مصطفى الجبزي : ملحوظات اولية من بودكاست "ثمانية" 

منذ 4 ساعات

مصطفى الجبزي يخلط ضياء السعيدي بين مفهوم الدولة ومفهوم المدينة

فالدولة تنظيم اجتماعي، وقد تكون مرحلة لاحقة من مراحل تطور المجتمع، بالانتقال من القبيلة إلى الدولة، بينما المدينة فضاءٌ تجاري وسلطوي

أراد ضياء أن يقول إنه ابن مدينة، لكن معظم أبناء المدن القديمة، كصنعاء في العهد الإمامي، مثلًا، كانوا أبناء مدنٍ تدور في فلك السلطة الإمامية

كانت السلطة حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، ومع الوقت، اتسعت الهوّة بين سكان المدن وأهالي الريف المجاور

يتناول النعمان (الابن) في كتابه الأطراف المعنية هذه النقطة بملاحظة دقيقة بالإشارة إلى العلاقة المتوترة أحيانًا بين القبيلي وابن المدينة

لكن علينا أن نلاحظ أن المدينة الحديثة في اليمن لم تقطع صلتها بالريف، بل شهدنا ترييف المدن، حيث تم استدعاء الأدوات الريفية (القبَلية) في حل النزاعات وممارسة السياسة

في عدن - التي قطعت سابقًا شوطًا كبيرًا في التمدّن والاعتماد على الدولة - تراجعت مظاهر المدنية، وأصبحت الوسائل القبلية هي الأكثر شيوعًا في معالجة القضايا

هل يتابع ضياء مثلاً مشاهد ذبح الثيران (إقامة المجلس القبلي) في عدن؟ وهل يرى كيف أصبح الوصل القبلي بديلاً عن القانون والدولة؟ ***يمكن للدولة أن تكون مشيخية بالكامل، وتحافظ على أعراف القبيلة، بل قد تُدار بذهنية مشيخية حتى لو كانت جمهورية، وتظل القبيلة فيها تحتل مركزًا حاسمًا، كما هو الحال في دولة الرئيس صالح

 في حقيقة الأمر ،و سيما في تجربة اليمن الشمالي ثم اليمن الموحد، فانه لم يسبق وان استحوذت القبلية على مكانة ودور محوريين في الحكم كما فعلت في العهد الجمهوري

  ***يخلط الباحث ضياء كذلك بين الدولة القومية، التي تتركّز سيادتها داخل حدودها السياسية، وبين الدولة القُطرية، التي تنتمي إلى فضاءٍ إمبراطوري أوسع

فالدويلات اليمنية لم تكن دولًا قومية مكتملة، بل كانت جزءًا من فضاء إمبراطوري إسلامي، تمثل حكمًا محليًا ضمن شبكة أوسع من الشرعية والخلافة

ومع سقوط بغداد، احتفظت الأقاليم بسلطة رمزية، حافظت على الشرعية الدينية بوصفها غطاءً للحكم، وإنْ كان شكليًا

في تلك الحقبة، ولأسباب تقنية بحتة (ضعف وسائل الاتصال، محدودية الموارد المالية)، لم يكن ممكنًا قيام دولة مركزية مستقرة، لا في اليمن ولا في غيره

وقبل تلك المرحلة، لم يكن بناء الدولة المركزية ممكنًا أيضًا

كانت التحالفات والنُظم اللا مركزية هي الشكل الأكثر شيوعًا

ففي أوروبا، نشأت الإقطاعيات، وفي اليمن نشأ نظام الأذواء، وفي فارس ظهر نمط مشابه، حيث حصل جُباة الضرائب على مواقع مركزية في الحكم

هذا الوضع يمكن تفسيره بوسائل الاتصال، أو من منظور ماركسي عبر أدوات الإنتاج والهيمنة الاقتصادية

 ***فيما يخص اليمن، كيف يمكن الادعاء بأن الدولة الرسولية -  ناهيكم عن صحة وصف آل رسول بأنهم أمويون؟ هذا خطأ تاريخي واضح

هذا خطا قد يكون نابع من طبيعة الحديث الشفاهي - كانت ذات ارتباط خارجي؟ الدولة الأيوبية في مصر انتهت نحو عام 1250، بينما نشأت الدولة الرسولية في اليمن- (في تعز) واضع تعز بين مزدوجين للعودة إلى هذه النقطة في وقت لاحق - قبل ذلك بربع قرن، واستمرت حتى القرن الخامس عشر الميلادي

وكانت مسؤولة عن تأمين الأماكن المقدسة في البحر الأحمر، أي مكة والمدينة، مما يدل على عمق استقلالها ووظيفتها السيادية

**هناك نقطة يكررها كثير من الباحثين سيما اليمنيين المسحورين بالمقولات الجاهزة الأوروبية وهي مسألة عدم الاستقرار التاريخي في اليمن، وكأن اليمن استثناءٌ في العالم

