محمد جميح : إيران: نتفاوض… لن نتفاوض

منذ 2 ساعات

محمد جميح لم تمر على إيران مرحلة من الإرباك الظاهر، كما هي عليه اليوم من التناقض الذي انعكس بشكل جلي من خلال تصريحات وزير الخارجية عباس عراقجي

يمكن تفهم حالة الإرباك تلك، إذ أن إيران والمنطقة بشكل عام تمران بمرحلة في غاية الحساسية، بل إن النظام في إيران لم يمر بظروف أكثر حساسية من تلك التي يمر بها حالياً، من بعد الحرب العراقية الإيرانية

تارة يظهر الوزير ليؤكد استحالة عودة إيران للمفاوضات، وأخرى يصرح بأنه سيظل يلح على التفاوض لمصلحة الإيرانيين، مرة يقول إن الأمريكيين غير جادين، وأخرى يقول إن إيران غير مستعدة، وتارة يؤكد أن التفاوض والوصول لنتائج مرضية للأطراف كافة ممكن، قبل أن يعود ليقول إن التفاوض مع الأمريكيين غير ممكن، في تذبذب يعكس حقيقة القلق الإيراني من استهداف البلاد مرة أخرى

يدرك النظام في طهران أنه لم يعد يملك الحيز الواسع من المناورة الذي كان لديه من قبل، يدرك أنه تعرض لخسارة كبيرة، توجت بضرب منشآته النووية، يدرك أن تشديد العقوبات وتفعيل آلية «سناب باك» سيؤدي إلى مضاعفات اقتصادية كبيرة، مع ضرب إسرائيل كثيراً من المنشآت الاقتصادية في قطاعي النفط والغاز، ويدرك النظام أن وضع وكلائه ليس أفضل من وضعه، ويدرك – وهنا مكمن الخطر – أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة – ربما – لن تكتفي بالحرب الخاطفة التي بدأتها إسرائيل ضد إيران، واستمرت12 يوماً، خلال شهر حزيران/يونيو

يرى النظام – من جهة – أنه ليس أمامه إلا التجلد، ويدرك أن الولايات المتحدة وإسرائيل تسدان كل الطرق أمامه، من أجل دفعه نحو التشدد، لتبرير ضربه مرة أخرى، وهو إزاء وضع كهذا تنتابه إرادة كبيرة لتفادي ضربة أخرى، وإرادة أخرى لمنع مزيد من التنازلات، غير أنه لم يعد يملك زمام المبادرة، في مسألة التفاوض مع الغرب، مع إصرار الولايات المتحدة على توسيع التفاوض، ليشمل البرنامج الصاروخي، والنفوذ الإقليمي لطهران في المنطقة

لا أحد بالطبع يمكنه التنبؤ بمسار الأحداث خلال الفترة المقبلة، لكن ما هو مطلوب من النظام في طهران يبدو فوق قدرته على الاحتمال والتقبل، لأن القبول بطلبات الدول الغربية ربما يعني كتابة الفصل الأخير، فيما يضاعف رفض هذه المطالب من مشاكل النظام داخلياً، وخارجياً

في الفترة الماضية كان الرهان الأمريكي على مزيد من الضغط الاقتصادي على النظام، على أمل إحداث نوع من الاضطرابات الداخلية التي تؤدي إما إلى إسقاط النظام من الداخل بالاحتجاجات الشعبية المتفاقمة على إثر الضغوط الاقتصادية، حسب بعض الرؤى، أو إلى إضعاف النظام، لكي يكون في وضع لا يمكنه معه التشدد في المفاوضات

أما بالنسبة لبعض الأصوات المتطرفة، فهي لا ترى في الضغوط الاقتصادية والعقوبات أكثر من مضيعة للوقت، وهي تدفع في اتجاه التصعيد العسكري ضد النظام، وهو ما يمكن أن يكون ضمن الاحتمالات الممكنة، في حال فشل سياسة العقوبات، في إحداث النتائج المطلوبة

