عبدالسلام قائد : مطر مطر..
منذ يوم
عبدالسلام قائد أنا اليوم عانقت الغيوم ومشيت بين المطر، شعرت بارتياح عميق بعد شوق طويل للغيث الهتون، تذكرت طفولتي عندما كنت أحب المشي بين المطر، أمضيت بقية المشوار وأنا عائد إلى البيت مشيا على الأقدام بخطى بطيئة لأستمتع أكثر بتلك القطرات التي تداعب الخد والروح وتعلن ميلادا جديدا للحياة
المطر هو من جعل أيوب طارش يتمنى أن يكون سقيفا (أي سقفا يظلل الغير) ليحمي الفتيات (الظبا) من المطر عندما قال:مطر مطر والظبا بينه تدور مكنهيا ريت وأنا سقيفيا ريتنا خدر بدوي كلهن يدخلنهلوما يروح أمخريفيا ريتنا كوز بارد وحدهن يشربنهعلى شوية صعيفوالملاحظ أن التمني هنا متكرر بثلاث صور: سقيف، خدر بدوي، كوز بارد
هذا التكرار يضخم الشوق ويضفي تصاعدا دراميا واضحا، وهي اختيارات مضنية وشاعرية، فالسقيف والخدر والكوز كلها كيانات جامدة، لكنها تتحول إلى رمز للأمان والحماية والوئام مع الآخر، وهنا تتجلى رهافة إحساس الشاعر الذي كتب هذه الأبيات، وعمق تمرده على حواجز المجتمع
المطر هو قصيدة السماء المسكوبة بحبر من ضوء وماء، وصوت المطر رسائل حب وألحان عذبة معزوفة من علياء الغيم، وهو عناق بين الأرض والسماء، ونداء حياة جديدة في قلب الأرض العطشى، وهو يغسل من أرواحنا أدران الغبار كما يغسل أوراق الشجر
ذات يوم صيفي غائم كنت أمشي ظهرا في شارع الجزائر بصنعاء، وفجأة بدأت تتساقط قطرات المطر، وكان يمشي بجانبي رجل كبير في السن، بدأ يترنم بصوت عذب وجميل يقطر شجنا مرددا رائعة أيوب طارش:شني المطر يا سحابة فوق خضر الحقولقولي لمأرب متى سده يضم السيولوآب يهدي لأرض الجنتين السبولوالبيض تقطف زهور الورد بين الحقولوفي الذاكرة الشعبية اليمنية، يعد المطر عرسا للقلوب، وقرينا للطبيعة، وموسيقى تصاحب الحقول والسهول
وقد غنى أبو بكر سالم بصوت يقطر دفئا:يا مطر هاطل على أرض السعيدةروّيت زرعك وارتوت بك وريدهوفي ذاكرتنا الشعبية أيضا يمثل المطر بالنسبة للفتيات محفزا لعيش لحظة جمال حرة في قلب الطبيعة النابض بالدفء والحنين والحركة، ومنها ذلك البيت الشعري المكثف الذي كانت تردده فتيات الأرياف في أزمنة وأمكنة مختلفة:يا ليتني وردة في مدرب السيلمحد شقول لي لا شرق ولا ليلفهذا البيت ليس تعبيرا عن رفض العمل والأوامر في البيت (افعلي كذا
لا تفعلي كذا)، وإنما يمثل صرخة شعرية تمزج بين الرغبة في الجمال والرغبة في الحرية، إنها رغبة أنثى تريد أن تكون كائنا طبيعيا بحتا، تتحرك مع الحياة كما تتحرك الوردة في مدرب السيل، بلا قيود أو وصاية أو أسئلة
فالوردة في ذلك البيت الشعري رمز للجمال والأنوثة والبراءة
ومدرب السيل مجرى الحياة القوي، الفوضوي، الذي لا يضبطه أحد
وأما لا شرق ولا ليل فهي ثنائية الاتجاه والزمن، كناية عن سلطة المجتمع الذي يريد تحديد مسارها
والمعنى بوضوح هو أن الفتاة هنا تفصح عن توقها إلى أن تكون مثل الوردة: لا تُسأل ولا تُحاسب ولا تُوجّه، وإنما تعيش لحظة جمال حرة في قلب الطبيعة بين المطر وفي مجرى السيول، حتى وإن كان مصيرها أن يحملها التيار إلى المجهول
والمطر ينعش فينا ذاكرة الحب والعشق والجمال، وفي حضرته يعود المرء طفلا، يقف خلف الزجاج، يرقب رقصة القطرة على النافذة
وفي حضرة المطر تنفتح الروح لنداء الغيم، وتستعيد الحنين إلى البدايات والشوق للمحبوب، ويحضر المطر كحبيب ثالث، يبارك اللقاء ويزيده دفئا
يقول نزار قباني:أحبكِ حين تمطر
أحبكِ والحزن يسكن عينيك
أحبكِ أكثر
إنه المطر
موسيقى السماء التي تعزف على أوتار الأرض، يغسل الطرقات والأشجار والقلوب، ويترك خلفه خضرة في الحقول والجبال، ورائحة لا تشبه شيئا غير رائحة البدء
وهو القصيدة التي لا تتوقف السماء عن كتابتها، ولا يمل الشعراء من ترديدها، وهو الوطن المتجدد
يقول محمود درويش:أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
والمطر النازل في شباط
يمسح عن روحي الغبار
ما أجمل المطر
ما أجمله وهو يتدفق سيولا في الأزقة والشوارع والجبال والوديان
ما أجمله وهو يروي الأرض العطشى ويشعل في القلوب فرحا طفوليا غامضا
يقول أبو الطيب المتنبي وهو يصف انهمار الغيث:كأن سحابة جفن مبلل
تهاوى فسال الدمع فيه وأهطلا
أي كأن السماء تبكي فرحا حين تمطر، وتسكب في الأرض دموع حياة لا تنفد
وفي أفق آخر، أنشدت فدوى طوقان:وأحب في المطر انهمارهيغسل عن نفسي غبار السنينفالمطر يغسل الروح كما يغسل الطريق، ويعيد للإنسان طهارته الأولى
المطر وعد، والمطر حب، والمطر حياة
هو العيد الذي يأتي من الغيم، والقصيدة المكتوبة على جبين السحاب
قال محمود درويش ذات حنين:المطر سيأتي
لا بد أن يأتي المطر
والمساء يضيء كالحلم
والقلوب تفتح مثل الزهر
أعود وأقول:شني المطر يا سحابة
فقد عاد الزمان ليكتب سطوره
وعاد الفلاح إلى حقله يحمل بذوره
ويغني للوطن: هذه بلادي
وأنا فلاحها والبتول