أنور العنسي : "أرض الصومال"... مغامرة جيوساسية هكذا شاهدت ولادتها

منذ 2 ساعات

أنور العنسي بعد دخول إسرائيل على خط الأزمات التي تعصف بمنطقة جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى، لم تعد بيانات الرفض والإدانة لاعتراف رئيس الحكومة الإسرائيلية بـجمهورية أرض الصومال الانفصالية كافية لدرء محاولات إسرائيل إحداث تغيير جيوسياسي جذري وعميق في القرن الأفريقي وجنوب اليمن خصوصا، قدر ما يتطلب الأمر تحركا عربيا موحدا ومتعدد الأشكال للحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الصومال واليمن، والعمل حثيثا على احتواء أزماتهما واستعادة الدولة فيهما بالنظر إلى أهمية موقعهما وارتباطهما بمنظومة الأمن القومي العربي، خصوصا بالنسبة للسعودية ومصر والسودان

منذ عقود لم تكن إسرائيل لتغيب عن أفريقيا عموما وفي القرن الأفريقي تحديدا بل تزايد نفوذها وتأثيرها أكثر فأكثر، وكان ذلك خصما من رصيد العالم العربي وعلاقاته التاريخية بهذه المنطقة وعموم القارة، وذلك بعد أن انشغل بقضايا كثيرة أخرى وأدار ظهره لها، وتقطعت سبل تواصله معها، رغم كثرة الأبحاث والدراسات التي نبهت إلى خطورة التوغل الإسرائيلي في وسط وشرق القارة، ما أتاح فراغا خلفه تحاول إسرائيل الآن أن تملأه بشبكة علاقات ومصالح واسعة وتسهيلات عسكرية واستخباراتية مع بعض الدول خصوصا عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر

من المؤكد أن إسرائيل تريد مقايضة الاعتراف بالسلطة الانعزالية في أرض الصومال إما بتهجير عدد من سكان قطاع غزة إليها وإما بالحصول على قاعدة وتسهيلات عسكرية واستثمارات اقتصادية، أو بكل هذه الأمور معا، لكن هذا الاعتراف يبدو أشبه بهدية ملغومة تضع هذه السلطة في موقف صعب للغاية أمام الذين يرفضون صفقة الاعتراف مقابل التهجير أو التمدد العسكري، ولا يمكن لأي مكان في كل الصومال أو غيره في أفريقيا أن يمثل وطنا بديلا للفلسطينيين، غير أن إسرائيل لا تزال تبعث برسائل الغزل لبعض الجماعات الانفصالية في هذه المنطقة تتضمن وعودا بالاعتراف بها والتعامل معها، وأنها ستكون جزءا من الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها مع أبوظبي والمنامة، بالإضافة إلى دأب إسرائيلي على تعزيز تعاونها الاستخباراتي القائم أصلا مع إريتريا منذ سنوات عديدة

كما يجري تداول تقارير عديدة عن اتصالات غير مؤكدة بين جهات إسرائيلية وقيادات أو أفراد محسوبين على المجلس الانتقالي في اليمن الذي يبدو في نظر البعض أنه يكاد يتدحرج نحو الصوملة ما لم تكن هنالك معجزة للإسراع بوضع حد للنزاع الدائر فيه

تطلعات أرض الصومال لانفصال جنوب اليمنخلال المحاولة الانفصالية التي شهدها اليمن، أو ما بات يوصف بحرب صيف عام 1990 أعلن الزعيم اليمني الجنوبي الاشتراكي على سالم البيض من مدينة المكلا بمحافظة حضرموت التي ينتمي إليها، مساء يوم 19 مايو/أيار من العام نفسه عن انفصال جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة وانسحابها من الوحدة مع شمال البلاد

المفاجأة أن ما يُسمى جمهورية أرض الصومال كانت أول من بادر في اليوم التالي إلى تأييد محاولة انفصال جنوب اليمن وأعلنت اعترافها بالدولة الجنوبية اليمنية قبل ودون أن تولد، وذلك أملا في أن تكون هناك دولة ترد لها الجميل بالاعتراف بها، لكن هذا الأمل تبدد بعد فشل محاولة الانفصال ولجوء البيض إلى سلطنة عمان المجاورة، ولربما كانت أرض الصومال تأمل في أن تكون الدولة الجنوبية في حال عودتها تكون هي الأخرى أول من يمكنه الاعتراف بها قبل إسرائيل، خصوصا إذا تقاطعت مصالح عدن وهرجيسا بالعلاقة مع إسرائيل، الأمر الذي يعد حلما بعيد المنال

