عبدالله اسماعيل : الثائر علي بن الفضل الحميري… موحّد اليمن وقاهر الإمامة الزيدية وضحية التشويه السلالي
منذ 8 ساعات
عبدالله اسماعيل لا أدري كيف يستسيغ البعض ما هب ودب من الروايات التاريخية التي يختلط سقيمها بصحيحها، دون تمحيص أو تدقيق أو نقد، معللين قبولهم لها بأنها قد وردت في كتاب كذا من الكتب التاريخية أو حتى الكتب الدينية
الدكتور ثابت الأحمدي مفتتح:في سجل اليمن المليء بالتحولات، يطل اسم الثائر القيل علي بن الفضل الحميري كأحد أبرز القادة الذين جمعوا بين الإرادة السياسية، والقدرة العسكرية، وحلم الوحدة الوطنية
خرج من قرية صُهيب في جيشان أبين، ليقود ثورة الجياع التي لم تكن تمردا عابرا، بل مشروعا وطنيا لتحرير اليمن من التبعية، وتوحيد أراضيه، وكسر شوكة الإقطاعيين وقوى الغزو السلالي
ولأنه هدد مشاريع الاستلاب، حظي بنصيب وافر من حملات التشويه، خاصة من أئمة الزيدية وكتّابهم، الذين صوّروه بأسوأ الصور، ونسجوا حوله اتهامات وأساطير سقطت أمام الحقائق التاريخية
اليمن في زمن ابن الفضل: صراعات وجوعفي القرن الثالث الهجري، كانت اليمن غارقة في الانقسام بين بقايا النفوذ العباسي بدولة بني زياد في زبيد، والمشروع الرسي الزيدي الهادوي القادم من صعدة بقيادة يحيى بن الحسين الرسي طباطبا، والامارات المحلية المتحكمة في صنعاء ومحيطها
الفقر كان ينهش الغالبية، والنخب تتحالف مع أي قوة خارجية لحماية سلطتها، ووسط هذا المشهد، وجدت دعوة ابن الفضل صدى واسعا، لأنها وعدت بالعدل وتوزيع الثروة، وإنهاء احتكار السلطة
النشأة والهوية:وُلد علي بن الفضل في صُهيب بجيشان لأسرة حميرية عريقة، وتلقى علوم اللغة والدين والتاريخ والأنساب، فحاز مكانة فكرية مبكرة، وعُرف بتقواه وقربه من الناس
التقى في شبابه بدعاة الإسماعيلية أثناء الحج وسافر إلى الكوفة، لكنه سرعان ما اكتشف زيف الخرافات الشيعية، فعاد إلى اليمن وابتعد عن أي نشاط فاطمي، بل إنه حارب منصور بن الحوشب – أبرز دعاة الفاطميين في اليمن – وأخضعه عام 298هـ، ما يؤكد استقلال مشروعه وكونه يمنيا خالصا لا فاطميا ولا قرمطيا
تحالف الخصوم ومواجهة الرسي:مع اتساع دعوته بين الفلاحين والفقراء، رأت الدويلات فيه خطرا داهما، فتحالفت مع يحيى الرسي رغم خلافاتها معه، فلجأ الرسي طباطبا إلى سلاحه المفضل: التشويه الأخلاقي، باتهامات المجوسية وإباحة المحرمات وادعاء الألوهية، وهي نفس التهم التي رددها ضد خصومه الآخرين
لكن على الأرض، كان ابن الفضل يكوّن جيشا منظما، ويستعد لأوسع توسع سياسي وعسكري شهدته اليمن آنذاك
ثورة الجياع: مشروع عدالة وتوحيدعام 290هـ أطلق علي بن الفضل ثورته من سرو حمير ويافع، رافعا شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه السياسي والاجتماعي: مواجهة الظلم، وتوزيع الثروة، وتحرير القرار اليمني
بمجرد سيطرته، صادر ثروات النافذين لصالح الفقراء، ووفّر الغذاء، وحصّن القرى، وجنّد المظلومين، فتحولت دعوته إلى حركة جماهيرية واسعة وضعت اللبنات الأولى لدولة قوية
معارك التوسع والسيطرة:بدأ بضم لحج وأبين وحضرموت، ثم سيطر على الدملؤة، وفي 291هـ هزم جيش ابن زياد في وادي نخلة بتهامة، فسيطر على زبيد وبقية تهامة
تحرير صنعاء وخروج الرسيفي 293هـ، تقدم نحو صنعاء بتحالف قبلي واسع، ودخلها بخمسة آلاف فارس بعد فرار الحاكم العباسي وأعوان الرسي من الطبريين الفرس، وانضمت إليه قبائل همدان وحاشد وبكيل وقادة بارزون، فتراجع الرسي إلى صعدة حتى وفاته 298هـ
أصبح ابن الفضل أول زعيم يوحّد معظم اليمن بعد الإسلام
الحكم لليمنيين:رفض على بن الفضل خرافة الحق الإلهي وأرسى حق اليمني في حكم نفسه، فوزع السلطة على ولاة من مختلف مناطق اليمن: أسعد الحوالي في صنعاء وذمار، بنو الدعّام في همدان وبكيل، إبراهيم الحكمي في زبيد وتهامة، أبو الفتوح الخولاني في خولان، أحمد الأكيلي في صعدة ونجران، وذو الطوق اليافعي في سرو حمير، وغيرهم، محققا توزيعا غير مسبوق للسلطة
