أحمد حوذان : فيلم الجواسيس الحوثي.. عندما يتجسس الجاسوس على نفسه!

منذ ساعة

​في كل مرة يشعر فيها الحوثيون بتآكل نفوذهم أو اهتزاز صورتهم، أو يشتد عليهم حصار الفشل الاقتصادي والمعيشي، يخرجون إلى العلن بقصة جديدة من نسج خيالهم المسرحي، وهذه المرة بعنوان مُدوٍ يفتقر إلى الإقناع: «شبكة تجسس أمريكية–إسرائيلية–سعودية»

إنها ليست مجرد رواية تُضاف إلى سجل الميليشيا، بل هي آلية دفاع متكررة لتبرير فشلها الذريع وإعادة شد قبضتها الأمنية الحديدية على الأرواح والأرزاق، في مسعى محموم لـ تحويل بوصلة الغضب الشعبي من الداخل المنهار إلى العدو الخارجي الوهمي

​من يسمع خطاب الحوثيين يظن أن أجهزة الاستخبارات العالمية قد تركت غرف عملياتها الفارهة في العواصم لتتفرغ لتجنيد بسطاء من موظفي الدولة أو أكاديميين مطحونين في صنعاء وإب وذمار! لكن الحقيقة المرة هي أن الجاسوسية التي يتحدثون عنها اليوم لم تعد قضية حدود أو اختراق، بل أصبحت تسكن في جيب كل إنسان، في هاتفه ووسائل اتصاله، في زمن بات فيه العالم مكشوفًا بالكامل

إن هذا الإعلان الفضفاض لا يفضح سوى ضحالة الخيال الأمني وعجز الميليشيا عن صياغة رواية يمكن أن تنطلي حتى على أنصارها الأكثر ولاءً، بعد أن استنفدت كل مخزونها من القصص الدرامية

​الواقع أن الميليشيا لا تبحث عن شبكة تجسس حقيقية، بل عن ذريعة جديدة لتبرير القمع المتصاعد، وعن وسيلة ماهرة لإلهاء الناس عن فشلها الساحق في إدارة مناطق سيطرتها، وعن الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي يضرب صفوفها من الداخل

لقد أصبحت تهمة الجاسوسية شماعة جاهزة تعلّق عليها الميليشيا أخطاءها، ليتحول كل ناشط وكل صحفي وكل أكاديمي وكل صاحب رأي مخالف إلى عميل يجب استئصاله، لتأكيد المقولة الحوثية بأن الاختلاف معها هو خيانة للوطن

​وراء هذا الفيلم الرديء، تكمن دوافع سياسية واقتصادية أعمق من مجرد تبرير الاعتقالات

إن الإعلان عن هذه الشبكات هو آلية مزدوجة الأهداف؛ فهو يعمل أولاً على تبرير القمع الداخلي وترويع السكان، وتقدّم الإجراءات القمعية على أنها ضرورة للأمن القومي لحماية المشروع

وثانياً، هو وسيلة فعالة لابتزاز الأطراف الإقليمية؛ حيث يحمل رسالة واضحة ومُشفرة إلى الرياض تحديداً مفادها: اخضعوا لشروطنا وادفعوا الثمن، أو الحرب قادمة

فالميليشيا التي تعيش وتتغذى على التهديد والصراع لا يمكن أن تستمر دون اختلاق عدو دائم، وهي تستخدم ورقة “الجواسيس” لتقوية جبهتها الداخلية وفتح باب المساومة السياسية والمالية مع الخارج، متزامناً مع أي توترات إقليمية في البحر الأحمر أو مفاوضات متعثرة

​أما الجواسيس الحقيقيون الذين يخشاهم اليمنيون حقاً، فهم ليسوا من يتسللون عبر الحدود، بل أولئك الذين يبيعون سيادة اليمن وكرامة شعبه باسم المقاومة والشعارات الرنانة، ويعلنون ولاءهم لطهران أكثر مما يعلنونه لوطنهم

هم من حولوا الوطن إلى سجن كبير يراقب أنفاس الناس، ويعتقلون الأفكار قبل أن تولد

إنهم من سرقوا وعي الأجيال وكمّموا أفواههم، مستبدلين المنهج التعليمي بتعاليم طائفية تجعل من الوهم دستوراً ومن الخرافة منهجاً

​ما يسمى بـ“فيلم الجواسيس” ليس إلا مشهدًا جديدًا من مشاهد الهروب المُر من الحقيقة، ومحاولة يائسة لإخفاء الخوف المتصاعد داخل الجماعة من فقدان السيطرة في ظل الانهيار المعيشي والفساد المتغوّل

لكن الحقيقة تبقى أقوى من الكذب والزيف

إن المطلوب من المجتمع الدولي والفاعلين المحليين ليس الوقوع في فخ الاستجابة العاطفية لهذه الاتهامات، بل العمل المنهجي للتحقق، وحماية الضحايا، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات بمعيار القانون والإنسانية، لا بمنطق الدعاية والمسرحيات

​في النهاية، يبقى السؤال المُرعب: كم فيلماً آخر سيحتاج الحوثي لتمديد عمره السياسي؟ الإجابة باتت واضحة ومكررة: الحوثي يصنع عدوه الوهمي

ويبتز الرياض بفيلم جديد، فكلما فشل، أنتج كذبة جديدة ليعيش على الظلام والخوف