محمد جميح : الخطاب الإيراني بين «الممانعة الخشنة» و«الممانعة الناعمة» 

منذ 4 ساعات

محمد جميح منذ مجيء الثورة الإيرانية عام 1979 كان الخطاب الثوري الإيراني يحتشد بكم هائل مما يمكن تسميته مفردات «الممانعة الخشنة» وهي مفردات تأتي ضمن شعارات تغلب عليها صيغة الموت والقتل والمقاومة والتحدي لـ«قوى الاستكبار العالمي» وغير تلك من مفردات الخطاب الثوري في طهران الذي اقتبس من مفردات تاريخ الصراع الطائفي القديم، بالإضافة إلى الاغتراف من مفردات خطابات ثورية آيديولوجية ذات سياقات يسارية معاصرة

وقد ظلت تلك الشعارات حاضرة في الخطاب السياسي والثقافي للنظام في طهران، طيلة فترة «الممانعة الخشنة» وهي «خشونة» على مستوى الأداء الخطابي، لا الفعلي، قبل أن تُلحظ ـ مؤخراً ـ تغيرات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، على الخطاب الإيراني، تلك التحولات التي ربما عكست حالة الجدل السائد، داخل إيران، ليس بين «المحافظين» و«الإصلاحيين» ولكن داخل بنية المعسكر المحافظ ذاته، حيث بدأ الجدل يتزايد في ما يخص السياسات الداخلية والخارجية

ومع أنه من الصعب تحديد تاريخ محدد لرصد ما يشبه إرهاصات تحول، على مستوى الأداء الخطابي، إلا أن السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023 يمكن أن يشكل تاريخاً مفصلياً بالنسبة للأداء الخطابي للنظام في طهران، ذلك أن ما قبل هذا التاريخ كان تاريخاً من «المقاومة الرابحة» لإيران، فيما شكل هذا التاريخ وما بعده ضرباً من «المقاومة المكلفة» بالنسبة للنظام، وهو ما يبدو أنه يشير إلى أن فترة مراكمة الأرباح، على حساب القضايا العادلة، هذه الفترة، ربما استنفدت كل شروطها، ليبدأ التحول، نحو «الحسابات الحساسة» التي لم تعد تنفع معها شعارات العقود السابقة

وهنا يمكن الإشارة إلى أن الإيرانيين ظلوا يستثمرون في القضية الفلسطينية، ويراكمون الأرباح عقوداً طويلة، دون أن يدفعوا ثمناً خطيراً، يمكن أن يجبرهم على تغيير سياساتهم الإقليمية، وعندما حان وقت دفع الثمن آثروا الحفاظ على رأس المال مع المكاسب السابقة، وذلك بمحاولاتهم تفادي الانخراط في حرب إقليمية شاملة مع إسرائيل

ومع ذلك لم يحافظ الإيرانيون على بعض الأرباح التي راكموها، والسبب أنهم ظنوا أنه يمكن أن تكون هناك أرباح مجانية، دفعهم لهذا الاعتقاد سهولة الحصول على تلك الأرباح، خلال السنوات الماضية، غير مدركين الحقيقة التي كانت واضحة، وهي أن مراكمتهم لتلك الأرباح من وراء رفع الشعارات المختلفة كان برضى دولي، وكانت إلى حدود معقولة، لا تؤثر على أرباح الآخرين، وكان عدم إدراك الإيرانيين لهذه الحقيقة هو العامل الأهم الذي جعلهم يدفعون جزءاً من المكاسب السابقة دفعة واحدة

ومع أنه من المبكر الإشارة إلى تحولات في بنية الخطاب الإيراني ـ سياسياً وثقافياً ـ إلا أن هذا الخطاب ربما بدأ مرحلة تحول تدريجي، لا ليتحول ـ كلياً ـ إلى خطاب «غير ممانع» ولكن ليمر ـ تدريجياً ـ بمرحلة تمهيدية، عبر دخوله في ضرب من «الممانعة الناعمة» وهي مرحلة بدأت ملامحها في التشكل بعد السابع من تشرين أول وما تلاه من أحداث، يبدو أنها ستؤثر على الحالة الثورية الإيرانية على مستوى الخطاب، على أقل تقدير

إن ما جرى في غزة عكس عدم قدرة الممارسة الإيرانية على الارتفاع إلى مستوى الخطاب، وسلط الضوء على حالة انكشاف إيراني غير مسبوق، مع تطورات الأحداث، حيث وجد «محور المقاومة» نفسه في حالة من الارتباك التي كشفت حجم الفجوة المتسعة بين مستويي الخطاب والممارسة، الأمر الذي ألقى بحجر في محيط دوائر صنع القرار داخل إيران نفسها، وفي أوساط ميليشياتها في المنطقة، مع بروز سجالات داخلية وخارجية متزايدة، بلغت حد التساؤل حول مستقبل النظام، وجدوى استمراره في شكله الحالي، وحول السياسات الخارجية والآيديولوجيا الثورية، ومبدأ تصدير الثورة، وغيره من المبادئ الدستورية التي يجري الحديث حولها، داخل وخارج إيران

وقد كان ملحوظاً ارتباك الأداء الإيراني، على مستوى الخطاب، مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث أشار مسؤولون إيرانيون ـ في بداية الأمر ـ إلى أن إيران يمكن أن تتدخل إذا استمر العدوان الإسرائيلي، ومع استمرار العدوان، ألمح الإيرانيون إلى إمكانية تدخلهم في حال نفذت إسرائيل هجوماً برياً، ولما نفذت إسرائيل الهجوم البري صرح المرشد الإيراني علي خامنئي بأن مسؤولية إيران ليست خوض الحرب، نيابة عن الآخرين، ولكن مسؤوليتها تكمن في دعم ثورات «الشعوب المستضعفة» وهي أقوى إشارة على أن إيران لن تغامر بالدخول في المعركة

لاحقاً، تطورت الأحداث مع تدمير إسرائيل لمبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، بهجوم ردت عليه إيران رداً كان – في طبيعته – مؤشراً على أن النظام يتحاشى الصدام مع إسرائيل، حتى انتهى الأمر إلى حرب الاثني عشر يوماً التي كانت صدمة إيرانية، أسهمت بشكل كبير في ما يمكن رصده من إرهاصات التحول في خطاب الممانعة الذي لم يعد يحتفي كثيراً بالشعارات السابقة، مع تدخل الولايات المتحدة بضرب المواقع النووية الإيرانية في اليوم الأخير من تلك الحرب التي قال عنها وزير خارجية إيران عباس عراقجي إن بإمكان واشنطن إيقافها «باتصال هاتفي» في إشارة إلى أن الحرب لا تجري ـ بطبيعة الحال ـ في صالح إيران

وإجمالاً، يمكن القول إن السابع من تشرين أول كان يوماً فاصلاً في تاريخ المقاومة الفلسطينية والشرق الأوسط، وفي تاريخ العلاقات الدولية، ولكنه كان كذلك يوماً فاصلاً إزاء ما يبدو أنها محاولات إيرانية لـ«التحول التكتيكي» على مستوى الخطاب، من «الممانعة الخشنة» إلى «الممانعة الناعمة» التي يمكن رصدها في خفض النبرة المتشنجة، وفي الخطاب الإقليمي المهادن، والمرونة اللفظية التي تبديها طهران إزاء ملف المفاوضات النووية، مع احتمال أن يفهم ذلك في إطار ما عرف عن النظام من «تقية سياسية» تجيدها بامتياز

أخيراً: يمكن القول إن مراكمة الأرباح جعلت الإيرانيين أكثر احتفالاً بشعارات «الممانعة الخشنة» لأن تلك الشعارات كانت تدر عليهم الأرباح، كما يمكن القول إن «دفع الثمن» ربما يكون سبباً في تحول الخطاب الإيراني إلى «الممانعة الناعمة»

 عن القدس العربي