د. مصطفى الجبزي : اليسار اليمني ومحنة المعرفة

منذ 3 أيام

د

مصطفى الجبزي ‎أتذكّر أنّني في إحدى المرّات كنت في نقاشٍ مع مشرفي في دراسة الدكتوراه، البروفيسور جان-لوك ناهيل، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة روان، وتحدثنا عن دولة اليمن الجنوبي، التي سبق أن زارها قبل عقودٍ خلت، وتحديدًا جزيرة سقطرى، حين كان يعمل ضمن منظمة دولية في المجال الطبي

قلت له: في تلك الفترة، لم يكن علم الاجتماع في دولة الجنوب يُدرَّس في الجامعة

أجابني: لأن الأنظمة اليسارية في ذلك الوقت لم تكن ترغب بأن تعرف الشعوب نفسها

‎وجدت هذا المعنى لاحقًا في كتاب الأكاديمي والمؤرخ والسياسي اللبناني الذي يقرأ المجتمع بعيونٍ سوسيولوجية، فواز طرابلسي «جنوب اليمن في حكم اليسار»، بل إن العبارة وردت فيه تقريبًا حرفيًا: الأنظمة اليسارية في الجنوب لم تكن تريد للمجتمع أن ينظر إلى داخله ويفهم حقيقته

لم تكن تلك الأنظمة تنطلق في تعاملها مع الواقع من دراساتٍ اجتماعية، بل كانت تُبدي نفورًا واضحًا من العلوم الإنسانية

‎هذه النقطة يمكن أن تقودنا إلى فهمٍ أعمق لأسباب الاصطدام العنيف الذي حدث بين مؤسسي الوحدة اليمنية – ممثلين بالحزب الاشتراكي من جهة، وتحالف صالح من جهة أخرى

‎بالطبع لذلك الصدام أسبابٌ سياسية وأيديولوجية، ومناخٌ جيوسياسي إقليمي ودولي، ومطامح فردية للسلطة، وترسّبات فترة حكم الحزب الواحد والحكم الفردي، واختلال موازين القوة

لكن جزءًا من أسباب ذلك الصدام هو الجهل بالمجتمع ككل، والجهل بالأطراف في الواجهة

‎خرج الحزب الاشتراكي من تلك المواجهة بهزيمةٍ مؤلمة، وخسر اليمنيون فرصة تأسيس دولةٍ وطنية ذات حكمٍ رشيد وديمقراطيةٍ فعلية

‎السياسة، كما نعلم، قائمةٌ على المناورة، ويخسر فيها من لم يتقن فنّ التقدير والقراءة الواقعية

‎لم يكن الحزب الاشتراكي أقل قدرةً على المناورة، لكنه لم يعرف طبيعة المجتمع الذي ذهب إليه

ذهب بعاطفته، لا بعقله السياسي ولا المعرفي

ولهذا كان ضحيةً مزدوجة: ضحية جهله بالمجتمع، وضحية صالح الذي أراد التخلّص من أيّ شريكٍ محتملٍ في السلطة

‎أتذكّر بشكلٍ ضبابي أنّ الدكتور حمود العودي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء، قد تناول هذه الفكرة في إحدى محاضراته ضمن برنامج الدبلوم العالي في الدراسات السكانية والاجتماعية الذي التحقت به بين عامي 2006 و2009، ونوّه قاصدًا عدم امتلاك الحزب الاشتراكي للمعرفة الاجتماعية والسوسيولوجية الكافية

‎لعلّ ما أعانه على ذلك أنّ الدكتور حمود العودي كان قد قضى جزءًا من حياته في الجنوب بعد أن تعرّض لحملة إقصائية شرسة بسبب كتبه وأفكاره، قادها ضده إسلاميون متشددون حينها

‎كانت محاضرات الدكتور في غاية المتعة، وكأنّنا أمام فيلمٍ وثائقي، حيث كان ينبش في حقيقة المجتمع اليمني الذي نجهله كثيرًا

‎حتى اليوم، ما تزال التيارات ذات الخلفية الاشتراكية والقومية في اليمن، بما في ذلك الاشتراكيون الذين تشتتوا في الانتقالي وأماكن أخرى، يتحدثون كثيرًا، لكنهم لا يتحدثون عن المجتمع، ولا ينطلقون من معرفةٍ حقيقيةٍ به

‎اليمن مثالٌ بسيط على عدم توظيف أدوات المعرفة توظيفًا حقيقيًا، والافتكاك من النوازع والنعرات

سنجد أكاديميًا اشتراكيًا يمنيًا خاض غمار السياسة سنواتٍ، وأصبح اليوم انفصاليًا شرسًا، وقد كان يُدرّس علم الاجتماع، لكنه لا يعتمد على دراساتٍ ميدانية حتى في دفاعه عن الانفصال

