د. محمد عبدالمجيد قباطي : الريال اليمني: قرار «تاريخي».. أم معالجة مؤقتة؟
منذ 12 ساعات
أثار قرار الحكومة اليمنية الصادر في أغسطس 2025، والقاضي بحظر التعامل بالعملات الأجنبية وحصر جميع المعاملات التجارية والخدمية بالريال اليمني، موجة واسعة من النقاش
فبين من يصفه بالقرار «التاريخي» الذي سيحمي الريال ويعيد الثقة بالاقتصاد الوطني، ومن يراه إجراءً فوقيًا محدود الأثر، تظل الحقيقة في مكان وسط: هو قرار يعبّر عن رغبة جادة في ضبط الأسواق، لكنه يصطدم بواقع معقد وبنية اقتصادية هشة
سياق القرار: مكاسب آنية وضغوط متراكمةلا يمكن فصل القرار عن التطورات الأخيرة في سوق الصرف
فبعد شهور من التدهور الحاد، استعاد الريال نحو 45% من قيمته أمام الدولار خلال أسابيع قليلة، مدعومًا بإجراءات اتخذها البنك المركزي لكبح المضاربة، إلى جانب تحسن طفيف في موارد النقد الأجنبي
هذا التحسن، الذي ترافق مع هبوط سعر الدولار من 2838 إلى 1632 ريالًا، شكّل فرصة سياسية للحكومة كي تعلن عن «الحسم» في معركة العملة
لكن السؤال الأعمق: هل يعكس هذا التعافي المؤقت قدرة مؤسسات الدولة على فرض استقرار مستدام، أم أنه مجرد ارتداد ظرفي سرعان ما يتبدد؟التحديات البنيوية أمام التنفيذ1- الاقتصاد المنقسم:القرار يسري عمليًا في مناطق نفوذ الحكومة، فيما يظل الحوثيون يسيطرون على صنعاء وأجزاء واسعة من الشمال حيث تفرض عملة مختلفة وسياسات مالية مضادة
وهذا الانقسام يحد من فاعلية أي سياسة نقدية مركزية
2- ضعف المؤسسات الرقابية:إلزام التجار وأصحاب العقارات والمدارس الخاصة بالتعامل بالريال يتطلب أجهزة رقابية قوية وقضاء قادر على إنفاذ القوانين
في ظل هشاشة هذه المؤسسات، قد ينشأ سوق موازٍ أكثر نشاطًا
3- اقتصاد الدولرة الجزئي:اعتماد شريحة واسعة من المواطنين والقطاع الخاص على التحويلات الخارجية، خصوصًا بالدولار والريال السعودي، جعل العملة الأجنبية جزءًا بنيويًا من دورة الحياة الاقتصادية
إخراجها بين ليلة وضحاها أمر شبه مستحيل
4- فقدان الثقة بالنظام المصرفي:التجربة الطويلة مع الانهيارات المصرفية والفساد وغياب الشفافية جعلت الثقة بالبنوك ضعيفة للغاية
المنظومة المصرفية
الحلقة الأضعف في المعركةمن أبرز العوائق التي تقف في وجه استقرار العملة الوطنية غياب منظومة مصرفية عصرية قادرة على مواكبة متطلبات الاقتصاد الحديث
فما زالت البلاد حتى اليوم تفتقر إلى نظام للريال الإلكتروني أو محافظ رقمية تسهّل المعاملات وتقلل الحاجة إلى السيولة النقدية
هذا النقص يدفع المواطن لحمل كميات ضخمة من النقود لإنجاز صفقات لا تتجاوز قيمتها خمسمائة دولار، فما بالك بعمليات كبرى كشراء سيارة أو عقار
ويفاقم المشكلة أن أكبر ورقة نقدية متداولة (الألف ريال) لا تساوي حتى دولارًا واحدًا، ما يجعل التداول النقدي مرهقًا وغير عملي، ويفتح الباب أمام استخدام الدولار أو الريال السعودي كملاذات مريحة للتعامل
