مشرب «الزحف العربي» بعدن.. «كوب ثريب» ممزوج بـ«قومية عبدالناصر»

منذ 4 أيام

عدن – معاذ مدهش أكثر ما يشد انتباهك في مشرب الزحف العربي؛ في قلب مديرية الشيخ عثمان، بمدينة عدن (جنوبي اليمن)، هو الطرائق التي وزعت فيها الصور على الجدران

فعلى ميمنتك وأنت تدلف إلى المشرب تستوقفك صورة متوسطة الحجم، للزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر، وبجانبها لوحات وصور شتى

وفي الجدار الأيسر وجهًا لوجه لصورة عبدالناصر يقف رأس نمر عربي محنط، لا يحتاج الرائي إلى كثير جهد ليعرف أن رأس النمر وضعت بقصد لتقابل صورة جمال عبدالناصر

تاريخ المشرب يعود تاريخ مشرب الزحف العربي، الكائن بالدور الأرضي لجامع النور، إلى خمسينيات القرن الماضي خلال الاحتلال البريطاني لعدن

أسسه “محمد سعيد الخامري”، وحبًا في القومية العربية وجمال عبدالناصر أسماه الخامري ب”مشرب الزحف العربي”، اسم وهوية اختارهما الأب وحافظ عليهما الأبناء والأحفاد حتى هذه اللحظة، رغم تقادم السنون ومغريات السوق

في تصريح لـ«المشاهد» يذكر صقر، نجل الخامري الأكبر، أن “مشرب الزحف العربي” كان له دور بارز في الحراك المجتمعي ضد الاستعمار البريطاني

فقد تم تخصيص “بدروم” -غرفة صغيرة جانبية من المشرب نفسه- كملاذ سري لتبادل الرسائل المتعلقة بالمقاومة والعتاد الحربي، كالذخيرة والمؤنة والأسلحة

وحول الأهداف التي تأسس من أجلها “المشرب”، قال صقر إن الهدف الأساسي من تأسيسه كان الربح بالدرجة الأولى، لافتًا إلى أن الاسم والهوية الثقافية للمكان وُجدا قبل التأسيس”

مع ذلك، لعب “المشرب” دورًا مهمًا في الحراك المسلح ضد الاستعمار لأسباب عدة، أبرزها موقعه في وسط مديرية الشيخ عثمان، والذي جعله مركزًا لتجمع النخب الثقافية والسياسية

بالإضافة إلى “الحس الثوري عند والده”، يعتبر صقر، أن جميعها عوامل أسهمت مجتمعةً في تشكيل الدور الوطني للمشرب ضد الاستعمار

وبخصوص مصير ملكية المشرب بيد العائلة المؤسسة منذ إنشائه، فبحسب صقر، “ما زالت العائلة متمسكةً بإدارة المشرب، والمحافظة عليه وعلى جودة المشروب منذ تأسيسه وحتى اليوم”

لم يغيره الزمن“هكذا كان اسمه حين عرفته طفلًا في عدن”

يصف المواطن أحمد المقرمي، زيارته للمشرب بين فترتين زمنيتين، الأولى كانت في طفولته، والأخرى قريبة، تفصل بينهما ثلاثة عقود ونصف تقريبًا

ويواصل: ما يزال حتى اليوم يحمل الاسم نفسه، وبنفس رسم الخط الذي كان عليه حين رأيته طفلًا أول مرة

ما شدني للوقوف متذكرًا

ويزيد: “كل ما في المحل كما هو؛ بكراسيه، وبطلائه، وصور السلال، وجمال عبدالناصر، وقرون وعل، بل وما يزال أبناء صاحب المحل، وأحفاده يمتلكون المحل، وقطعا ما يزالون ينتظرون ما كان ينتظره أبوهم وجدهم من زحف عربي”

الدور الثقافي والوطنيكان للمشرب على -امتداد عقود- حراك ثقافي على مستوى مدينة عدن، حيث كان لرواده إسهامات بارزة في الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني

فضلًا عن اجتماع أهل الفن والموسيقى فيه آنذاك، والأهم أنه عرف الراديو في وقت أبكر إن لم يكن هو أول مكان عام أدخل الراديو في شبه الجزيرة العربية، وهذا حدث لافت آنئذ، حيث مثل محطة معرفية

