لم تعد الحياة سهلة بعد أن صمتت البنادق في عدن
منذ 6 أيام
كتب: مراد عبده - في ليلة خانقة الحرّ في عدن، عندما انقطعت الكهرباء مجددًا، خرجت وجلست تحت عمود إنارة محطّم
كانت المدينة من حولي غارقة في ظلامٍ وصمتٍ مطبق، لا يقطعه سوى أزيز المولدات الخاصة وهي تسعل ضوءًا باهتًا لأولئك القادرين على دفع ثمنه
تساءلت في نفسي: إلى متى سنظل نعيش على هذا النحو؟ إن عدني الحبيبة، وإن كانت لم تعد تُقصف كما في السابق، إلا أنها تموت ببطء في هوامش العالم — مدينة منسية لم يعد ألمها يجد طريقه إلى العناوين الرئيسية في الأخبار
ما زلت أذكر الفرح والأمل في يوليو 2015، عندما تم طرد مقاتلي الحوثي من المدينة بدعمٍ من القوات السعودية والإماراتية
يومها تدفقت العائلات عائدة إلى منازلها، وعادت الأسواق إلى الحركة، وامتلأت الشوارع بأصوات ضحك الأطفال
لوهلةٍ قصيرة، بدا السلام قريبًا، وبدا أن إعادة الإعمار ممكنة
كان البعض يتخيل عدن تنهض مجددًا كمركزٍ إقليمي، وربما كـ“دبي أخرى”
ولم يكن ذلك حلماً بعيد المنال، فميناء عدن كان يومًا من أكثر الموانئ ازدحامًا في العالم، محطةً حيويةً تتزود فيها السفن بالوقود وتتبادل البضائع في طريقها بين القارات
حتى إن هناك من تحدّث عن تحويلها إلى العاصمة السياسية الجديدة لليمن
لكن تلك الأحلام تهاوت واحدًا تلو الآخر
فالسفارات الأجنبية والبعثات العربية لم تستقر هنا قط، بل فضّلت التمركز في العاصمة السعودية الرياض
لا يأتون إلى عدن إلا لساعاتٍ خاطفة من “الدبلوماسية السريعة” قبل أن يعودوا على الفور
أما المباني العامة والسكنية المثقوبة بالرصاص فما تزال قائمة، شاهدةً بصمتٍ على بطء وتيرة الإعمار
وهكذا، تحمل عدن لقب “العاصمة المؤقتة لليمن” كالتاج الفارغ، اسمًا بلا مضمون
اليمن اليوم بلدٌ ممزق؛ الحوثيون يرسخون سلطتهم في الشمال والغرب، بينما يتمسك الجنوب بحكومةٍ هشة تتقاسم النفوذ وتعتمد على الدعم السعودي والإماراتي والغربي
بالنسبة لنا في عدن، هذا الانقسام ليس مجرد خريطة سياسية، بل واقعٌ نحياه كل يوم عند نقاط التفتيش كلما هممنا بالسفر شمالًا
هناك يقف مسلحون من فصائل مختلفة، يحملون بنادقهم باسترخاء وهم يطلبون بطاقات الهوية، يتفحّصون الأسماء ومسقط الرأس ليقرروا من يُسمح له بالعبور ومن يُعاد أدراجه
أحيانًا يحتجزون البعض
لقد أصبحت الخشية قانون السفر، والخوف بديلاً عن الحرية
وكما يُمنع علينا العبور شمالًا، فإن أصدقاءنا من صنعاء ومحافظات الشمال يخشون المجيء جنوبًا
يخبرونني أنهم يواجهون الخوف نفسه، إذ تستقبلهم نظرات الشك ذاتها عند كل حاجز
في عدن، يقول الناس إن ما يقتلهم لم يعد القصف أو الرصاص، بل معاناة الحياة اليومية: الظلام والعطش والجوع والخدمات المنهارة
الانقطاعات الكهربائية تمتد من 15 إلى 20 ساعة في اليوم، فتقضي الأسر لياليها تتصبب عرقًا