تفنيد التشويه:لم يكن سقوط المشروع الإمامي الزيدي أمام ضربات علي بن الفضل هزيمة عسكرية فقط، بل خسارة سياسية ورمزية دفعت خصومه للبحث عن سلاح بديل، وحين عجزوا عن هزيمته في الميدان، لجأوا إلى أخطر الأسلحة عبر التاريخ: اغتيال السمعة، فشنوا حملة دعائية ضخمة استهدفت شخصه وتاريخه، مستخدمين الاتهامات الأخلاقية والتشويه المذهبي، تماما كما فعلوا مع كل من وقف في وجه مشروعهم حتى اليوم، وهنا تبرز مجموعة من الحقائق التي تكشف زيف تلك الروايات
أولا: مصادر منحازةأقدم من كتب عن ابن الفضل هو علي بن محمد العلوي – ابن عم يحيى الرسي وقائد جيوشه – ثم ابن سمرة الجعدي بعد قرن، وكلاهما كان خصما مباشرا وجزء من الآلة الزيدية الإعلامية
يقول د
علي محمد زيد: ما لحق بابن الفضل من تشويه يعود إلى مؤرخي دعوات أخرى كانت في صراع معه، واستخدمت هذه الاتهامات كدعاية سياسية لإثناء الفقراء عن الانضمام إليه
ثانيا: تهم متكررةأئمة الزيدية نسبوا نفس تهم الإباحية وشرب الخمر لكل خصومهم، مثل الشيخ الدعام وقبائل يام وغيرهم، ما يؤكد أنها دعاية سياسية جاهزة
ثالثا: القصيدة المسيئةاتهم الرسيون علي ابن الفضل بالفواحش ونسبوا اليه زورا بأنه قال قصيدة فاحشة مطلعها:خذي الدف يا هذه واضربي … نقيم شرائع هذا النبيلكن الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (ج6، ص341) أكد أن هذه الأبيات من شعر مسيلمة الكذاب قبل ميلاد بن الفضل بقرون، كما أورد أبو العلاء المعري أن جزءا منها يعود لشاعر عباسي يُدعى الصناديقي
رابعا: شهادات معاصرة ومحدثةالقاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي قال في تعليقه على حديث للرسي: كلمة تبرئ ساحة علي بن الفضل مما رموه به من فظائع
محمد حسين الفرح نقل عن السلالي أحمد محمد الشامي اعترافه_ بعد ان كتب قصيدة مسيئة لعلي بن الفضل اثناء ثورة سبتمبر_: أشهد لله أن علي بن الفضل كان ملكا مظلوما، وأن تاريخه هُمّش من قبل أعدائه
الأستاذ عبدالله الشماحي قال عن بن الفضل: حمل مشروعا لوحدة اليمن والقضاء على المذهبية، فأثار عليه الزيدية والإسماعيلية، فشنوا عليه دعاية كاذبة
الدكتور عبدالعزيز المقالح نفى تماما صحة هذه التهم واعتبرها شائعات خصومه الإماميين، وله ديوان يحمل اسم الثائر ابن الفضلالأستاذ والمؤرخ الكبير مطهر الإرياني مدح علي بن الفضل شعرا:و(ابن الفضل) كم شهدوا حروبا … أرتهم صولة المستبسليناوأشعل ضدهم حربا ضروسا … وأعلن ثورة المتمرديناأتى صنعاء يرفع عن ذراها … مظالم جثمت والفاسقينا إرثه السياسي والاجتماعي:ترك علي بن الفضل الحميري إرثا سياسيا واجتماعيا غير مسبوق في تاريخ اليمن، إذ أعاد رسم خريطة البلاد موحدًا معظم أراضيها تحت راية واحدة، ولم يكن مشروعه قائما على العصبية أو خرافة الحق الإلهي، بل على فكرة أن الدولة مصلحة عامة تقوم على العرف والعهد، وأن السلطة حق لأبناء البلاد جميعا، كما عمل على إعادة توزيع الثروات المصادَرة من النافذين لصالح الفقراء، مما أرسى شكلا مبكرا من العدالة الاجتماعية
بنى علي ابن الفضل قاعدة شعبية واسعة من المهمشين والمظلومين
وبتحريره القرار السياسي من التبعية العباسية، وتصديه للمشاريع المذهبية الوافدة وعلى رأسها مشروع الكاهن يحيى الرسي القادم من فارس، وجّه ضربة قاصمة للكهنوت السلالي، وفتح الباب أمام نموذج حكم وطني قائم على إشراك القبائل ومختلف المكونات في إدارة شؤون البلاد
لقد شكّل حكمه أول هزيمة ماحقة لمشروع الإمامة الزيدية في اليمن، إذ حاصرها في شرعيتها ورمزيتها، لا في ميدان القتال فحسب
الاغتيال والنهاية:ظل يحكم حتى وفاته في مذيخرة عام 303هـ/915م، وأغلب الروايات تشير إلى أنه اغتيل بسم دسّه له طبيب يُدعى علي البغدادي، بتدبير خصومه الذين عجزوا عن هزيمته عسكريًا، خاصة بعد أن حارب الفاطميين والهادويين معا
خلاصة:لم يكن علي بن الفضل قرمطيا أو مبيحا للمحرمات كما صوّرته الدعاية، بل قائدا يمنيا حمل همّ توحيد اليمن واستقلاله، وأطلق أول مشروع عدالة اجتماعية واسع، وخاض اول نصر ناجز ضد ولاية البطنين وخرافة الحق الالاهي ودعاوى الزيدية الإمامية
فشل خصومه في هزيمته بالسلاح، فاغتالوا سمعته
لكن التاريخ المنصف يعيده إلى مكانته كرمز للثورة على الظلم، ودليل على أن التعافي يبدأ من هزيمة الموروث الإمامي الغازي