 الحقيقة ان الحديث عن عدم استقرار ينطوي على اشارة اساسية إلى وجود تركيب اجتماعي معقد يصل إلى حالة الدولة ولو بالمعنى التاريخي قياساً بمناطق لم تعرف أي تنظيم معقد حتى يجري عليه الحديث باستقرار من عدمه

 لكن: ما المنطقة في التاريخ التي عرفت استقرارًا تامًا، ولم تشهد اضطرابات أو صراعات على السلطة؟أعتى الإمبراطوريات كانت تعيش حروبًا دائمة، سواء خارجية أو داخلية، وإن خمدت الحروب في الخارج، اشتعلت المؤامرات داخل القصور بين الإخوة والطامحين للسلطة

وإذا كان التاريخ الإسلامي مستقرًا فعلًا، فلماذا صاغ ابن خلدون قانون الدورة الخلدونية من ملاحظات تاريخية؟ أليس ذلك اعترافًا ضمنيًا بأن الاضطراب والتدوير والصراع جزءٌ من دورة الحياة السياسية خصوصا في الحوض الحضاري الإسلامي بل ان ابن خلدون خرج إلى ما وراء هذا الحوض في ملحوظاته؟كيف أصبحت القبيلة أقل حضورًا وهيمنة في محافظة تعز؟تناول الباحث ضياء السعدي في اطار مقابلته مع ثمانية هذا السؤال في تفسيره لظاهرة مركزية القبلية وتراجعها في بعض مناطق اليمن، وضرب مثالًا بمحافظة تعز، قائلًا إن النشاط الزراعي في المحافظة جعلها أقل ميلًا إلى القبلية، أو لنقل: جعل القبيلة أقل هيمنة وظهورًا

والحقيقة أن هذه واحدة من أكثر التعميمات هشاشة؛ لأنها أولًا تفترض أن القبيلة والزراعة في تناقضٍ كلي، وهو خطأ كبير

فمثلًا، هناك مناطق زراعية خصبة تقع على ضفاف الأنهار، كـالعراق وسوريا، ومع ذلك فإن البنية القبلية فيها قوية ومتجذرة

كما أن هناك مناطق قاحلة أو ذات تضاريس صعبة والقبيلة فيها متجذرة أيضًا، بل إن القبلية في البيئات الصحراوية شديدة الحضور

إذن، لا يكفي أن نأخذ النشاط الزراعي وحده لتفسير الظاهرة

ثانيًا: يمكننا أن نعيد النظر في هذه الفرضية من خلال سؤالين:هل تعز فعلًا منطقة زراعية بامتياز سيما ونصف مساحة تعز تقع في إطار خبت الساحل الغربي ؟ سبق أن ناقشتُ هذه النقطة في منشور قبل سنوات، وأوضحتُ أن اشتغال سكان محافظات مثل ذمار أو صنعاء بالزراعة أكثر من سكان تعز، سواء من حيث مساحة الأراضي المزروعة (تعز تحتل المرتبة السادسة بين محافظات الجمهورية)، أو من حيث نسبة الحيازة الزراعية، أو نسبة النشاط الزراعي من إجمالي النشاط الكلي في المحافظة

والمفارقة أن الإيراد الأكبر في تعز يأتي من نشاط التصنيع، لا الزراعة

لنأخذ محافظة أخرى تُشبه تعز من حيث المساحة وعدد السكان، وهي محافظة حجة

هذه المحافظة، وفق منطق الباحث السعيدي، تُعد محافظة قبلية، ومع ذلك نجدها في مرتبة أعلى من تعز في مساحة الأراضي المزروعة، وعدد العاملين في الزراعة، ونسبة الإنتاج من المحاصيل الزراعية الوطنية

وإليكم مثالًا آخر: محافظة أبين

وهي محافظة ذات طابع قبلي لا يقل قوة عن أي محافظة يمنية أخرى من محافظات شمال الشمال، ومع ذلك يعتمد قرابة ثلثي السكان فيها على النشاط الزراعي

فهل حالت الزراعة دون التجذر القبلي؟ نأتي الآن إلى السبب الثاني الذي اقترحه الباحث ضياء، وهو: قرب تعز من مدينة عدن التي كانت مستعمرة بريطانية وفيها نظام مدني

لكن، هل كانت كل تعز مرتبطة بعدن؟بالطبع لا

بل أن سلطة الإمام عملت على إعاقة التأثير القادم من عدن من خلال إغلاق المدارس الأهلية التي نشأت في حيفان وفي ذبحان