أما أدوات الدفع الحديثة مثل الشيكات أو البطاقات الائتمانية فتكاد تكون غائبة تمامًا عن الحياة اليومية، لغياب البنية التحتية الإلكترونية وضعف ثقة الناس بالمصارف
بل إن مرتبات موظفي الدولة ما تزال تُصرف نقدًا في شكل رزم ورقية، بسبب عجز الأجهزة الحكومية عن تحويل الرواتب عبر البنوك وتشجيع الموظفين على فتح حسابات مصرفية
هذه الممارسة لا تؤدي فقط إلى إنهاك الدولة في الجوانب اللوجستية والأمنية، بل تُبقي الاقتصاد أسير «ثقافة الكاش» وتقطع الطريق على أي تحديث حقيقي في السياسة النقدية
باختصار، لا يمكن ترسيخ الثقة بالريال ولا تقليص الاعتماد على العملات الأجنبية ما لم يُعالج هذا الضعف البنيوي في المنظومة المصرفية ويُطلق مشروع إصلاح شامل للبنية التحتية المالية: من الدفع الإلكتروني، إلى تفعيل البطاقات المصرفية، وتوسيع قاعدة الحسابات البنكية للأفراد والمؤسسات
المكاسب الممكنةمع ذلك، لا يخلو القرار من إيجابيات محتملة إذا ما أحسن تطبيقه
فهو قد:- يقلل من الطلب اليومي على العملات الصعبة، وبالتالي يحد من المضاربة عليها
-يسهل على البنك المركزي حصر الإيرادات والضرائب بالعملة المحلية، مما يعزز أدواته الرقابية
-يكرّس ولو جزئيًا فكرة أن الريال هو المرجعية الوطنية الوحيدة، وهو أمر رمزي مهم في سياق سياسي منقسم
لكن هذه المكاسب تبقى رهينة بعامل جوهري: قدرة الدولة على الإنفاذ، لا مجرد إصدار القرارات
الاقتصاد لا يُدار بالقرارات وحدهاالتجارب الاقتصادية المقارنة تشير إلى أن مثل هذه الإجراءات تنجح فقط حين تكون جزءًا من حزمة إصلاحات أشمل: دعم استقلالية البنك المركزي، إصلاح المنظومة المصرفية، تعزيز الشفافية المالية، وتوليد موارد حقيقية للنقد الأجنبي من الصادرات أو الاستثمارات
أما في غياب هذه المرتكزات، فإن القرارات الإلزامية قد تتحول إلى نصوص شكلية تضاف إلى أرشيف القوانين غير المطبقة
بين الاقتصاد والسياسةلا يمكن تجاهل البعد السياسي للقرار
فهو يأتي في لحظة تحتاج فيها الحكومة إلى تعزيز صورتها أمام الشارع الذي أنهكته الأزمات المعيشية، وإرسال رسالة إلى المانحين الدوليين بأنها قادرة على الإمساك بزمام الاقتصاد
لكن الاقتصاد لا يستجيب للشعارات بقدر ما يتطلب سياسات متسقة ومؤسسات قوية
خاتمة:استعادة الثقة لا تُشترى بالمنعقرار حظر التعامل بالعملات الأجنبية خطوة تحمل نوايا إصلاحية، لكنها ليست عصا سحرية لإنقاذ الريال
فالعملة الوطنية لا تستمد قيمتها من النصوص والقرارات وحدها، بل من ثقة الناس بها، وهذه الثقة تبنى على الاستقرار السياسي، وشفافية الإدارة، وتكامل السياسات الاقتصادية
باختصار، ما لم تترافق هذه الخطوة مع إصلاحات أعمق في النظام المصرفي والإيرادات العامة، فإن خطر عودة المضاربة والانهيار سيظل قائمًا