سليمان العقيلي : الجمل في حياة الأنبياء: من وسيلة نجاة إلى رمز رسالة

منذ يوم

سليمان العقيلي لم يكن الجمل يوماً مجرّد حيوان صحرواي يقطع المسافات تحت لهيب الشمس، وفي هجير السراب

بل كان في عمق التاريخ الإنساني والنبوي شاهداً على أبرز تحوّلات الرسالة ومعنى الحياة الإنسانية

فمن رمال الصحراء القاسية وامتداد الأفق الذي لا يُرى له آخر، خرج الجمل ليكون صلةً بين الإنسان وبيئته، وبين الأرض والوحي، وبين العبور والبلوغ

عبر مسيرة الأنبياء اتخذ هذا الكائن الصبور مكانةً تتجاوز الطبيعة إلى الرمز، فصار وعاءً للنجاة حيناً، وأداةً للبناء حيناً آخر

في حياة موسى عليه السلام، لا يرد ذكر الجمل صراحةً في النصوص، لكنه حاضر في المشهد كلّه حضوراً خفيّاً وفاعلاً

فالصحراء الممتدة بين مصر ومدين ( شمال غرب الجزيرة العربية ) ثم إلى سيناء كانت مسرحاً لرحلته الكبرى، والجمل هو الوسيلة المنطقية لعبورها

من خلال هذا الارتباط، تجلّى الجمل كرمزٍ للثبات في وجه التيه والحرمان، تماماً كما صبر موسى وقاد قومه في طريقٍ محفوفٍ بالعطش والجوع والضياع

لقد تحوّل الجمل إلى مرآةٍ روحية تعبّر عن أمةٍ تسير نحو الخلاص، تتعثر لكنها لا تتوقف، تصبر كما يصبر الإبل على الظمأ، مؤمنة أن وراء الصحراء وعداً بالمنّ والسلوى

أما في رسالة محمد ﷺ، فقد تبدّل موقع الجمل من كونه أداة نجاة إلى كونه ركناً من أركان التمكين

لم يدخل النبي المدينة على فرس ولامركبة فاخرة، بل على ناقته القصواء، التي توقفت في موضعٍ اختارته إرادة الله ليكون مسجده الشريف

هناك، تحوّلت الناقة إلى شاهدٍ على البناء الأول لحضارة الوحي، حضارةٍ لا تبدأ من قصرٍ ولا من سيف، بل من راحلةٍ صبورة تُرسي أول حجرٍ في مسجدٍ جامعٍ للناس والقلوب

ومن الهجرة إلى الغزوات إلى حجة الوداع، ظل الجمل رفيقاً للرسالة في ميدانها التبشيري والتعبدي ، يرمز إلى توازن القوة والرحمة، الحركة والاستقرار، الأرض والسماء

بين موسى ومحمد عليهما السلام، يتشكل خطّ تطوّر رمزي للجمل في التاريخ النبوي:•مع موسى، هو دليل الصابرين في التيه، وأيقونة السعي نحو الحرية والإيمان

•ومع محمد، هو وسيلة الممكّنين الذين بلغوا شاطئ الرسوخ وبدأوا التأسيس لعمرانٍ يحمل روح الصحراء ونور الرسالة

وقبل كليهما، برزت ناقة صالح عليه السلام كأول تجلٍّ لهذا المعنى، آيةً من آيات الله، تذكّر الإنسان بأن الكائنات والبيئة ليست ملكاً له، بل أمانة في عنقه

حين كفر قوم صالح بالآية، أهلكهم الله، لتبقى الناقة رمزاً للحدّ الفاصل بين الإيمان والطمس، بين احترام النعمة واستكبار الجاحدين

هكذا تمتد رمزية الجمل من زمن صالح إلى موسى إلى محمد، لتشكّل مدرسة أخلاقية كاملة: من التحدّي إلى الصبر إلى التمكين

ولذلك لم يكن من الغريب أن يزدري البعض الجمل لانهم عجزوا عن إدراك معناه الحضاري والروحي، وقدرته على أن يكون سفينة الصحراء التي علمت الإنسان معنى الصبر والحلم والإيمان بسنن الله في الخلق

 إن ازدراء الجمل ليس إلا امتداداً لازدراء روح علاقة الإنسان بالبيئة التي حملت أعظم الرسالات، الرسالة التي جعلت من صبر الإبل مثالاً، ومن رحلته في الهجير طريقاً نحو النور

فالجمل في ثقافة الوحي ليس حيواناً منبوذاً كما زعموا، بل هو رمز الإنسان المؤمن الذي يسير في رمال الابتلاء ثابتَ الخطى، عارفاً أن وراء العطش ماءً، ووراء الصحراء وعداً سماوياً لا يخلفه الله