إلا لنعي
الوعي غير الثقافة، وهو غير المعرفة كذلك، واسألوا رجلَ المواقف، وأبا المثقفين اليمنيين الأستاذ خالد الرويشان
تعلمت أنّ العظمة في التلقائية والبساطة
نموذجان كبيران أكدا لي ذلك: الوالد المناضل عبده مرشد، والدكتور عبدالعزيز المقالح
تعلمت أن أكون إنسانا، وكفى
ــ وماذا عن رحلتك مع الكتاب؟ لعلها أمتع رحلة في أشقى مسير، ولك أن تقول: أشقى رحلة في أمتع مسير
مُذ وعيت وجودي الأول أتنفسُ القراءة وأقتاتُ الحرف، كلُّ صفحة طويتها هي بمثابة لبنة في طريق الحياة
وكلُّ كتاب أنهيته هو صرح في رحلة الصعود، أو ما نعتبره صعودا
أحيانا نستمتعُ بالوهْمِ
أعيشُ مع الكتابِ كصديق وفيّ، صَادق ومهذب، أشعر وهو بين يديّ أنه كائن حيٌّ يخاطبني وأخاطبه
! القراءة سَبْرٌ لمعاني الحياة، اكتشاف للحقيقة المتعددة الأوجه، رحلة في اللامكان، حديث إلى العالم الخارجي، جلوس مع الأحياء والأموات معا، إصغاء لصوت السّماء، تخصيب للفكر، كشف لأسرار الطبيعة، مناغاة لأشواق الحياة
باختصار، إنها أنفاسنا التي نحيا بها
ابتدأتُ قراءتي مع الشيخ الغزالي بأدواتي المتواضعة آنذاك، وها أنا أقفُ الآن متيّمًا هائمًا بشوبنهاور، ولاو تزو، وفيما بين عتبة البداية التي انطلقت منها، وقُمرة النهاية التي أقف عليها اليوم ثملتُ كثيرًا مع: الجاحظ، أبي حيان التوحيدي، ابن عربي، زكي نجيب محمود، سلامة موسى، خالد محمد خالد، ميخائيل نعيمة، الكواكبي، العقّاد، توفيق الحكيم، هيجل، فرويد، كارل يونج، أوشو، إريك فروم، تزفيتان، آرنولد توينبي، نجيب محفوظ، طه حسين، البردوني، مطهر الإرياني، الإمام الشوكاني، ماركوس أوريليوس، نيكوس كازانتازاكي، جوستاف لوبون، جبران خليل جبران، كولن ولسون، توماس هوبز، جون كالفن، علي الوردي، محمد عمارة، الجابري، دان براون، عبدالرحمن بدوي، فراس السّواح، مصطفى النشار، وكثيرين يصعب تذكرهم الآن
هؤلاء أساتذتي وأصدقائي ورفاقي، وأعرفهم عن قرب
أمّا في الشعرِ فقد فشلت- بامتياز- أن أكون شاعرًا، على الرغم من ولعي بالشعر، ولو سألتني عن أعظم شعراء الوجود لقلت للتو: المعرّي والبردوني
أُطبّبُ نفسي بين الحين والحين بمختارات إلهاميّة من شعرِ البردوني، على رأسها رائعة: فلسفة الجراح، وأغذيها بفلسفة المعري، غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي انموذجًا