جاء الاعتراف ‏الإسرائيلي بـجمهورية أرض الصومال كـدولة مستقلة وذات سيادة لا ليعيد فقط تسليط الضوء على الصومال الذي يعاني من الصراع والتمزق منذ نحو خمسة وثلاثين عاما على اندلاع الحرب الأهلية فيه، ولكن أيضا لينذر بخطر نشوء واقع جديد في منطقة جنوب البحر الأحمر يكون لإسرائيل فيه يد طولى وأكثر من موطئ قدم ومجال نفوذ

لا بد أن ما جرى هو نتاج سنوات طويلة من إهمال عربي للصومال والفشل في إيجاد حل سياسي للنزاع فيه ليتمكن معه من استعادة دولته ومؤسساته وبسط سيطرته التامة على كامل أراضيه

جرت أكثر من محاولة عسكرية لضبط الأوضاع في الصومال، نتذكر منها على سبيل المثال عملية إعادة الأمل التي تمت لضبط أوضاعه، وذلك بتدخل من قبل الولايات المتحدة الأميركية عام 1992 وكانت في جانب منها تهدف إلى تمكين وكالات الإغاثة الدولية من توزيع الغذاء وتأمين الأدوية وأنشطة إنسانية أخرى، إلا أن هذه العملية انتهت بمقتل عدد من جنود مشاة البحرية التي أرسلها الرئيس الأميركي المنتهية ولايته آنذاك جورج بوش الأب في بداية ديسمبر/كانون الأول 1992 وقد أدى هذا لاحقا إلى تعثر الجهود الأميركية والدولية لوضع نهاية للحرب واحتواء الأزمة الإنسانية التي نجمت عنها، كما جرت كذلك محاولة مماثلة من قبل الجارة إثيوبيا لم يكتب لها النجاح بل زادت أمور الصومال تعقيدا

إلا أن هذا لم يكن السبب الوحيد في إطالة أمد النزاع وتفكك الصومال إلى ثلاثة كيانات رئيسة إحداها في وسط البلاد وعاصمته مقديشو

وثانيها شمال شرق الصومال في ما عُرف بـبونت لاند ومركزه مدينة جَرَوي

والثالث في ما أطلق على نفسه اسم جمهورية أرض الصومال واتخذ من هرجيسا عاصمة له

بالإضافة إلى جيوب صغيرة في جنوب البلاد تسيطر عليها ما يعرف بـحركة الشباب الإسلامية الجهادية المتطرفة

في أواخر ثمانينات القرن الماضي وأوائل تسعيناته جرت محاولات عدة لجمع فرقاء النزاع الصومالي وذلك داخل الصومال نفسه وفي كل من صنعاء وأديس أبابا وجيبوتي وعواصم عربية أخرى، وقد تابعت معظمها مباشرة عندما كنت أعمل مراسلا متجولا لإحدى الفضائيات العربية في اليمن وشرق أفريقيا، غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل لأسباب عدة على رأسها الانقسامات السياسية العميقة وشديدة التعقيد بين مكونات وقبائل الصومال كافة

يتشكل الصومال من عدة قبائل أهمها الهوية التي تتركز وسط البلاد في المنطقة الواقعة بين نهري جوبا وشبيلي تليها قبيلة الطارود وينتشر أفرادها في معظم مناطق الصومال، وإن كانت تبدو أكثر تموضعا في إقليم بونت لاند شمال شرق البلاد

أما ثالث هذه القبائل فهم الإسحاقيون الذين يقطنون منطقة أرض الصومال إلى الشمال الغربي من الصومال

وثمة قبائل أخرى أيضا غير أن القبائل الثلاث هي التي استأثرت بالسلطة والثروة والنفوذ

ومنها جاء أغلب الحكام وقادة الجيش، فضلا عن نزوح وفرار مئات الآلاف من سكان الصومال إلى البلدان المجاورة ومنها اليمن الذي استضاف في وقت من الأوقات أكثر من مليون لاجئ

