محمد فائد البكري : عبد العزيز المقالح الواحد الصحيح!

منذ سنة

  ولد كبيرا:  بابتسامته التي تتسع للجميع، يستقبل كل أحدٍ وكأنه يعرفه من زمن بعيد، ويمنحه من وقته واهتمامه ما يشعره أن زمنه ملك له، وأن من حقه عليه أن يسمعه وأن يشاركه أحلامه وتطلعاته

   ولد كبيراً فلم تزده الحياة شيئا أكثر مما لديه في ذاته، ولم تستطع بكل مآسيها أن تنتقص شيئا من هدوئه و كبريائه

احتفظ لنصه بمعاناته وشجونه و جسد في شخصه كل سمو على الجراح

و رغم تقادم السنوات لم ينل الزمن من دفء روحه

نال أرفع الاوسمة وأشهر الجوائز وأعلى المناصب وحاز من الأكاديمية أعلى ألقابها ومع ذلك لم يلتفت لشيءٍ من إغراءات المنصب أو بريق الشهرة

أيقونة الأدب اليمني:    لم يقصد لأن يكون أبا للمشهد الثقافي في اليمن ولم يسع لأن يكون أيقونة الادب لكن ذلك حدث بكل تلقائية وصار الأدباء والشعراء والكتاب والأكاديميون والمثقفون يتسابقون على نيل مقدمة يكتبها أو سطور ينشرها عن أحدهم؛ وصارت إشارته شهادة يعتز بها كل من ينالها ويرى فيها دليلا على جدارته وكفاءته

وعبد العزيز المقالح الذي ينظر في الجانب المضيء من الحياة لا يبخل بكلمة تشجيع ولا يتوانى عن مد يد العون

   عقودٌ من الزمن مرّت ونحن كلما قمنا بزيارته  أو شاهدناه في لقاء تلفزيوني وجدناه مبتسما يفيض وداً وأناةً ويشع بشاشة وطمأنينة وكأنما أدرك من الحياة ما لا يخشى بعده من أن يسوءه شيء!   حين تتلمذنا على يديه كانت أجمل لحظاتنا في قاعة الدرس حين تتداعى ذكرياته إلى أزمنةٍ الصبا والشباب التي عاشها في صحبة الرموز الثقافية للوطن العربي وعاصر فيها أعلام الكُتاب والشعراء والروائيين والصحفيين والتنويريين والمثقفين، وكانت ذكرياته كاشفة عن روح العصر و جوهر الرجل

 المعاناة والمعنى:   يفرح فقط بالقصيدة الجميلة ويمنحها كل اهتمامه، و يتخفف من كل العبارات المدججة بالصرامة، طبقت شهرته الآفاق وسالت الأقلام حول أدبه ومكانته ودوره في التنوير، والرجل لم يتغيّر فيه شيءٌ، ولم يداخله أدنى زهو، كأنما ولد كبيراً فلم تزده الأيام فوق قدره ما يشعره بشيء

مثالٌ في التواضع والسكينة والطمأنينة ولسان حاله تلك الآية القرآنية المعلقة على جدار مكتبه في مركز الدراسات والبحوث: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)   يختلف المختلفون وينقسمون على بعضهم ويستنفدون قيم الاختلاف ويدمرون قيمة الإنصاف ويتحولون إلى أعداء متمرسين على البغضاء والضغينة وعبد العزيز المقالح الذي يتنافسون على إدعاء قربه منهم يأبى أن يكون في جانب أي أحد؛ و في ملتقى طرق الأسى لا يسمح لنفسه بأن يتحوّل خصما لأحد؛ ولا يعبأ كثيراً بمن يخاصم أو يعادي، يتلقى كل الفرقاء ليكون واحدا صحيحا غير مبالٍ بأي طرحٍ أو جمعٍ أو قسمة

خارج حسابات الربح والخسارة ينحاز للكلمة الجميلة والإنسان الشاعر في كل إنسان

ولد ليؤنسن الآخرين:  قرأنا في كتبه فوجدنا الإنصاف قيمة عليا تحرك قلمه لتسجيل حقوق كل من كان في صف الوطن ولم ينصف؛ وقرأنا في أشعارهفوجدنا في البدء كانت اليمن

