د. مصطفى الجبزي : عن برنامج المتحرّي

منذ 8 ساعات

د

مصطفى الجبزي شاهدتُ الفيلمَ الوثائقي الذي بثّته قناة الجزيرة ضمن برنامج المتحري، بعنوان اليمن وإسرائيل… جذور الصراع

 سعيد بوجود وثائقي من هذا النوع، يتتبّع طبيعة العلاقة/الاشتباك — إن وُجدت — وعمقها بين اليمن وإسرائيل، فإن وجود عملٍ وثائقي كهذا يُعدّ أمرًا جيدًا ومحمودًا

وأشكر الصديق جمال المليكي على إنجازه لهذا الفيلم

والحقيقة أن توقيت عرض هذا الفيلم، والعنوان الذي اختير له، من الطبيعي أن يثيرا بعض الالتباس، ولا سيما بعد أن قضى الحوثي أكثر من عامين وهو يتسلّى ويُسلّي أنصاره بتدخلاته العسكرية باسم نصرة غزة، دون أن يُحدث أي أثرٍ حقيقي، سوى جَرّ اليمن مجددًا إلى قصفٍ واعتداءاتٍ خارجية مدمِّرة للمنشآت والمصالح اليمنية، خدمةً للمصالح الإيرانية

انتهيتُ من مشاهدة الفيلم، الذي تناول — بشكلٍ أجمل — أهداف ومصالح التدخلات الإسرائيلية في منطقة البحر الأحمر، ولا سيما في جنوبه، سواء في اليمن أو في القرن الإفريقي

وأول ملاحظة أبديها هي أنني تمنّيت لو كان عنوان الوثائقي إسرائيل وجنوب البحر الأحمر، ليكون أكثر اتساقًا مع محتواه

إذ أوضح الفيلم بدرجة كبيرة وجود تدخلات إسرائيلية مبكرة، بلغت حدّ التدخل العسكري أو الاستخباراتي

وإذا نظرنا إلى أول تدخل إسرائيلي خارج حدود الجغرافيا التي خُطّت لها منذ نشأتها عام 1948، فإننا نجد أنه بعد أقل من خمس عشرة سنة بدأت إسرائيل تنفيذ تدخلات عسكرية في اليمن على بُعدٍ يزيد عن ألفي كيلومتر من موقعها

كما يشدد الفيلم

 بمعنى آخر: إن إسرائيل أُنشئت لتكون قوةً قادرة على التدخل عسكريًا خارج حدودها، ولا توجد دولة تنشأ من الصفر، وبعد خمسة عشر عامًا فقط تصبح قادرة على تسيير جسرٍ جويٍّ ونقل معداتٍ وسلاحٍ لمواجهة دولٍ مجاورة في مناطق بعيدة، بل والقيام بمهام كانت في الأصل من صميم مهام قوى استعمارية كبرى كالمملكة المتحدة آنذاك

ومن المثير للاهتمام أن إسرائيل تدرس — بشكل عام — طبيعة أوجه الافتراق والخصومات والانقسامات بين شعوب منطقة جنوب البحر الأحمر، سواء في الضفة اليمنية أو في الضفة الإفريقية

ولذلك، فإنها في كل مرحلة من مراحل التحولات السياسية في هذه المنطقة، كانت تتدخل بشكلٍ أو بآخر، وغالبًا ما تسلك طريقتين: إما عبر بوابة التعاون والعلاقات، أو عبر التدخل العسكري والاستخباراتي المباشر

والغريب أن هناك من استعجل في قراءة هذا الفيلم، فربطه بدعم الحوثي! ولا يوجد ما يُشير إلى ذلك أبدًا

بل إن ما يُحسب للفيلم هو أنه عاد ليتفحّص تاريخ دور الشعب اليمني — قبل الوحدة — في مساندة القضية الفلسطينية، وكيف أن النظامين القائمين آنذاك، رغم افتراقهما الإيديولوجي، اتفقا على دعم القضية الفلسطينية اتفاقًا كاملًا، لتصبح اليمن واحدةً من أهم المنصات التي احتضنت فعل المقاومة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات

وبهذا، فإن الفيلم يعيد للشعب اليمني حقه في مناصرة قضيةٍ يراها عادلة، وينزع عن الحوثي شرف أسبقية المناصرة — أي بعكس ما ذهب إليه بعض المعلقين

لكنّي كنتُ أتمنى لو أن الفيلم ذهب أبعد من ذلك، واستطاع أن يرصد تفاصيل أكثر حول النشاط الإسرائيلي في اليمن، أو كيف كانت إسرائيل تنظر إلى اليمن منذ البداية: إمّا كمخزونٍ بشري لليهود، أو كمخزونٍ ثقافي

ولا سيما أن هناك مساعٍ إسرائيلية حثيثة لجمع التراث اليمني، بلغت حدّ السعي لانتشال وانتزاع جثامين رموزٍ دينية وثقافية يهودية من داخل اليمن

أو كميدان مواجهةٍ مع مصر، مع توجيه أعينها إلى مسألة الأمن البحري ومركزية باب المندب في ذلك التصور

لم يتوغّل الفيلم أكثر ليُظهر ردود فعل إسرائيل على مؤتمر أمن البحر الأحمر الذي انعقد في تعز

ولم يذهب أبعد ليستكشف كيف أن العلاقة التي ربطت إسرائيل بطول المنطقة — سرًا أو جهرًا — كانت لها انعكاسات على اليمن

ماذا كان موقف إسرائيل من الوحدة اليمنية؟كما تمنّيت لو أن الفيلم تَعمّق أكثر في طبيعة التدخل الإسرائيلي في القرن الإفريقي، وذهب إلى ما هو أبعد من الإشارات العامة عن الحضور الاستخباراتي، وكان يمكنه أن يتحدث عن عددٍ من الاتفاقيات المبرمة بين بعض دول القرن الإفريقي وإسرائيل وحجم تنفيذيها واستفادة دول تلك المنطقة منها، وكيف أن الأنظمة التي تبدّلت هناك كانت تسعى دومًا لتثبيت أقدامها — ولو على حساب أي مبادئ أو قيمٍ مشتركة مع شعوب منطقة البحر الأحمر — من خلال الاقتراب من إسرائيل باعتبارها النافذة الأساسية نحو الدعم الخارجي

وهذا بالضبط ما يجب أن يُقرأ جيدًا في سياق الموجة الجديدة من التطبيع،

نجد ان الفيلم تحاشى تناول العلاقة التي تربط السودان باسرائيل أكانت علاقة صراعية أو اقتراب كما فعل البرهان

 قرأتُ بعض التعليقات التي بدت متسرّعة تجاه الفيلم، لكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي محاولات لرفض ما كشفه الفيلم من أن لإسرائيل نشاطًا عدائيًا تجاه شعوب جنوب البحر الأحمر، وأنها سعت دائمًا إلى توسيع الفجوة بين المكوّن العربي وغير العربي، وبين المكوّن المسلم وغير المسلم في هذه المنطقة

وهناك من يريد أن يصوّر إسرائيل على أنها كانت صديقةً دائمة لشعوب هذه المنطقة، وأنها وجدت نفسها بالصدفة في حالة عداوةٍ مع جوارها، وكأنها بلا ذنبٍ في ذلك

بل يسعى إلى ردم العلاقة الانتهازية بين نظام الإمامة وإسرائيل، أو يُهوِّن من التدخل العسكري الإسرائيلي في اليمن، كما لو أنه تدخلٌ إغاثيّ، وليس محاولةً لإخماد ثورة شعب

وهذا النوع من القراءة — إذا لم يكن يسعى إلى تبرير الحقيقة الإسرائيلية — فإنه يُحاول أن ينتزع القضية من جذورها التاريخية، ليحصرها في صراعٍ مع قوى الإسلام الراديكالي، وهو اختزالٌ مخلّ وغير أمين