نبيل البكيري : قصتي مع الشيخ المقرمي
منذ 7 أيام
نبيل البكيري ككل إنسان في داخله أشواق روحية، تبحث عن إرتواء وتعهد بالرعاية والإهتمام وتنشئُ معه منذ الصغر فثمة من يجدُ بيئة جيدة قابلة للرعاية والتعهد فتكبر أشواقه الروحية وتنمو وتزدهر وثمة من لا يجد بيئة صالحة لذلك فتذبل أشواقه الروحية وتتصحر حياته من هذه الأشواق
معرفتي بالشيخ محمد المقرمي، منشأه هذه الأشواق الروحية، فكانت علاقتي به قبل عصر التواصل هذا لما يقرب ١٥ عاماً وأكثر، وأنا صاحب أشواق روحية قادتني لتجارب كثيرة مع مختلف الجماعات الدينية، وتقريباً كل الجماعات الدينية اليمنية، بما فيها حتى الزيدية ودروسي القليلة في الكشاف للزمخشري و ضوء النهاري على يد الشيخ ومفتي الجمهورية السابق القاضي أحمد محمد الجرافي رحمة الله عليه
لكن معرفتي وتجربتي الروحية مع الشيخ المقرمي فهي مختلفة جداً، فأول ما سمعت به من خلال محاضرته الشهيرة معركتنا مع الشيطان هذه المحاضرة التي غيرت حياتي حينها رأساً على عقب، وفتحت لي أفاق واسعة في التدين والتفكير، وبعدها بدأت أبحث عن الشيخ حتى وصلت إليه فزاد حبي وتقديري للشيخ وتجربته الروحية العظيمة التي لم أرى تفسيراً حقيقاً وعملياً لها سو قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله
ولكن ما جرى بعد ذلك من شتات فرق بيننا فيزيائي في أصقاع الأرض و مع ذلك ظلت الأرواح متواصلة دون
انقطاع، ولكن الشيخ بطبعته وطريقته الخاصة التي أرى أنها بدأت اليوم بموته تأخذ مسارها لتبلور والتشكل وهي الطريقة و المدرسة المقرمية إن صحت التسمية في التدين والعرفان
ذلك التدين الجامع بين السلوك والتدبر القرآني، هذا الطريقة التي جرت للشيخ محمد وفٌتحت له فتوحات وفيوضات كثيرة وكبيرة، وقف أمامها الجميع مشدوهين حتى كبار المتخصصين في الدرس القرآني التفسيري والديني عموماً، في دلالة على أن الدين ليس تخصصاً علمياً محضاً و محدداً يمكن فهمه لمجرد العلم به بقدر ما هو تجربة روحية خالصة، تخوضها بأبسط أدوات العلم مادام القلب حاضراً فيها
تواصلت قبل عامين من الآن بعد أن تواصل بي أحد الأصدقاء من إحدى القنوات يريدني أن أقنع الشيخ المقرمي أن يسجل لقناتهم سلسلة حلقات وتجليات قرأنية لتبث في رمضان وعارضاً على مبلغاً للشيخ، فتواصلت بالشيخ رحمة الله عليه ولكن إجابته كانت واضحة قال لي أن الدعوة لله لا تحتاج إلى فلوس مقابل ما تقوله هذا عدا عن أنه ليس أهل الشاشات والفضائيات، فقلت له يا شيخ ما تقوله وتقدمه يفترض أن يٌفسح له المجال حتى يصل للعالم كله
رد علي الشيخ حينها قال لي ما يقوم به هاتفي هذا كفيل أن يؤدي الغرض بإذن الله ما صحة النية وخلٌصت لوجه الله، هذا جانب وجانب أخر أرى أن الوقت لم يحن بعد وإن شاء الله سنجد الوقت المناسب لذلك، وهكذا تركت الشيخ ورجعت خالي الوفاض ولم استطع إقناعه من الظهور وتسجيل الحلقات
مضت الأمور هكذا، فكتب الله له زيارة للمكة المكرمة ومكث فيها فترة، وبينما هو جالس مع أحد الأصدقاء التقط ولد الصديق محمدمحمود العامري هاتفه وجلس يسجل الشيخ و الشيخ غير منتبه، وطلب من أبيه أن يستأذن الشيخ بالنشر، فاتصلوا له واستأذنوه فلأول مرة يوافق على النشر فذهب الولد و نشر ذلك المقطع في حسابه على التوكتوك، وفي الفجر صحوا للصلاة والمقطع يشق طريقه في وسائل التواصل ومشاهداته بمئات الألاف، وهكذا بدأت فكرة المقاطع الصغيرة بالظهور والانتشار بتلك الطريقة