وإلى جانبِ المعرّي والبردوني- أيضا- عشراتُ الشُّعراء القدامى والمحدثين، من: طرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، مرورا بالمتنبي وأبي فراس، ثم الجواهري والشابي، وصولًا إلى ياسين البكالي ويحيى الحمّادي؛ يحيى الشاعر، ويحيى الخطاط، وكم تثملني لوحات الخط العربي التي أتسمّر أمامها بدهشة طفل وخشوع ناسك، أتأملها ولا أشبع منها؛ أمّا في الوطنيّاتِ فأثملُ بشعرِ الزبيري، وأمّا في الغنائيّاتِ فـالفضول، وغير بعيد عنه شاعرٌ آخر مرتد عن وطنيته، لا يستحق ذكر اسمه هنا، وإن كانت أعماله الفنيّة من غُرر الإبداع الفني
ــ وماذا؟ أشعر أن خُطايَ تَستحثُّني بقوة نحو التصوف
التصوف الأبيض، لا التصوف الأسود بطبيعةِ الحال
ــ ثم ماذا؟إلى ذلك أيضًا، تعلمتُ أنّ الحكمة لا تولد من صفحات الكتب وحدها، على أهميّة الكتاب؛ بل من وجوه الناس، كصفحات مفتوحة، وكتب متحركة، نقرأها بطرائقَ مختلفة، ودائما أردد: يجب علينا أن نتعامل مع الذوات البشريّة أمامنا باعتبارها كُتبا منظورة، بعضها مفيد، وبعضها غير مفيد، وجزء آخر بين بين
ــ ماذا تخطط لما بعد الخمسين؟ في الواقعِ بعد الخمسين يبدأ فصل جديد من فصولِ الحياة، تتجلى فيه معاني التجربة، وتكتمل به معالم الذات
الأصل لأيّ خمسينيّ أن يبدأ بقطف ثمار عقوده السّابقة؛ لكن لأننا بلا ثمار؛ كوننا عشنا في اللاستقرار، لا شك سأبدو عشرينيًا، ألاحقُ ــ بلهُاثِ شقيٍّ- ما تستوجبه علينا ضروريّاتُ البقاء
ــ هل تحسُّ بشيءٍ من الشّيخوخة يدبُّ إليك؟في الواقع لا أشعر بشيء من معالم الشّيخوخة حتى الآن، أشعر أني لا زلتُ شابا في الثلاثين من عمري
روحُ القاضي علي أبو الرجال- رحمه الله- تسكنُني بعمق
كان على مشارف التسعين، وهو يسبقنا إلى دوامه اليومي في مكتب رئاسة الجمهوريّة بصنعاء، بروح شابٍ مكتمل الفرحة، متوقد الذهن
! لا أؤمن مما يُقال عن تقدم العُمرِ إلا بالنزر اليسير منه
العجز والخَور والتسويف والتّواني والوقار الزائف مجرد شعور سلبي لا أكثر، يقع تحت طائله البعض تحت وهْمِ كِبرِ السّن، ونحن لسنا عبيدا للزمن، ولا أقنانا لمؤشرِ الوقت
نحنُ نحنُ وكفى
أقولُ لك: لا تقِسْ حياتك بالسنين والأيام؛ بل قسها بالفضيلة والمعنى المكتمل
لا تخف من الموت؛ بل خَف ألّا تعيش حقا؛ لأنّ هناك أناسا عُمِّرُوا حياة طويلة؛ لكنهم لم يعيشوا
العيش بحكمة، بإنجاز، بفضيلة يمنحك حياة فوق حدود الزمن
ليس كلُّ من ماتَ مَاتفهناك من يعيشُ ميتاوميتٌ ينبضُ حيّارغم المَمَات
! في الخمسين، أو في الستين من عمرك أنت شاب، الأمرُ كذلك في السبعين والثمانين، فقط عليك أن تعيش الشعورَ بالإيجابية، وأن تختار بحكمة ما يملأ وقتك، أن تعيشَ التجربة بوعيٍ أوسع، أن تمدَّ غصونك المزهرة قليلا، أن تحتفيَ بنفسك بين الحين والحين، أن تجعلَ حياتك أعراسًا؛ لأنّ المتعة تزيد في الإبداع، فلا تهمل نفسك
ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا
يقول مُتنّبي الهند طاغو: إنني أحبُّ حياتي لأني أحبُّ نور السّماء المتغلغل في نفسي
ويقول أوشو: ما لم ترقص وتغنِّ لن تجدَ الله
أنت في الخمسينِ من عمرك، أنت في الظهيرة، و الظهيرة محاولاتٌ جادةٌ لبدء حياة من المنتصف، كما يقول الأديب السعودي علي عكور
إنسانُ ما قبل الخمسين يحلم، وإنسانُ ما بعد الخمسين يتذكر، وأنا أحلم وأتذكر معا
أؤمنُ- بيقينٍ قاطع- أنّ شيخوخة الجسم من شيخوخة العقل، هناك من يشيخُ في عُمر الثلاثين، وهناك من يعيشُ شابا في الثمانين
! ألم يقل شوبنهاور: الإنسانُ إرادة؟! الحُلمُ والإرادة نسقان مُتضَايفان ينتهي طرفاهما باتكاءٍ باذخٍ على شُرفةِ القمر
لا تستسلم للكسلِ والعجزِ لأنك خمسينيٌ أو ثمانينيٌ، بوسعِك أن تكون مشعلا متوهجا حتى في التسعين من عمرك
لا تقترب من المتذمرين والكسالى والسّاخطين والمُسوّفين والمَلُولين وكثيري التبرير والمتأخرين عن دوامهم؛ هؤلاء شُحنات من الطاقة السلبية، مُعدية وضارة، وأنت في أوج عطائك الآن
! ابتعد عن التلوثِ السّمعي والبصري معا، واعلم أنّ فاكهة آخر الموسم أنضج من بدايته، وآخر الكأس ألذُّ من أولها، كما يُقال
ابتعد قليلا عن الرؤوس الحافية؛ عن الأشخاص الذين يمشون على رؤوسهم، حفاظا على أقدامهم؛ عن الضّنين بالمال، الكريم بإضاعة الوقت؛ عن صاحب ضمير بلا عقل، وصاحب عقل بلا ضمير؛ عن الكائنات المُجوّفة التي تُحدِثُ ضَجيجًا بقدر الفراغ الذي تعيشه، والتي تلحِقُ الأذى بالآخرين بقدر النقص الذي تعانيه
وما أكثر هؤلاء! في ظرفك هذا لا تقل: أنا بلا وطن، فكلُّ بقاع الأرضِ وطن لك، أيكونُ الوطن قطعة أرض فقط؟ كلا
الوطنُ ما نحمله بين جوانحنا، ما نعيشه حلما في المنام وهَمًّا في اليقظة، ما نرسمُه صورة في لوحة، ما ننفثه زفرة في قصيدة
لوحات وقصائد الأديب والشاعر غائب حواس أنموذجًا
سنناضلُ من فوق كل أرض وتحت كل سماء
هكذا علمتنا الرواقية، وهكذا يقول سنيكا: الحياة المليئة بالحكمة والخير أفضل من حياة طويلة بلا معنى
قبل الرواقيّة تدعونا الطاويّة أن نتدفقَ بانسجامٍ مع شلال الطبيعة وألا نعاكسها، أن نحتضنَ التغيير لا أن نصادمه، أن نتكيّفَ مع كل مرحلة عُمريّة من مراحلنا، ألا نلهث ــ بجشع ــ خلف ما نتوهمُه لذة، اللذة تجلب المعاناة، كما يرى بوذا
أن نتعرف على أنفسنا في غيرنا، أن ننظر إلى الآخر باعتباره عينَ ذاتنا، أن نتقبل حتى عابد الحجرِ، ما لم يرمِنا بالحجرِ ذاته
! إننا لا نستطيع صناعة قوانين خاصّة بنا نُسيِّرُ بها الوجود من حولنا كما نرغب؛ لكننا نستطيع صناعة قوانين داخلية تجعلنا نتكيّفُ مع محيطنا