كانت جهود الإمامة كبيرة في محاصرة امتلاك الراديوهات

 وهل كانت لحج أقل ارتباطًا بعدن من تعز، خصوصًا وأن عدن كانت تحت هيمنة سلطان العبدلي؟في الحقيقة لم تستقطب عدن أعادا بشرية كبيرة إلا في آخر ربع من عمر الاستعمار في عدن بسبب توسع النشاط التجاري في المدينة وافتتاح المفصولة وتوسع القاعدة العسكرية

 عندما احتل الإنجليز عدن كان عدد القادمين من المخا بعد انهيار الميناء وتجارة البن في القرن التاسع عشر أكبر بكثير من عدد القادمين من الحجريّة

 عامل واحد لا يكفي لفهم تحوّل المجتمع من القبلية إلى ما بعد القبلية

ربما هناك جذور تاريخية وأبعاد ثقافية، يندرج فيها المذهب، والدولة، والسلطات المتعاقبة

ولا يمكن إغفال دور الدولة الرسولية في إعادة صياغة الذهنية في منطقة كتعز، خصوصًا بعد أن جعلتها عاصمة لها

يبدو لي ان هذا السؤال كان ينبغي ان يصاغ بشكل آخر لفهم دور القبلية في اليمن الحديث

هل ما تزال القبيلة هي النمط المهيمن في بناء العلاقات وكيف اثرت الحياة السياسية وبناء موسسة عسكرية ووجود احزاب ومنظمات مجتمع مدني وتراكم ثروة بفضل الاغتراب على دور القبيلة؟  ***ما هي الدولة الحديثة إن لم تكن قطيعة كبرى مع الماضي؟وإلا، فلماذا قامت الثورات؟ ولماذا كان التغيير مطلبًا؟قبل قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر في اليمن، جرى نقاش طويل داخل النخب اليمنية حول أوضاع البلاد

 هذا النقاش لم يقتصر على إطار قطري، بل شاركت فيه نخب عربية وإسلامية

 كان السؤال المركزي في بداية القرن العشرين هو:سؤال التحرر من الاستعمار، وهدم الفجوة الحضارية التي تفصل الشعوب المستعمَرة عن تلك التي اغتصبت أراضيها وصادرت حقوقها

في هذا الاطار جاء الثعالبي إلى اليمن وجاء الريحاني وبعدهما جاء الورتلاني بتفويض من الاخوان المسلمون في مصر وقادت جهوده إلى ثورة مجهضة هي ثورة 1948

  لم يكن هذا النقاش ترفًا ولا سهلًا، بل أُريقت من أجله الدماء، وغامر أناس شجعان بحياتهم من أجل ذلك

في اليمن، لجأ اليمنيون إلى كل الأفكار الممكنة لتغيير البنية الثقافية والاجتماعية والإدارية والسياسية التي كانت تُكرّس ديمومة تلك الأوضاع المزرية

توجد شهادات كثيرة توثق تلك الأوضاع، سواء على شكل روايات أو دراسات أو مذكرات، وهي تُظهر بؤسًا يصعب تخيّله اليوم

الحديث عن تلك اللحظة التاريخية يجب أن يأخذ في الاعتبار:احتياجات اللحظة وإكراهاتها

الصراع بين نخب التغيير وقوى السلطة التي حاولت حشد المجتمع خلف سلطتها وطرحت افكارا كالأصالة وصون البلاد ورفض الغرب وتجريم الدستور والحفاظ على الإسلام

كانت النخب التنويرية حينها تنقسم بين تقليدية وحداثية، وكان خيار الدولة الحديثة خيارًا وجوديًا، لا مجرد تجربة عابرة

ولمعالجة سنوات من الهيمنة الجغرافية والمذهبية، ومعالجة إشكاليات الهوية، اتخذ الآباء المؤسسون للدولة الحديثة أشكالًا رمزية، ظهرت حتى في ملابس أعوان الدولة

وفي نفس الوقت خصصوا دائرة لشؤون القبائل في اليوم التالي للجمهورية ، خطوة يراها البعض انتكاسة في مشروع التحديث

 ارتدى الاستاذ نعمان الأب بزة حديثة وربطة عنق وهو من هو في موقعه داخل القوى التقليدية

 ثم كان إيمان المجتمعات العربية بالحداثة إيمانًا خلاصيًا، لا مجرد تعسف سلطوي

الحداثة كانت قاطرة العبور من الموت والمرض إلى الحياة والأمل والمستقبل

 في مناطق ذمار والبيضاء وعمران يلبس العريس بدلة حديثة من ثلاث قطع وربطة عنق

 لكن، حدثت ارتدادات؛ وأبرزها وأكثرها تجلّيًا هو ظهور الجماعة الحوثية، التي فرضت نمطًا واحدًا من التعبير السلطوي في اللهجة، واللباس، والطقوس الاحتفائية

لقد جعل الحوثيون الزي الرسمي للوظيفة العامة القميص والكوت والجنبية

فهل اعاد الحوثيون اليمن إلى اليمنيين؟