زارة الحرب.. ولادة هوية أمريكية جديدة في النظام الدولي - [تحليل]
منذ 16 ساعات
إن قرار تغيير اسم وزارة الدفاع الأمريكية إلى “وزارة الحرب” ليس تفصيلاً بروتوكولياً أو شكلياً، بل هو إعلان استراتيجي صريح عن تحول فلسفي في عقيدة القوة الأمريكية
فالاسم ليس مجرد لافتة على مبنى، بل هو انعكاس لجوهر الرؤية التي ترى بها الدولة نفسها والعالم من حولها
وإذا كانت التسمية السابقة – “وزارة الدفاع” – تحمل معنى الشرعية الوقائية والردعية، فإن “وزارة الحرب” تنقل الخطاب إلى مستوى آخر: الحرب لم تعد استثناءً، بل تصبح قاعدة، أداة مشروعة ومباشرة في صياغة السياسة وحماية المصالح
هذا التحول يعيدنا إلى جذور الدولة الحديثة كما تصورها توماس هوبز: الدولة تحتكر العنف المشروع، وتفرض النظام ليس عبر التوافق الطوعي، بل عبر التهديد الدائم باستخدام القوة
وبهذا، فإن إعادة التسمية تعكس قناعة أمريكية جديدة بأن النظام الدولي اليوم لا يمكن إدارته بالردع فقط، بل بالقدرة على المبادرة، على فرض الهيمنة لا انتظار التهديد
إنها عودة إلى المنطق البدائي للدولة كما صاغه هوبز: الحرب الدائمة في خلفية السلم، كشرط لوجود الدولة واستمراريتها
القرار أيضاً يمكن فهمه في ضوء أفكار كارل شميت، الذي اعتبر أن جوهر السياسة هو التمييز بين “الصديق والعدو”
من خلال هذا المنظور، تعلن واشنطن أنها لا تتعامل مع العالم كشبكة من الحلفاء والشركاء فقط، بل كساحة صراع دائم تتطلب وضوحاً في تعريف العدو والاستعداد لحسمه عسكرياً
العودة إلى “وزارة الحرب” ليست مجرد لعب بالمصطلحات، بل هي تجسيد لرؤية ترى أن الاستقرار لا يُبنى إلا عبر الحسم الصارم في تحديد العدو ومواجهته
هنا تنزاح الولايات المتحدة من خطاب “الدفاع الجماعي” إلى خطاب “الهجوم المشروع”، من احتواء التهديد إلى تدميره
أما من الناحية الوجودية، فإن هايدغر يقدم قراءة فلسفية مختلفة: الحرب ليست حدثاً عارضاً، بل تعبير عن “انكشاف الوجود” في لحظة صدامية تكشف حقيقة الكيانات وتحدد مصيرها
بهذا المعنى، فإن استعادة التسمية تمثل إقراراً أمريكياً بأن الصراع هو جوهر الوجود الدولي، وأن الأمة التي تريد البقاء قوة عظمى لا بد أن تعترف بالحرب كشرط وجودي، لا كعارض يمكن تفاديه
دولياً، هذا التحول يرسل إشارات مزدوجة
من جهة، هو رسالة ردع هجومية للخصوم التقليديين – روسيا، الصين، إيران – بأن واشنطن لم تعد تحصر نفسها في لعبة الاحتواء، بل هي مستعدة للانتقال إلى المبادرة وفتح جبهات جديدة
ومن جهة أخرى، يضع الحلفاء الأوروبيين في مأزق: فلسفة الأمن الأوروبي تقوم على الدفاع الجماعي والتوازن، لا على الهجوم والمبادرة العسكرية
لذلك، قد يُفهم القرار كخروج عن قيم “التحالف الغربي”، وتدشين مرحلة جديدة من الهيمنة الأمريكية المنفردة حتى على حساب الشركاء
الأثر المباشر يتمثل في إعادة تشكيل التوازنات الدولية: سباقات تسلح متسارعة، تقارب أكبر بين القوى المنافسة لمواجهة ما يبدو كمزاج أمريكي عدواني، وتفكك محتمل في البنى الأمنية القائمة مثل الناتو الذي قد يجد نفسه منقسمًا بين رؤية هجومية أمريكية ورؤية دفاعية أوروبية
كما أن القرار قد يمنح بعض القوى الإقليمية مبرراً لتبرير صعودها العسكري أمام شعوبها: إذا كانت واشنطن نفسها تعلن الحرب كهوية، فما المانع من أن تُبنى العقائد العسكرية الإقليمية على نفس المنطق؟داخلياً، التسمية تلعب على وتر الرمزية الوطنية: فهي تعيد إحياء صورة “أمريكا المنتصرة” في الحربين العالميتين، وتستدعي مخزون الأمجاد العسكرية في الوعي الجمعي الأمريكي
هنا يظهر البعد السياسي الداخلي: إدارة ترامب (أو أي إدارة تحمل هذه الفلسفة) تسعى إلى إعادة تعبئة الروح القومية عبر رفع الحرب إلى مرتبة الفضيلة الوطنية، وتعميق فكرة أن “السلام عبر القوة” ليس شعاراً، بل استراتيجية حياة
إن تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، إذن، ليس مجرد تبديل لغوي، بل هو إعلان هوية جديدة: هوية تقوم على الحسم، على المبادرة، على الاعتراف بالحرب كأداة سياسية وشرط وجودي
ومن هنا، فإن المستقبل الدولي قد يتجه نحو مشهد أكثر صدامية، حيث تُعاد صياغة العلاقات الدولية وفق منطق القوة الخام لا وفق خطاب الشرعية والدبلوماسية
والسؤال الفلسفي العميق الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام عودة إلى “الزمن الهوبزي” – حيث الحرب الدائمة هي الحالة الطبيعية للعالم – أم أمام لحظة شميتية جديدة حيث يُعاد تعريف السياسة عبر العدو، أم أننا نقترب من رؤية هايدغرية ترى في الحرب كشفاً لجوهر الوجود الدولي؟ أيّاً كانت الإجابة، فإن المؤكد أن الولايات المتحدة – عبر هذه التسمية – قررت أن تنزع آخر أقنعة الدفاع، وتكشف وجهها الحقيقي: القوة كهوية، والحرب كلغة سياسية كبرى