د. مصطفى الجبزي : استباحة الجسد : قراءة في أخلاقيات الفضيحة الجنسية في اليمن
منذ 16 ساعات
د
مصطفى الجبزي يقع الجنس في قلب السلطة ومعادلاتها؛ فهو موضوعها وأداتها
وبحسب انفلات السلطة أو انضباطها، يحضر الجنس ظهوراً أو تنحّياً
السلطة ليست سوى تعبيرٍ آخر عن الشهوة أو اللّيبيدو؛ تمظهرٌ آخر لهذه الشهوة التي تعبر المجالات، أو تستدعي المهارات والكفاءات: المال، القوة، الجنس، المعرفة، التحكم، الرقابة، الإخضاع
وبقدر ما تحتاج السلطة إلى مهارات وكفاءات ومقدّرات متعدّدة، يحتاج الجنس إلى الذّات الممكنة ذاتها
يبدو الترتيب البديهي سهلاً حين نضع الجنس تالياً للسلطة، لكن في الحقيقة لا ينفصل أحدهما عن الآخر
القدرة تولّد الرضا وتُحدث السعادة والنشوة، وهذان يقعان في مجال الجنس أيضاً
السلطة جاذبة للملذات كما يلمح ابن خلدون إلى ذلك
وبما أنّ السلطة تنطوي على العنف الرمزي أو المعنوي، فإنّ الجنس يقع في قلب العنف أيضاً
الجنس هنا مرادفٌ للجسد، حيث يتحوّل الجسد إلى موضوعٍ للسلطة باستخدامه الرمزي، وغالباً ما يكون استخداماً فضائحياً
هناك علاقة وثيقة بين السلطة والجسد والجنس والإعلام
وهذا موضوع اشتغال فلسفي وفكري وسياسي قديم جديد
سنرى كيف يسري الأمر في اليمن
فتحت سنوات الحرب الأخيرة في اليمن المجال لإبراز هذه العلاقة وجعلها موضوعاً في الفضاء العام
يُستخدم الجسد فضائحياً لتحقيق سلطةٍ ما، إمّا بالترغيب (الإغواء، شبكات الإيقاع، مكافآت القوة، خلق شبكات الولاء)، أو بالترهيب (التشهير، الفضح، الابتزاز)
كانت السلطة السياسية قبل 2011 هي الطرف الأقدر على هذا التوظيف، لأنها لم تكن قد تشظّت بعدُ إلى سلطات وكانتونات
لكنها لم تكن منفلتة كلياً، فكونها سلطةً يقتضي أن تلتصق بها ممارسات العلاقة القائمة بين السلطة والجسد
تنشأ داخلها جماعاتُ قوةٍ فرعية تستمتع بممكنات السلطة من ملذّات، وتجتمع في هذه اللعبة مواردَ وحمايةً وجاذبيةً وجاهاً يقع الجنس في دائرتها
ربما -اقول محاذرا ربما -كان الجسد واحدةً من أدوات السلطة حينها، وهذه مسألة لا يمكن الجزم بها دون برهان، لكن لا يمكن استثناؤها من فهم ما يدور حالياً
نشبت حرب اهلية في صيف 2014 قوّضت الدولة اليمنية وخلقت فضاءات سلطة متعددة
استقرّ الأمر لسلطة الحوثيينفي صنعاء بالسيطرة على ثلث اليمن وقربة نصف سكانه، وأتاح لهم نطاقهم الجغرافي إقامة سلطةٍ متماسكةٍ تتحكّم بعددٍ كبيرٍ من السكان، فيه كلّ ما يمكن تصوّره داخل المجتمع
في بنيتها التنظيمية، الحوثية نسخةٌ ممسوخة من النظام الإيراني، وتمتح من هذا النظام رافداً عقائدياً وأيديولوجياً
النظام الإيراني القمعي بطبعه يستخدم كلّ ما هو متاح للإخضاع، حتى وإن كان مقرفاً أخلاقياً وغير متّسق مع ادعاءاته
يوظف النساء في الإخضاع ويستخدمهن في أعمال بوليسية يطلق عليهنّ السنونو
بالمقابل، نشأت كانتونات حكمٍ في مناطق الشرعية، ما دون الدولة
هذه تسير بالحدّ الأدنى من النظم والقوانين
الجهاز القضائي فيها بأقلّ الإمكانيات، وهو آخر ملاذٍ يمكن الذهاب إليه، وهو أضعف حلقات أدوات الحكم
هذه بيئة خصبة للتجاوزات
لكن هذا ليس موضوعنا طالما تسعى إلى العناية ب استخدام الجسد والجنس على نحوٍ فضائحيٍّ في إطار العداوات
أنا أفترض أمرين:أولاً: أنّ بعض من يستخدمون الجنس فضائحياً في النيل من خصومهم كانوا في الأصل جزءاً من السلطة وتمرسوا على هذا التوظيف؛ اي هم ابناء الجهاز الامني الممسوخ والمتشظي،مع فارق أن السلطة الآن متشظية ومنفلتة، لذا فهم منفلتون في استخدامهم الفضائحي لقضايا الجنس والجسد
هناك من يعمل ليل نهار على تقويض شرعية الحوثي من خلال موضوع الجنس والعار والفساد الاخلاقي وتجاهل ما تفعله الحوثية في مجال السياسة والمال والفكر وهندسة المجتمع طائفياً وطبقياً
وكذلك فعل الحوثيون في كل شاردة وواردة ولنتذكر ما كانوا يقولون حول تسليم الشرعية لبنات اليمن للجنود السودانيين مثلاً
والافتراض الثاني: أنّ الحرب الجارية في اليمن أزالت أستار العيب والحرج في المجتمع إلى درجة ابتذال واستسهال الدعاية الفضائحية
البعض يتوهّم أنّه حين يستخدم الفضيحة الجنسية ضدّ خصمه ينتزع عنه شرعيةً أخلاقيةً وسياسيةً، لكن الحاصل هو أنّ استخدام الفضيحة الجنسية يعني هدم الحاجز الفاصل بين ابتذال الفضيحة والتطبيع معها، وبين الحفاظ على حدٍّ أدنى من تعفّف المجتمع عن الطعن في الأعراض، وتوظيف العرض/الجسد/الجنس (وغالباً النساء والأطفال هم ضحايا هذا الفجور) توظيفاً مقيتاً في الصراع
تارةً نتحدّث عن سياسةٍ ممنهجةٍ لاغتصاب الأطفال (في تعز مثلا كما يتلقف البعض هذا الإدعاء) أو النساء، وتارةً نتحدّث عن شبكات دعارةٍ برسم نافذين
وتتكون هذه الادعاءات في سيل من التراشق السياسي والأيديولوجي، وتجري في العادة دون اللجوء إلى القضاء
أتعجّب من عجز الحركة النسوية عن الاشتغال بهذا الموضوع، والعمل على تحرير الجسد من الاستغلال السياسي والتوظيف الصراعي
إنّ مغبّة استخدام الجسد على نحوٍ فضائحي تتجاوز بكثير مكاسب النيل من الخصم، لأنّ هذا الاستخدام يفتح أمام المجتمع باباً كان موصداً، ويُشرعن الجريمة الجنسية بوصفها أداةً للهيمنة والسيطرة
إنّ الواجب الأخلاقي والوطني يقتضي من القوى السياسية، وبارونات الكانتونات، والعقلاء في اليمن جميعاً، أن يسعوا إلى إغلاق هذا الباب، وإبقاء ما يتّصل بهذه القضايا ضمن الإطار القانوني والقضائي، بما يصون المجتمع من انتهاك الجسد رمزياً، ويحمي النساء والأطفال من توسيع دوائر الاستباحة والانتهاك
ينبغي للمؤسسات الحقوقية أن تضطلع بدور أكبر في رصد الانتهاكات وتوفير فضاء آمن لأسر الضحايا وربط الواقع بالمسلك الأمني والعدلي حتى لا يكون مجالاً للمزايدة، والدفاع عن الضحايا وتولي أمر مكافحة استخدام الجنس كجريمة سياسية