واقتربنا منه فوجدنا الإنسان في ابهى تجلياته نبلا ومودة وعطاء وكأنما ولد ليؤنسن الآخرين ويمنحهم من فيض روحه شعوراً بإمكانية الحياة خارج الصراعات والنزاعات والعداوات والإحن

بين الذات والموضوع:     لامكان في كلماته للذات ولاحيز للأنا، كل حروفه مشغولة بالتنوير؛ كل كلماته تواجه القبح وتعبر عن مواقف لا توسط فيها، و في سياق قراءة تاريخ الرجل الذي صار زاهدا في كل شيء علمنا أن الرجل كان قياديا بارزا في العمل الوطني في زمن أن كانت الحزبية جريمة تؤدي إلى الهلاك، وكان زعيما وطنيا مارس العمل السياسي دون خوف وكتب الشعر المجاهر بالقضية الوطنية و لم يكن يوماً في صف أحد

   كان في صف الوطن دائما، وفي سبيل الوطن كل ما يكتب وما يحلم وما يفعل وما يقول؛ ولأن الوطن بالنسبة له ليس شخصا أو جماعة أو فئة أو طائفة مايزال يراهن على عبور الوطن إلى الجانب المضيء من التاريخ

بقلمه أضاء الطريق لمئات الكتاب والكاتبات وراهن على حبهم للأدب قبل أن يراهن على مواهبهم، ولم يبخل بالإشادة والإشارة، ولم يتردد في أن يضع صيغة المبالغة في بعض الإشادات

سمعنا عن بعض معارك شبابه مع الأستاذ الكبير الشاعر عبد الله البردوني وأدركنا بعد حين إن تلك الشائعات كانت من إفتعال صغار النفوس والهمم

لاينافس أحدا غير نفسه:   لأن عبد العزيز المقالح لا ينافس أحداً غير نفسه ولا يلتفت إلى أي افتئات وجدناه يكتب في مقدمة الأعمال الكاملة للشاعر البردوني: كيف يطلب من الساقية أن تقدم النهر، أم كيف يطلب من النهر أن يقدم البحر؟!    ثقة بالنفس وسمو بالفن ولا يعني هذا أنه لم يبد بعض الآراء النقدية المتحفظة  فيما قرأ من شعر البردوني أو غيره

لكنها آراء ورؤى انتصرت للفن ولم تخلط بين الشخص والنص

   اختصره كثيرون في كونه شاعرا كبيرا، وجنى ذلك الاختصار على كتاباته الفكرية التي ماتزال بحاجة للقراءة والدرس ففيها سجل ريادة الرجل و جوهر مشروعه التنويري

    بدأب الرائد وحرصه على أن يضيء كل جانب من جوانب الحياة كتب المقالح بغزارة في شتى مناحي الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية وسلط الضوء على كل ما من شأنه أن يغير من واقع اليمن ويضعها في العصر؛ و يمكن لأي دارس جاد أن يعرف مدى همة المقالح ومدى شغفه بالتنوير؛ وكتاباته التي ترامت على رقعة الأدب والفن والحياة مكتنزة بالجدية والجدة والرغبة في التغيير، ويتجلى فيها جدل الفكر والشعر، ويمكن للدارسين أن يطرقوا جوانب شديدة الاهمية سواء في فن المقالة الادبية أوالمقالة الإجتماعية أوالمقالة السياسية أوالمقالة النقدية اوالمقالة البحثية

الخ

 ولقد كان في ذلك كما قال عنه جابر عصفور :طه حسين اليمنو في السياق ذاته أذكر أن أستاذنا المرحوم شاعر العراق الكبير الشاعرالرائد الدكتور رشيد ياسين قال عنه : إن المقالح شاعر من رأسه حتى أخمص قدميه، شاعر من المهد إلى اللحد، وسيأتي زمن يعرف اليمنيون أن المقالح زمن لا يتكرر

مقال منشور سابقاً