ولقد كان من عواقب استفحال النزاع في الصومال وعدم الالتفات إلى مخاطر ذلك أن تحوَّل الكثير من أراضيه إلى ساحة للفساد بكل أشكاله ومرتع للعصابات التي استباحت مدنه وقراه ووديانه وسهوله التي جرت في بعضها زراعة الحشيش وتصديره من مطارات صغيرة خاصة إلى جزر في البحر المتوسط، كما استورد بعض تلك العصابات آلات لطباعة العملات والجوازات والوثائق المزورة، وتوسعت بعد ذلك أنشطة القراصنة في المحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن ما دفع الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا والصين وغيرها إلى نشر قوات بحرية في البحار المحيطة بالصومال لتعقب عصابات القرصنة وحماية طرق التجارة البحرية

مشاهدات تاريخية من أرض الصومالكان تجوالي بين مدن الصومال المنقسم محفوفا عادة بمخاطر جمة ولا يتم غالبا إلاّ عبر التنسيق الذي يجريه مرافق وسائق صوماليان بين الميليشيات والعصابات المسلحة المنتشرة في عموم الصومال، وكان الرجلان يعملان لدى مجموعات من الموظفين السابقين لدى منظمات الإغاثة الدولية، ويتحدثون الإنجليزية وبعضا من اللغة العربية، وأصبح يطلق على تلك المجموعات اسم تكنيكالز تقوم بمساعدة الصحافيين المغامرين الذين يزورون الصومال

وخلال ذلك الحين استرعى انتباهي تداخل حدود التماس بين تلك الميليشيات وكذلك بين الكيانات الانفصالية في شمال شرق وشمال غرب الصومال على نحو غريب

حين ذهبت مع مرافقي ومصوّر تلفزيوني إلى أرض الصومال قادما من بونت لاند التي غادرتها مضطرا كانت هنالك متاعب لا يتسع المجال لشرحها، ومن حسن حظي أنني كنت- من قبيل الاحتياط- قد حصلت من أديس أبابا على ثلاث تأشيرات سفر إلى الصومال كما كانت عادتي كلما توجهت إلى هذا البلد، واحدة من سفارة حكومة مقديشو، والأخرى من قنصلية دولة بونت لاند والثالثة من قنصلية جمهورية أرض الصومال

من الغريب أننا اجتزنا حدود إقليم بونت لاند دون توقف وعندما وصلنا إلى مركز لاس عانود على المدخل الحدودي لجمهورية أرض الصومال ختمنا جوازاتنا بسرعة ثم واصلنا سفرنا نحو بربرة

وفجأة وجدنا أنفسنا أمام مركز جوازات تابع لدولة بونت لاند التي جئنا منها داخل ما يفترض أنها أراضي جمهورية أرض الصومال ولقد بدا الأمر شديد الالتباس علينا وعلى موظفي هذا المخفر إذ كيف توضع على جوازاتنا أختام الوصول إلى أرض الصومال قبل أختام المغادرة من بونت لاند

وبعد سلسلة اتصالات أجراها مسؤولو المخفر، أوضح لنا رئيسه أن ثمة خلافا بين الإقليمين الجارين على ترسيم الحدود بينهما، لكننا كنّا قد أضعنا حوالي أربع ساعات تحت هجير الشمس انتظارا لهذا التوضيح، ولَم يعد لدينا من خيار سوى مواصلة السفر ليلا وسط عواء الذئاب المرعبة في تلك الصحراء المقفرة، وذلك نحو مدينة بربرة على خليج عدن التي اشتهر ميناؤها تاريخيا بتصدير الأغنام والماشية إلى الجزيرة العربية وبلدان أخرى

بمجرد علمه بوجود صحافي ومصور في فندق بعاصمته الصغيرة أرسل محمد إبراهيم عقال رئيس ما سمي جمهورية أرض الصومال في استدعائي إلى مكتبه وسط هرجيسا

استقبلني الرجل ومرافقي بحفاوة بالغة، بل وأشعرني أنني نزلت عليه هدية من السماء كما قال، معتبرا أنني حضرت إلى هرجيسا في لحظة مناسبة من التاريخ الذي تمر به صومالي لاند، ولَم يكن الرجل حتما يعلم بخلفية حضورنا إلى عاصمته هاربا من بونت لاند المجاورة

بدا عقال في حالة من عدم الاستعداد الذهني لا لإجراء حوار مصور معه في تلك الساعة ولا للتفاهم معه لإجرائه في وقت لاحق، لكنه كان مصرا على إجراء اللقاء فورا نظرا لارتباطه بالتزامات أخرى حسب قوله

