عبد الملك المخلافي : هل يصنع الفراغ في شمال اليمن دولة في الجنوب؟
منذ 5 ساعات
عبد الملك المخلافي أثار استيلاء المجلس الانتقالي الجنوبي على المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت، وعاصمته سيئون، وطرد آخر الوحدات العسكرية التابعة للدولة — بما فيها وحدات تضم ضباطًا وجنودًا جنوبيين — موجة واسعة من القلق في اليمن وخارجه
فقد رأى كثيرون في هذا التحول مؤشرًا على اكتمال سيطرة الانتقالي على عموم الجنوب، بما في ذلك حضرموت التي بقيت لسنوات بعيدة عن المواجهة المباشرة
ومع تزايد القلق الشعبي، ارتفعت المخاوف العربية والدولية من أن يؤدي هذا التغيير إلى فتح مسار نحو انفصال الجنوب وتمزق اليمن، خصوصًا في ظل الانهيار الذي ضرب الدولة في الشمال بعد الانقلاب الحوثي
فالانقلاب الذي نفذته جماعة الحوثي وسيطرتها على صنعاء ومعظم المحافظات الشمالية لم يمنع فقط الدولة من ممارسة سلطاتها، بل جعل الحكومة الشرعية عاجزة عن إدارة شؤون البلاد من مركزها الطبيعي
والأخطر أن الحوثيين لا يمثلون حركة محلية متمردة فحسب، بل ذراعًا سياسية وعسكرية لإيران، ما جعل الشمال ساحة نفوذ خارجي وزاد مخاوف الداخل والخارج من تفكك الدولة اليمنية واستغلال هذا التفكك لخدمة مشاريع إقليمية أوسع
وفي ظل هذا الواقع، يحاول المجلس الانتقالي تقديم سيطرته العسكرية كبديل جاهز للدولة وكمقدمة “لاستعادة” الجنوب دولته السابقة قبل 1990
غير أن الفراغ، مهما كان عميقًا، لا يصنع دولة جديدة من تلقاء نفسه
فالقانون الدولي لا يجيز للأقاليم الانفصال لمجرد أن العاصمة سقطت أو أن السلطة المركزية ضعفت
الدول لا تتفكك بهذه السهولة، ووحدة أراضيها ليست خيارًا سياسيًا يمكن تغييره بقرار أحادي
ولهذا يدرك المجتمع الدولي أن انقسام اليمن لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى، وأن تشكيل كيان جنوبي منفصل في وقت تتحكم فيه جماعة مرتبطة بإيران على حدوده المحتملة سيضاعف الأخطار بدل أن يقللها
ولهذا بقي الموقف الدولي ثابتًا: اليمن دولة واحدة، وأي تغيير في بنيته لا بد أن يكون نتاج اتفاق سياسي شامل ومتوافق مع القانون الدولي
أما الحجة التي يقدمها الانتقالي بأن الجنوب كان دولة مستقلة حتى عام 1990، فإنها — رغم قوتها العاطفية — لا تستند إلى أساس قانوني يسمح بالعودة إلى ما قبل الوحدة
فبمجرد توقيع اتفاق الوحدة اختفت الشخصيتان القانونيتان للدولتين السابقتين، ونشأت دولة جديدة معترف بها دوليًا
وهذا يعني أن العودة إلى ما قبل الوحدة لا يمكن أن تتم بقرار منفرد، بل فقط عبر اتفاق بين الشريكين واعتراف دولي
وتجارب العالم توضح ذلك: كردستان العراق — برغم مؤسساتها القوية — لم تحصل على اعتراف واحد بعد استفتائها
كتالونيا أعلنت الانفصال لساعات ثم تراجعت
وصومالي لاند، التي كانت دولة مستقلة عام 1960 قبل أن تتحد مع الصومال الإيطالي لتشكيل جمهورية الصومال، لم تحصل على أي اعتراف دولي رغم أكثر من ثلاثة عقود على إعلان انفصالها مجددًا