مؤخراً، كتب الله له زيارة لاسطنبول بترتيب من أكاديمية علوم والصديق العزيز خالد بريه ورفاقه، ليكون الشيخ ضيفاً مع بقية من المشائخ، لتسجيل برنامج رمضاني، فكنت على تواصل دائم مع الشيخ رغم أنه أبلغني قبل سفره أن نلتقي لكن شاء الأقدار أني لم ألتقيه إلا بعد أن أنهوا تسجيل البرنامج وبرامج أخرى وحوارات سُجلت للشيخ محمد، حتى قبل سفره بيوم، أخبرني أن التقيه فذهبت إليه وهو أيضاً منشغلُ جداً
سلمت عليه وعانقته عناق طويل وكلي لهفة أن أخذه معي وأن آجل له رحلة الطيران ونبقيه أياماً أخرى في اسطنبول، لكنه أخبرني أن معه دعوة لمصر لأيام ومنها سيذهب معتمراً لمكة، وحينما ذكر مكة خطر لي مباشرة تأثيرتي للعمرة التي كانت على وشك الإنتهاء منذ ثلاثة أشهر ولم أتمكن من الذهاب، وفي أخر لحظة قلت له بإذن الله سنلتقي تركته واتصلت لأحد الأصدقاء يحجز لي طيران، وفعلا جلس في مصر لأيام وأنا غادرت اليوم التالي للمملكة وانتظرته فيها حتى جاء لمكة وجلست معه أربعة أيام لم نفترق أبداً، كانت من أجمل الأيام وأبركها
ذهبنا بعدها لجدة في ضيافة بعض الأصدقاء هناك فتوجه هو لأبها لمهمة هناك وتوجهت أنا للمدينة المنورة لأيام، فغادرت المدينة للرياض وعاد هو لجدة مرة أخرى قادماً من أبهاء، وكان يتحضر للمجئ للرياض، وكنت أنتظر استقباله فيها، ولكنه قبلها ذلك طلب من الأخوة بجدة أن يذهب للمدينة قبل ذاهبه للرياض، فذهبوا به للمدينة وعادوا لجدة وفي فجر اليوم التالي، كان على موعد لقاء مولاه الذي كان يشتاق للقاءه ويتحضر له دائماً رحمة الله عليه وألحقنا به صالحين
كل هذه مقدمة للدخول إلى عوالم الشيخ طريقته الروحية ، رحمة الله عليه، تلك الطريقة التي تفجرت أنوارها وأسرارها من مصاحبة كتاب الله وملازمته، فكان ذلك المزيج الأنقى من التدين الجامع بين أجمل ما في كل الطرق والجماعات، التي لا ينتمي لأي واحد منها، والذي قد يكون خاض مع بعضها تجارب ولكن لم يجد مراده واشواقه في أي منها، ولكنه وجده في كتاب الله الكريم ، في قرآنه الذي فيه ذكركم كما يقول الشيخ وعلي كل واحد أن يبحث عن نفسه في القرآن، فإن وجد نفسه هناك أو فيراجع نفسه
فهذه الطريقة التي خاضها الشيخ محمد رحمة الله عليه، من خلال كتاب الله الذي أعطاه جل وقته لما يقارب عامين متواصلين لم يترك المصحف لحظة إلا للأكل أو الصلاة أو النوم وقضاء الحاجة، لازم القرآن حتى تحول كل شيء في حياته إلى جو قرأني صرف، لا يجد ذاته ونفسه إلا من خلال كتاب الله، وهنا بدأت تتفجر أسرار هذه الكتاب العظيم ويجريها الله على لسان الشيخ وأحاديثه التي تلامس القلوب قبل الأسماع
فحينما تجلس للشيخ، فتجده بكل تلك البساطة والتعواضع، فتدرك أنه رجل عادي جداً، لكنه مسكون بصدق لا حدود له صدق مع نفسه ومع ربه ومع خلقه، فحينما تنطق لسانه وتلتمع أفكاره في النقاش و الحديث تجده يتجلى وتنفجر الحكم والفوائد في كلامه وأحاديثه، وكأنك لأول مرة تسمع هذه الأية التي ترد على لسانه متدبراً لها وشارحاً، إن هذه الدهشة في السماع التي تجعلك تشكك في ذاكرتك ومحفوظاتك منها، لا مكان لتفسيرها سوى أننا نقرأ قراءة عابرة باردة ميته لا تتجاوز حدود الصوت ولا تذهب لأبعد من ذلك، على عكس الشيخ الذي تشرب هذه الأيات وهو الذي لم يسبق له حتى أن حفظ القرآن كما يحفظ الحفاظ اليوم
إننا بحاجة ماسة اليوم لإعادة النظر في كثير من طرائق التفكير والتدين اليوم، وإعادة النظر في كثير من طرق التلقي ومناهج الدرس التي لم تحدث أثراً فارقاً في حياتنا، تلك الطرق والمناهج التي لا تزيد غير أنها تضيف إلينا نسخ متعهددة ومتكاثرة من تدين بارد لا تلمس أثره وتأثيره في سلوك الشخص وصلاحه ومدى صدقه وحضوره كقيمة مضافة في مجتمعه وبيته وأهله
فالصدق مع الذات، هو مقدمة ضرورية للصدق مع كل من حولك، الصدق والتجرد والخلاص والنظر إلى الدين ككل متكامل وأنك في عبادة أينما كنت في البيت وفي العمل وفي المسجد والطريق وفي كل مكان، أنت تمارس تدينك بعقلك وشعورك وجوارحك كلها، هذا التدين الذي يضفي قيمة حقيقة للوجود ويطلق لروحك العنان في التحليق في ملوك الله الواسع، ذلك التدين الذي تتجلى فيه قيم الصدق والأخلاق والبساطة والتواضع والحب وترك كل ما لا يعنيك بعد ذلك
أما اليوم وقد غادر الشيخ إلى ربه وفاضت روحه العظيمة، فإننا نترحم عليه ، ونسأل المولى أن يأجره عنا خير الجزاء، فصحيح أنه ظل فترة طويلة خارج أدوات العصر ورافضاً استخدامها في نشر أفكاره ، فليس ذلك سوى أن الشيخ كان مركزاً ومنشغلاً بذاته وإصلاحها أولاً و قبل أن يصلح المجتمع والأخرين من حوله ، ففترة طويلة وهو يجاهد نفسه حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم وخلال فترة قصيرة من قبوله نشر كل ما تجود به خواطره ومجالسه فتلق الناس ما يقول بقبول وحب وشوق وترحاب قل أن يتلقاه شيخ أخر
إن تجربة الشيخ ثرية جداً وعملية أكثر فهي تجربة تقودنا إلى إعادة اكتشاف أنفسنا من جديد وبناء جسور لتواصل مع ذواتنا أولاً ومنها مع خالقها ومولاها وهذا لا تحتاج تبحرٌ في العلم، وإنما مجاهدة للنفس واصطبار عليها وأن خير طريق هو ملازمة كتاب الله وتلاوته والعيش مع القرآن وخلواته والتعرض لنفحات الله وأسراره وأرزاقه المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم، فأعظم الرزق هو رزق الهداية ومعرفة الله أعظم كل شيء ورزق لا يساويه شيء أخر
ومعرفة الله وامتثالها في حياتك وسلوكك وذاتك وواقعك هي محط الإختبار الحقيق كله، فالمعرفة ليس علم اللسان وإنما سلوك الجوارح والجنان، تلك المعرفة التي تترجم قيماً وحباً وجمالاً و هدوئاً وسكينة ورضى وقبول، وكلها من بشائر السير وعلامة الوصول
كل هذا وأكثر من وجدته في تجربة الشيخ المقرمي البسيطة والمتواضعة والصادقة، الخالية من مرض التعالم والتأله، وأنا الذي أزعم أنني قرأت كثيراً وتبحرت في كثير من الفلسفات والأفكار والمذاهب وعلم الكلام، فلم
أحد تجربة أكثر صدقاً وقدرة على التأثير كتجربة الشيخ وأخرين من دونه لكنها التجربة الأحدث والأقرب لنا وواقعنا هذا المليئ بالشتات والضياع والذي لا علاج له إلا من خلال صدق العودة لله وكتابه
رحم الله الشيخ محمد المقرمي وأسكنه فسح جناته وألهمنا الصبر والسلوان من بعده، ونسأل المولى أن لا يفتنا بعده وأن يلحقنا به صالحين مصلحين لا ضالين ولا مضلين