لا شك أن إيران حاولت حتى من قبل وصول الرئيس دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي، حاولت تفادي الوصول إلى هذا الوضع، وما كانت موافقة المرشد علي خامنئي على ترشح الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان إلا محاولة لاستباق فوز الرئيس ترامب في الانتخابات الأمريكية، في تكتيك كان يهدف إلى إبداء نوع من المرونة مع الجانب الأمريكي، غير أن هذه المرونة يُنظر لها على أنها مجرد تكتيك، لكسب الوقت

ومع ما ذكر، لا يبدو أن النظام سيتوقف عن محاولاته البراغماتية لتفادي ضربة أمريكية إسرائيلية جديدة، رغم أن حيز المناورة يبدو في أضيق حالاته اليوم، أمام النظام الإيراني، رغم عرض التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة، والعزف على وتر الاستثمارات التي يعرف النظام أنها اللغة المفضلة لدى الرئيس الأمريكي، وهي عروض قد لا يجد الرئيس ترامب مانعاً من قبولها، إذا ما تم التوصل إلى صفقة شاملة، بخصوص برامج إيران النووية والعسكرية، وملف التوسع الإقليمي

وفي الوقت الذي تبدو إيران في أكثر لحظات نظامها تعقيداً، فإن تلك اللحظة قد تمثل فرصة أمام النظام لكي يعود نظاماً طبيعياً، يستعيد علاقات إيران الطبيعية مع دول الإقليم والعالم، ويستبعد أساليبه التقليدية في تقوية علاقاته مع الميليشيات التي بناها، والاستعاضة بهذه العلاقة عن العلاقات الطبيعية مع الدول، بما يهيئه ذلك من بناء للثقة بينه وبين العالم الخارجي، ويضمن عودة إيران لدورها المتناسب مع حجمها وإمكاناتها

لا شك أن هذا الطريق بالنسبة للنظام يكاد يكون في صعوبة المواجهة العسكرية، لأنه من الصعب على الأنظمة المؤدلجة المضي قدماً في مسالك تختلف عن مسالك التصعيد، حيث يعد ذلك نكوصاً عن العقائد الأيديولوجية لتلك الأنظمة، رغم أننا يمكن أن نلمح ليونة في نبرة الخطاب الممانعاتي الإيراني، بعد الضربات الإسرائيلية، وخفوت مفردات مثل: مقاومة، فلسطين، القدس، غزة، ونصرة المستضعفين، وهي مفردات كانت ترفع للاستهلاك السياسي، ولا يبدو أن النظام قادر على المضي في الترويج لها، بعد أن تغيرت الظروف، وأصبحت سياسات النظام تمثل عبئاً ثقيلاً، بعد أن كانت تدر المكاسب الكثيرة، خلال العقود الماضية

ومع ذلك فلا بد للنظام من تطبيع العلاقات مع الإقليم والعالم، وهذا التطبيع يتطلب على مستوى الإقليم إقامة العلاقات مع الحكومات لا الميليشيات، وتفكيك الوصفة الإيرانية للمنطقة القائمة على ثنائية حكومة تحكم شكلياً، وميليشيا تحكم فعلياً، ولا بد من الكف عن التوظيف النفعي للقضية الفلسطينية

أما بالنسبة للمجتمع الدولي والغرب بشكل خاص فشروط تطبيع العلاقات تبدأ بالبرنامج النووي الإيراني، ولا تنتهي بالبرنامج الصاروخي والتوسع الإقليمي

أي المسالك سيسلك النظام؟المضي قدماً في السياسات التي أوصلته إلى شبه عزلة دولية، أم إجراء مراجعة حقيقية ـ لا تكتيكية ـ في سياسات النظام الخارجية على وجه التحديد؟تظل الإجابة رهناً بالإرادة السياسية للقوى التقليدية لدى المرشد والحرس الثوري والمنظومة الدينية والسياسية التي تشكل عصب النظام في طهران