وكل هذه الأمثلة تؤكد أن إعلان الدولة لا يعني قيامها، وأن الشرعية الدولية شرط لا يمكن تجاوزه
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن الجنوب نفسه ليس متفقًا على صيغة “الدولة” التي يطرحها الانتقالي
فحضرموت تحمل مخاوفها الخاصة المرتبطة بهويتها ومواردها وذاكرتها السياسية، والمهرة تتمسك بخصوصيتها وصلاتها الاجتماعية الممتدة، وشبوة ما تزال ساحة تنازع بين قوى متعددة، وسقطرى تعيش وضعًا مختلفًا تمامًا عن بقية المحافظات، كما أن أبين لها حساسياتها ورؤيتها التي لا تنسجم تلقائيًا مع المشروع الانتقالي، وهكذا عدن وبقية المحافظات ذات الاعتبارات المختلفة
لذلك يصعب تقديم الجنوب للعالم ككيان موحد يسعى للاستقلال، ما دامت مكوناته الأساسية ليست متفقة أصلًا على شكل الدولة أو مركزها أو طبيعة العلاقات داخلها
ومن هنا تبرز أهمية إعادة بناء الدولة اليمنية الموحدة بصيغة جديدة، لا بوصفها مجرد خيار سياسي، بل باعتبارها الإطار الوحيد القادر على حماية مصالح جميع المكونات
فالدولة الاتحادية القائمة على نظام يعترف بحقوق متساوية لمكونات الدولة في السلطة والموارد والتمثيل، قادرة على طمأنة حضرموت والمهرة وشبوة وسقطرى وأبين وعدن أكثر من أي مشروع انفصال غير مكتمل الأركان
فحضرموت يمكن أن تحافظ على مواردها ومكانتها داخل نظام وطني عادل، بدل الخضوع لمركز جنوبي جديد قد يعيد إنتاج التهميش
والمهرة ترى في الدولة الوطنية المتوازنة ضمانة لهويتها وحدودها، بينما لا تجد في مشروع الانفصال ضمانات واضحة
أما شبوة وسقطرى وأبين وعدن، فحاجتها إلى عقد وطني يمنحها صوتًا ودورًا وحقوقًا حقيقية تبدو أكبر من حاجتها إلى سلطة جنوبية مركزية غير متوافق عليها
إن مستقبل اليمن، شماله وجنوبه، لا يمكن أن يُبنى على استغلال لحظة الضعف ولا على انهيار الدولة في الشمال على يد جماعة مرتبطة بإيران، ولا على فرض وقائع بالقوة في الجنوب
الطريق يبدأ باستعادة الدولة اليمنية، وبناء مؤسساتها، وصياغة عقد سياسي جديد يستوعب المظالم، ويضمن الحقوق المتساوية، ويوحد الإرادة الوطنية
أما الاعتقاد بأن الفراغ في الشمال وتحولات حضرموت يمكن أن يمهدا لانفصال ناجز، فليس سوى قراءة مضللة للواقع، كما يروّج بعض المتمصلحين من دعاة الانفصال والجهلة بالسياسة وبالقانون الدولي مهما كانت مناصبهم السابقة
وفوق ذلك، فإن أي خطوة أحادية لإعلان دولة جنوبية ستمنح الحوثي مبررًا لاستئناف حربه ضد المناطق المحررة — بما فيها الجنوب ذاته — بحجة “الدفاع عن الوحدة”، وبما يتيح له استغلال اللحظة لتوسيع نفوذه وفرض واقع جديد يقضي على ما تبقى من مؤسسات الدولة
وهو ما يجعل أي قرار أحادي ليس فقط مغامرة سياسية، بل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الجنوب قبل الشمال
الدول لا تُبنى على ردود الأفعال ولا تُستعاد بالانقسام، بل بوعي سياسي جامع، وبعقد وطني يستوعب الجميع، ويمنح كل مكون مكانه وحقوقه ومسؤوليته في مستقبل البلاد
(خاص عروبة 22)