‎وفي المقابل، نرى البراغماتية التي يتعامل بها الإسلاميون، خصوصًا الإخوان وكل ملحقاتهم ضمن خريطة تحالفاتهم العريضة من إسلاميين ليبراليين وأعيانٍ قبليين وجهويين ومراكز ثقلٍ دينية، ممن توفرت لهم فرصٌ وموارد أكثر من غيرهم، واستثمروها في مختلف الجبهات، بما في ذلك جبهة تحصيل المعرفة وفهم الواقع

‎خسر اليسار المعركة السياسية عالميًا مطلع التسعينيات، مع أنّ بوادر الخسارة كانت قبل ذلك بقليل

وانتقلت القوى النضالية اليسارية في كثيرٍ من أنحاء العالم إلى حقولٍ جديدة بعد أن أفسدت السياسة العمل النقابي والتنظيمات الجماهيرية

‎كان مجال حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني هو ميدان النضال، مع هروبٍ حقيقي من القضايا الجوهرية نحو تحريك القضايا

ومع هذا، تأخر اليسار اليمني كثيرًا في هذا الانتقال

 حتى إذا قسنا انخراط قوى اليسار والقوى السياسية الدينية، وعلى رأسهم حزب الإصلاح، في هذين المجالين، سنجد تذبذبًا كبيرًا وعدم قدرةٍ على الاستمرارية في طرف اليسار، وربما غيابًا كليًا للقوميين

بالمقابل، تكاثرت منظمات المجتمع المدني المحسوبة على الإسلام السياسي، واستحوذت على المناشط الاجتماعية والإنسانية، لدرجة أن سلطة صالح اتجهت لمنافستها

قد يقول البعض: الفارق يكمن في الموارد

نعم، ولكن أيضًا الفارق الجوهري يكمن في تحديد المجالات الاستراتيجية واتخاذ القرار في حقول النضال وتقرير النفعية تجاه المجتمع

‎تتعدد أسماء الفاعلين المنتمين إلى شبكة الإسلام السياسي بكل أطيافها

تنشط عشرات مراكز الدراسات ومنظمات حقوقية ومحافل شبابية وشبكات إعلامية وإخبارية ناهيكم عن المؤثرين في وسائل التواصل والدخول في عالم البودكاست من ماليزيا مرورًا بإسطنبول ثم أوروبا وانتهاء بأمريكا وكندا

ما يعنيني هنا هو سلوك الأطراف اليمنية المختلفة، ومدى استفادتها من معرفة المجتمع

‎البعض يملك معرفةً نظريةً وتجريدية عميقة، لكنه لا يُحسن توظيفها سياسيًا ولا يعكسها عملياً نحو المجتمع وما يزال ينقل إلى سامعيه من كتب بالية مزقها الإهمال وسقطت في مسار التجربة والتغريب، بينما هناك من يفكّر بجدّية في توظيف أدواتٍ التأثير والتوصل إلى المجتمع والسعي لفهم هذا المجتمع، ويبذل جهدًا لتحقيق ذلك منطلقا من تصورات عقائدية وأيديولوجية

من هذا المنطلق، فإنّ خسارة المعركة، في بعض السياقات، ليست أمرًا مفاجئًا

‎عقب مقتل افتَهان المشهري، تواصلت مع أصدقاء يمنيين في الداخل ينتمون إلى اليسار وما جاوره من القوميين، وطلبت منهم إن كانوا يملكون فرقًا قانونية أو مجموعات نقاشٍ للانضمام إليها والتعرّف عن قرب على طريقة التفكير والنظر إلى هذه القضايا وغيرها من القضايا التي يعج بها المشهد اليمني وتخلّف انقسامًا حادًا

‎بدَا لي بكل وضوح أنه لا توجد مجموعات نقاشٍ أو فُرق تخصصية تفتح باب الحوار مع أطرافٍ مختلفة وتدير حلقات عصفٍ ذهني، وتُثري المعطيات، وترسم خطوط التفكير

‎يستهلك الحزبيون اليمنيون طاقتهم في تبادل الاتهامات، وينزلقون إلى مزالق الفجور الحزبي، ويقعون فرائس سهلة للتضليل والتعمية الدعائية

 وربما أكثر الأطراف ضحيةً لهذا الوضع هم شباب اليسار المنقسمون بين قيادةٍ لم تغادر أحداث 1994 وترى نفسها حزبًا يمنيًا مخصصًا لشؤون الجنوب، وشبابٍ يفتقر لأدواتٍ ملائمةٍ لخوض نقاشٍ أو خصومةٍ سياسيةٍ حميدة مع الأطراف السياسية المهيمنة على المشهد