ما في قدرتنا هو سُلطاننا على أنفسنا فقط
بعد الخمسين، احتضن ــ بذراعين رحبين- أضواءَ كلِّ صباح مشرق يُهديك خيوط فجره الأول، واستقبل- باطمئنان هادئ- أستارَ الليلِ المُتسدلة، لتهدهدَ فيك قلقَ الوجود الذي ينتابك بين الحين والحين
الهدوءُ ليس مجرد عدم سماع أيّ أصوات مزعجة في محيطنا، الهدوء صفاء الروح من الداخل
ما فائدة سكون الكون كله إذا كنتَ تعيش الضّجيج من داخلك؟! بعد الخمسين، زد سنواتك حياة، ولا تزد حياتك سنوات، كما يقول سلامة موسى
بعد الخمسين، أظنُّ ــ وبعضُ الظنِّ صحيح ــ أنّ التعاملَ مع كلّ المشاهد أمامنا على الدوامِ بقواعدِ المنطقِ الصّارم، أو المعادلاتِ الحسابيّةِ الدقيقةِ قد يُرهقُ صحتنا النفسيّة، نحن محتاجون للتغابي والتغافل
الغباوة ــ كما يقول جبران خليل جبران ــ مهدُ الخُلو، والخُلو مرقد الراحة
ومِثلُ هذا قاله المتنبي قديما: ذو العقلِ يشقى في النّعيمِ بعقله وأخو الجهالة في الشّـقاوةِ ينعمُ يضيفُ جبران في رائعته الخالدة الأجنحة المتكسّرة: أصحابُ النبوغ تُعساء، مهما تسامت أرواحُهم تظلُّ مكتنفة بغلافٍ من الدموع
الأجنحة المتكسرة من أبدع ما جادت به قرائحُ الحُزنِ النبيل
أنصحُ العُشاق والفقهاء بقراءتها
! ــ لقد أصَابني النعاسُ وأنت تواصل ثرثراتك، ألم تتعب بعد؟!لم أتعب بعد
صحيح، في الخمسينِ من العُمر اليقين أكبر من الأمل، والسّماء أقرب من الأرض، والروح تتلمّسُ نور الحكمة خلف ستار الغموض، باحثة عن ذاتها بين عَتَمةِ السّـرِّ والظاهر، تشقُّ طريقها بين المدى واللامدى، للانعتاق من قيود الذات؛ لكن هذا لا يعني الاستسلام للعجز، أو الخلود للتواكل، أو الغيبوبة في الاسترخاء؛ بل إرواءَ حقلِ العمل بكثافة الخِبرة، وتجويد الصّنعة بحكمة التجربة
إنَّ الشُّعيراتِ البيضاءَ والمعدودة التي تتسَلّلُ- على خجل- إلى جانبَيْ رأسي لا تعني أني على مشارفِ العَجز، أو في مرحلة ما قبلِ الغُروب؛ بل أعتبرها شهادة نُضج، صَكَّ حكمة، فنار درب، فختَ غَسق، أُيَاة صُبح، إشراقة روح، توقيعَ الزمن لاختطاطِ فصلٍ جديد
أتمثلُ معها ما قاله أبو الأحرار الزبيري: يقولون: ما بـالُ شَــعرِك أبيض؟ فقلت شُعاعُ الفكـرِ ليس بمستورِوكيف يكونُ الشَّعرُ أسْودًا فاحِمًا ومنبتُ ذلك الشَّعرِ من منبع النورِ؟هكذا علمتني الخمسون
! الآن، ومنذ لحظاتٍ قليلةٍ أسمع همسَ خُطوات خجولة، وطَرقات خفيفة على الباب، فاسمح لي أيها القارئ الكريم بالقيام، لأرى مَن الطارق! نعم، لقد وصلت، إنها الخمسون تقتحمُ عليَّ الآنَ عتبة الدارِ بلا استئذان
نعم بلا استئذان
! مرحبا يا خمسين
! هل قلتُ شيئا؟!!