الطابع الفلكلوريما إن تخطو قدماك إلى “المشرب” ستخال بادئ الأمر أنك قد دخلت النسخة اليمنية من “معرض فيلادلفيا لتحنيط الحيوانات” بالخطأ

إذ ستفاجأ بعدد لا بأس به من الحيوانات المحنطة قد ثبتت على جدران المشرب الأربعة، وبعد نظرة فاحصة ستعرف أنها أضفت إلى هوية المكان لمسة غريبة ومستحسنه في آن واحد

”كل ما في المحل كما هو؛ بكراسيه، وبطلائه، وصور السلال، وعبدالناصر، وقرون الوعل، ومايزال الجميع ينتظرون ما كان ينتظره مؤسس المشرب من زحف عربي“ربما لن يكون لك الخيار في أي طاولة ستجلس عليها فور دخولك، هذا إن وجدت مقعدًا شاغرًا في الأساس

لكن مما لا شك فيه أن لك الخيار في النظر إلى إرث المكان، لك أن تنظر إلى صور القادة الاشتراكيين إن أردت، أو إلى الصور الكثيرة والقديمة لمدينة عدن

وأجزم لك هنا أنك لن تعرف أي منها حتى تستوضحها، من أحد عمال المشرب، فهي صور قديمة مبروزة، أمامها ستتساءل وستتحسر معًا على ماضٍ لن تجرؤ على مقارنته باليوم قط، فنحن “نوستالجيون” “بزيادة” بحجم غرابة الاسم

مشروب الثريبفي خضم ذلك وبعد جلوسك، سيبدد أحد العمال شرودك بكأس ثريب -بلونه الأبيض- لم تطلبه أنت، إنما هوية المكان نابت عنك، أو بالأصح المشرب يقدم مشروبه فور جلوسك

رائحة الثريب ستكون كافية ومُحبذة وكاسرة لترددك في تجربة المشروب وتكهن طريقة تحضيره، وربما بعد الكأس الثالثة قد تتذوق نكهة “زبادي” وهي المادة الرئيسة في تحضيره

”للمشرب على -امتداد عقود- حراك ثقافي على مستوى مدينة عدن، حيث كان لرواده إسهامات بارزة في الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني“أما بقية المكونات فتظل سر مهنة يتميز بها المشرب دون غيره، وفي سبيل التأكد من الجودة ثمة العشرات من المحال تقدم المشروب الذي يتشابه بالاسم فقط في أغلب الأحوال

سالم عبده، أربعيني من أبناء الشيخ عثمان، يقول لـ«المشاهد»: عرفت مشارب كثيرة تقدم الثريب، منها من تفردت بتقديمه فقط دون وجبات إضافية وأهمها وأقدمها مشربي الخامري في كريتر والزحف العربي هذا، وهما للمالك نفسه

والثريب هو مشروب تقليدي شعبي، يتكون من مزيج الزبادي والماء أو اللبن الرائب، ويضافُ الثلج إلى ليصبح منعشًا في الأيام الحارة، وهو مشروب خفيف ومغذي وله تاريخ طويل في التراث الشعبي

شاهد على التاريخلا يتذكر كامل الحريري، من مدينة الضالع، في أي عام تحديدًا دخل المشرب للمرة الأولى، وفقًا لارتياده الدائم، لكنه يتذكر جيدًا أواخر 2020، حين نشر بثًا مباشرًا من داخل المشرب، ولفت نظره آراء المتابعين وخاصة من لا يعرفون المشرب، إذ لم يلفتهم اسم المشروب وحسب، إنما شدتهم الصور والأثاث القديم الأشبه بالفلكلور، وفقًا لحديثه مع «المشاهد»

يظل مشرب “الزحف العربي” شاهدًا حيًا على تاريخ مدينة عدن وثقافتها، حيث يلتقي فيه الماضي بالحاضر في أجواء ساحرة

وبالنسبة للعديد من زواره، هو أكثر من مجرد مكان لتناول مشروب الثريب؛ هو مساحة للذاكرة، للإبداع، وللحفاظ على التراث الثقافي الذي لا يزال ينبض بالحياة وسط زحف الحداثة المتسارع

ليصلك كل جديدالإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقارير