“قابلات بالخبرة” ولادات تُحسم بالصدفة.. لا بالطب

منذ 2 أيام

إب- غادة الحسيني في القرى البعيدة

حيث تختصر الولادة في غرفةٍ طينيةٍ وشمعةٍ وكفّ قابلةٍ بالخبرة؛ تدفع نساء كثيرات أثمانًا باهظةً لمخاطرةٍ لم يخترنها

نزيف يفاجئ اللحظة، أو طفل يختنق قبل أن يرى الحياة، أو أمٌ تغيب تحت وطأة تعسّرٍ لم يجد من ينقذها

خلف هذه القصص وجع صامت يرويه الريف كل يوم؛ ولأن هذه الحقيقة تستحق أن تقال بصوتٍ عالٍ

كان لا بد من الحديث عنها

في قرية الأحواد، محافظة إب، تجهّز “عمادة مجمل” عدّتها داخل حقيبةٍ صغيرة عند استدعائها من أحد أهالي القرية أو القرى المجاورة

لتوليد نسائهم حين يبدأ ألم المخاض

عمادة هي القابلة الوحيدة في تلك المنطقة النائية

ورغم أنها لم تدرس ولا تعرف القراءة والكتابة

إلا أنها تمارس مهنة القبالة بالخبرة التي توارثتها عن أمها

لا تزال اليمن تعاني واحدةً من أعلى معدلات وفيات الأمهات في المنطقة

بنسبة 183 حالة وفاة لكل مائة ألف ولادة حية، بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان

ويقول الصندوق: “إن الصراع الممتد لسنواتٍ أنهك النظام الصحي الوطني في ظل أزماتٍ مناخية متكررة، وأوضاعٍ اقتصادية غير مستقرة”

مضيفًا أن حوالي 40% من المرافق الصحية تعمل إما بشكل جزئي أو متوقفة تمامًا عن الخدمة

ويعود ذلك إلى النقص في الطواقم، التمويل، الكهرباء، الأدوية، والمعدات؛ ما يترك الملايين دون رعايةٍ كافية

وتقول عمادة: “إن الأهالي يستدعونها دائمًا في كل ولادةٍ

ولا يوجد غير عائلتين في القرية يأخذون نساءهم للولادة في المركز الصحي الموجود بالمديرية

والذي يبعد عن القرية قرابة ساعة، رغم وعورة الطريق الذي لا تستطيع جميع السيارات العبور فيه

ويقتصر الأمر على أنواعٍ من مركبات الدفع الرباعي فقط

في اليمن، ستٌ من بين كل عشر ولادات تتم دون وجود قابلة، وأربعٌ من كل عشر نساءٍ لا يحصلنّ على رعاية ما قبل الولادة

وفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان في اليمن

ويقول الصندوق: “إن نقص التمويل خفّض عدد القابلات المتدربات أو الموظفات بدعمٍ الصندوق للعام 2025 من 1,492 قابلة إلى النصف

تأتي اليمن من ضمن أسوأ البلدان العربية في نقص عدد القابلات إلى جانب الجزائر، مصر، العراق، المغرب، الصومال، والسودان

وفقًا لتقرير وضع القبالة في المنطقة العربية الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في مايو 2022

حيث لا يتجاوز معدل الكثافة للقابلات في المنطقة العربية

بما في ذلك اليمن 2 لكل عشرة آلاف نسمة، وهو أقل من المتوسط العالمي 4

4، بحسب المصدر نفسه

حكايات نساءٍ خضنّ لحظاتٍ حاسمةً بين الحياة والموت أثناء الولادة في الريف، على أيدي قابلاتٍ بالخبرة، بلا معداتٍ ولا إشرافٍ طبي

وخرجنّ من التجربة بجرحٍ لا يُنسى

فبعضهنّ ما زلنّ يحملنّ خوف تلك اللحظة

وبعضهنّ فقدنّ صديقاتٍ وقريباتٍ؛ بسبب نزيفٍ لم يجد من يوقفه، أو تعسّر ولادةٍ لم يجد من يتداركه في الوقت المناسب

خصوصًا في الولادة البِكر التي تُعد الأخطر

تقول أمل مسعد، مديرية يريم، ولّدتها قابلةٌ بالخبرة، لـ”المشاهد”: “كنتُ أظن أن الولادة أمر بسيط مثلما تقول نساء القرية

لكن عندما بدأ النزيف بعد الولادة بدقائق، شعرتُ أن جسمي يبرد وأن الدنيا تبتعد عني، القابلة لم تعرف ماذا تفعل

كانت فقط تضع قطعة قماش وتقول اصبروا، لولا زوجي الذي حملني على دراجةٍ ناريةٍ إلى أقرب مركزٍ صحي

يبعد بمسافة ساعةٍ ونصف عن قريتنا؛ لكنتُ الآن مجرد ذكرى

الطبيب قال: إنني فقدتُ أكثر من نصف دمي”

وتضيف أمل: “رأيتُ بعيني، ولن أنسى ابنة عمي توفيت وهي تلد طفلها الأول

كانت القابلة تقول إن الوضع طبيعي، لكن الطفل كان عالقًا، ومع كل دقيقةٍ كان صراخها يخفت

وعندما قرروا نقلها إلى المستشفى كان الوقت قد تأخر، نزفت كثيرًا من بعدها فارقت الحياة”

وتشير خلود صالح، إحدى الناجيات من الموت، إلى أن المستشفى بعيد، والمال قليل

و”لم تكن تعرف مخاطر الولادة في المنزل دون وجود طبيبةٍ مؤهلة، أو قابلاتٍ مدربات

أو حتى وجود سيارة إسعافٍ قريبةٍ من القرية؛ لما وصلنا إلى هذا الحد”

تقول خلود: المرأة في الريف لا تختار الخطر، الخطر هو الذي يفرض نفسه علينا

فقد تعسرت ولادتي البكر ورأيتُ الموت أمامي والحمد لله نجوت بأعجوبة

لكني تعلمت درسًا لن أنساه ومن تلك الفترة، وأنا أقوم بتوعية نساء القرية حول هذه المخاطر”

السماح للقابلات بالعمل دون خبرةٍ أو تأهيل علمي ولا ترخيص يشبه وضع حياة النساء على طاولة التجارب

حيث تدفع الأرواح الثمن، وتُكتب المآسي بدمٍ بارد، فالولادة ليست هوايةً وليست تدريبًا ميدانيًا

تقول الدكتورة مريم الجدسي، طبيبة النساء والولادة في مستشفى برج أطباء القاهرة في صنعاء لـ”المشاهد”: “من واقع خبرتي

أكثر المضاعفات شيوعًا للولادات التي تجريها قابلاتٍ بالخبرة، دون إشرافٍ طبي، هي النزيف الحاد بعد الولادة، تعسر الولادة، الالتهابات الشديدة

إضافةً الى انخفاض نبض الجنين أو نقص الأكسجين، فبعض القابلات لا تمتلك جهاز قياس نبض الجنين”

وتضيف الجدسي: “لو كانت الولادة تحت إشرافٍ طبي متخصص وبمكان مجهزٍ، يمكن منع معظم هذه المضاعفات

لأن الفريق الطبي قادر على التدخل بالأدوية المناسبة، أو اللجوء للعمليات القيصرية، أو إنعاش المولود؛ مما يقلل الوفيات إلى حد كبير”

وتؤكد الجدسي أن غياب التجهيزات بالريف عامل أساسي في وفاة الأمهات والمواليد

ويمكن التعامل مع المضاعفات في دقائق قليلة داخل أي مستشفى

فالمشكلة في الولادة المنزلية ليست فقط القابلات غير المؤهلات، وإنما أيضًا عدم توفر محاليل وريدية لتعويض السوائل فورًا

وعدم وجود أدوية انقباض الرحم لإيقاف النزيف

كما أن الولادة المنزلية تفتقر حتى إلى وجود أكسجين للمولود عند حدوث اختناق

وتشير الجدسي إلى أن هناك أسباب تجعل بعض نساء القرى يعشنّ هذه المخاطرة

ولعل أهمها عدم توفر طبيباتٍ في المراكز الصحية القريبة منهم وبُعد المستشفيات، والظروف المادية الصعبة لأغلب ساكني القرى

وربما تكون من أهم الأسباب أيضًا غياب الوعي بالمخاطر والخوف من العمليات القيصرية

مؤكدةً أنه يجب أن يكون للسلطات المختصة دور كبير في الحد من هذه الظاهرة، وتحسين الخدمات الصحية في الريف

وذلك عبر فتح مراكز ولادة مجهزة على مدار الساعة

وتدريب وتأهيل القابلات التقليديات، ومنحهنّ دوراتٍ منظمة ليصبحنّ داعماتٍ للولادة وليس بديلاتٍ عن الطبيب

وتوعية المجتمع والأسر بقصص حقيقية عن الوفيات الناتجة عن الولادة غير الآمنة

إضافةً إلى توفير مستلزمات الولادة المجانية للنساء الفقيرات

ولا ننسى إشراك شيوخ القرى والقيادات المجتمعية في حملات التوعية؛ لأن رأيهم مؤثر

يقول الدكتور أحمد العبادي، مدير عام مكتب الصحة العامة والسكان بمحافظة مأرب، لـ”المشاهد”: “قضية الولادة في الريف اليمني

وفي المناطق اليمنية بشكل عام تعاني من إشكاليةٍ كبيرة جدًا، وهناك عادات وتقاليد وهناك بعض الاستهتار من بعض الأهالي

وكذلك من بعض النساء ولا يزلنّ إلى يومنا هذا يلدنّ في البيت ودون إشرافٍ صحي”

ويشير العبادي إلى أن بعض القابلات بالخبرة تعطي “سمن خام” للطفل المولود وهذه كارثة

وخطر قطع الحبل السري بآلةٍ غير معقمة؛ يسبب مخاطر كبيرة

إضافةً إلى تعرض بعض الأمهات لتسمم الحمل ومشاكل كثيرةٍ جدًا

كل هذا يحدث أثناء الولادة في المنزل دون كادرٍ طبي مؤهل، وهناك وفيات كثيرة جدًا حدثت في الماضي

ويضيف العبادي: “كانت نسب الوفيات عاليةً جدًا، لكنها انخفضت بعد تدريب قابلات، وبعد الحملات الكبيرة للتثقيف الصحي

انخفضت وفيات الأمهات في كثير من المديريات، لكن مازال هناك خطر في الريف اليمني”

“يعاني الريف اليمني الكثير من المخاطر

ولكن نحاول جاهدين معالجة ذلك بالتثقيف الصحي وتوعية الأمهات وتدريب قابلات مجتمعيات وقابلات مرخصات

إضافةً إلى إيجاد مرافق صحية تقوم بالخدمات في المناطق النائية، وتشغيل الطوارئ بقدر المستطاع في المرافق الصحية والمستشفيات

ما يساعد في النقلة النوعية للأمهات والمجتمعات الريفية وتجنب الوفيات في القرى والمديريات”

ويؤكد العبادي أن وزارة الصحة تعمل على إجراءاتٍ لتقليل وفيات الأمهات والأطفال في الريف

وتفعيل دور العامل الصحي المجتمعي

ويشير العبادي إلى وجود أكثر من خمسين امرأةً “العامل الصحي المجتمعي” في المحافظة

كما يوجد حاليًا فرق متنقلة ميدانية لوقاية الأمهات والأطفال

إضافةً إلى الحملات التي تسمى الفرق الايصالية وفرق أخرى تسمى “فرق الاستجابة السريعة”

ضمن الحلول التي تعمل عليها وزارة الصحة العامة والسكان في الوقت الحالي

لا نقف أمام قصص عابرة انتهت بدموع وخسائر، بل هو جرس إنذار مدوٍّ لمأساةٍ تتكرر في صمت

فتركُ أرواح النساء بين يدي قابلاتٍ بالخبرة

لا يمتلكنّ الأسس العلمية ولا أدوات النجاة، لم يعد خطأً عابرًا

بل كارثة تتغذى بالتجاهل، وتكبر كل يوم بقدر ما تهمل الرقابة وينعدم الوعي، أمام كل أمٍ فقدت حياتها

وكل طفلٍ كتب له اليُتم في لحظة ميلاده، يصبح الصمت شراكة في الجريمة

ما رأيك بهذا الخبر؟سعدنا بزيارتك واهتمامك بهذا الموضوع

يرجى مشاركة رأيك عن محتوى المقال وملاحظاتك على المعلومات والحقائق الواردة على الإيميل التالي مع كتابة عنوان المقال في موضوع الرسالة

بريدنا الإلكتروني: almushahideditor@gmail

com احصل على آخر أخبار المشاهد نت مباشرة إلى بريدك الإلكتروني

الإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقاريرمن نحن