الماء لا يصل إلى المنازل إلا بضعة أيام في الأسبوع
والقمامة تتراكم في الزوايا، تفوح منها الروائح تحت شمسٍ لا ترحم
يسخر الناس بمرارة قائلين: “لم يتغير شيء سوى الزيّ الذي ترتديه المعاناة
”قال لي أحد السكان: “نُستهلك ببطء، كأن الحياة نفسها تعاقبنا على أننا ما زلنا أحياء
”الكلفة الإنسانية تبدو في كل مكان
في السوق، يشكو التجار من ركود المبيعات وارتفاع الأسعار
قال لي أحد الباعة: “الناس يأتون ليتفرجوا، لا ليشتروا
بالكاد يستطيعون شراء الخبز والأرز
”وفي متجرٍ آخر، سمعت حوارًا مؤلمًا
سأل البائع زبونه: “متى ستسدد دينك؟” فأجابه الرجل بلا تردد: “حين تدفع الحكومة راتبي
” في عدن، هذه ليست نكتة — فالأجور تتأخر لأشهر، وعندما تُدفع أخيرًا، بالكاد تكفي ثمن الطعام والدواء
في أحد الصباحات الأخيرة، مررت بمدرسةٍ في حينا
داخل صفٍ خانق الحرارة، جلس عشرات الأطفال على الأرض مباشرة، وكتبهم محفوظة في أكياسٍ بلاستيكية لأن عائلاتهم لا تملك ثمن المستلزمات الدراسية
المراوح معلقة في السقف، لكنها ساكنة — لا كهرباء
في مقدمة الصف، كان المعلم، بثيابه المبتلة بالعرق، يواصل الكتابة على السبورة
قال لي إنه لم يتقاض راتبه منذ شهور، لكنه يأتي كل يوم
“لو أغلقنا أبواب المدرسة، ستبتلعهم الشوارع،” قال وهو ينظر إلى الأطفال
“والشوارع اليوم تعني العصابات أو البنادق
”في الحي نفسه، التقيت ابن جاري البالغ 15 عامًا، وكان يدرس سابقًا مع أخي الصغير
اليوم يرتدي زيًا عسكريًا ويحمل بندقية
قال لي: “ما الفائدة من الدراسة؟ والدي مريض ومتقاعد بلا راتب
يجب أن أساعد أسرتي
نحن بحاجة إلى طعام ودواء، لا إلى شهادات
”كلماته أثقلت قلبي
فعدن، وإن كانت لا تسمع هدير الطائرات أو دوي المدافع كما في صنعاء وسواها من المحافظات الشمالية الخاضعة للحوثيين، إلا أن الصمت الذي نعيشه — غياب الحكم والخدمات وحتى الأمل — هو نوع آخر من الحرب
ليلًا، ألتقي أحيانًا برجلٍ مسن في زقاقنا
قال لي إنه في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، كانت الرواتب تُدفع في موعدها، وكانت الأضواء تضيء المدينة مع الغروب
“الآن لدينا سلامٌ بلا خدمات،” قال متنهّدًا
“أيُّ سلامٍ هذا؟”وفي تلك الليلة، بينما كنا نتحدث في الظلام، أشعل جاري شمعة صغيرة، ألقى ضوءها الخافت ظلالًا طويلة على الجدران
قال الرجل العجوز بصوتٍ واهن: “لقد صبرنا على ما هو أسوأ
سيأتي يومٌ تبقى فيه الأضواء مضاءة — لعل أطفالنا ينامون بلا خوف، وتنتهي هذه المعاناة اليومية من أجل أساسيات الحياة
”ومن الطرف الآخر للزقاق، تدخل جارٌ آخر كان يستمع بصمت، بصوتٍ هادئٍ مثقلٍ بالتعب:“الأمل أصبح رفاهية،” قال
“من يستطيع الهرب، يفعل
لن يتغير شيء ما دامت بلادنا مقسّمة بين من يتصارعون على السلطة
نحن فقط ضحايا صراعهم
”