كنت أعرف الكثير عن عقال كشخصية سياسية لعبت أدوارا مهمة عند استقلال أرض الصومال من الاحتلال البريطاني، ثم توحيدها مع جمهورية الصومال، حيث كان وزيرا ثم ثاني رئيس وزراء لجمهورية الصومال ثم سفيرا لها في الهند بعد سجنه لعدة أعوام، وذلك قبل أن يصبح الرئيس الثاني لـجمهورية أرض الصومال، غير أن الأقدار لم تحالفني بلقائه إلاّ في هذه المرحلة الصعبة من حياته بعد بلوغه من العمر أرذله ومن المرض أشده

في حواري التلفزيوني معه عبَّر عقال عن مرارة شديدة تعتصر قلوب وأكباد أبناء شعبه في أرض الصومال جراء ما دفعه أبناء هذا الإقليم منثمن باهظ للوحدة مع الصومال التي انتهت بحرب ضروس مع نظام الرئيس الراحل محمد سياد بري كلفت الإقليم أكثر من خمسين ألف قتيل حسب تقديراته

عقب اللقاء أصدر عقال أوامره لنائبه طاهر ريالي كاهن، الذي أصبح الرئيس الثالث للبلاد بعده بالحضور فورا لإجراء لقاء تلفزيوني آخر معه، لم يسألني عقال إن كنت أرغب في ذلك، ولم أكن أنا أعرف ما الذي يمكنني أن أسأل ريالي كاهن عنه، بعد الحديث المطول الذي أجريته مع رئيسه

عندما حضر ريالي كاهن كان عقال قد غادر المكان ووجدت الفرصة مواتية للذهاب معه في حديث عام عما يمكنني عمله خلال زيارتي لهرجيسا فاقترح علي زيارة إحدى القواعد العسكرية للاطلاع على عملية إعادة تأهيل جيش جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها حينذاك من قبل أي دولة في العالم

في تلك القاعدة استقبلني قائدها وكأنني جنرال أو زائر استثنائي قادم من أحد الجيوش الصديقة حيث وجدت قوات القاعدة وقد أصبحت في وضع استعراضي خاص، ودعاني ذلك القائد إلى استعراض حرس الشرف الذي اصطف لتحيتي، وما إن انتهينا من ذلك حتى اصطحبني إلى المنصة للوقوف إلى جانبه إيذانا ببدء استعراض لقواته!لم يدع لي الرجل فرصة لأن أوضح له أن مهمتي كصحافي تقتضي أن لا أكون في المنصة بجواره، وأن لا أبدو في الصورة أساسا سوى حين يكون لذلك داع،وبعد انتهاء استعراض القوة أخذني الرجل بخيلاء أمام ضباط وصف ضباط قواته نحو مكتبه القريب، وهناك أحضر بعض الملفات والخطط التي قال إنه يعكف عليها للبدء في تشكيل وتدريب قوات برية وبحرية وأخرى جوية للدفاع عن أراضي صومالي لاند

كنت في حيرة شديدة إزاء عفوية الناس في هذه البلاد العجيبة إذ تحقق لها قدر من الأمن والاستقرار، ما يجعل صرافي العملات الأجنبية يفترشون الأرض ويعرضون نقودهم دون أي احتياطات أمنية سوى العصي التي يشتهر الصوماليون عموما بحملها

كان الشارع الرئيس في وسط المدينة يعج بالحياة والناس، والسلع المستوردة تملأ الدكاكين وتغص بها الأرصفة، كما كانت النصب التذكارية التي تخلد تضحيات سكان أرض الصومال منصوبة على بعض تقاطعات وسط المدينة إلى جانب مجسم لطائرة حربية يرمز إلى المقاتلات التي استخدمها سياد بري لقصف المدينة بينما كان صهرة الجنرال مورجان يشاهدها من نافذة غرفة عمليات قواته المتمركزة فوق مرتفع مطل على المدينة

كل ذلك كان يعكس حقد السكان على حقبة سياد بري، وتوقهم الشديد إلى اعتراف العالم بهم كدولة مستقلة، بل كشعب يزعم بعض الغلاة من أبنائه بتميزهم عن سواهم من الصوماليين، غير أن أرض الصومال لم تستطع التحول إلى دولة، واعتراف العالم بها لا يبدو أنه، في المدى المنظور أو المتوسط وحتى البعيد، سيتحقق

*نقلًا عن المجلة