البعد الديني وطرق توظيفه الشيطانية.. قراءة في رواية «يوم مات الشيطان» لـ أحمد قاسم العريقي
منذ 2 سنوات
يوم مات الشيطان
رواية جديدة للدكتور الأديب أحمد قاسم العريقي صادرة عن دار هنداوي للنشر ٢٠٢٢
رواية تجمع بين الخيال العلمي والواقع، تستعين بالخيال العلمي لنقد الواقع بأبعاده المختلفة سياسيا واجتماعيا ودينيا، وتركز بشكل خاص على البعد الديني وطرق توظيفه الشيطانية التي خلقت عالما موبوءا بالحروب والنفاق والأنانيات المدمرة مع أن الأديان في الأصل ظهرت لإصلاح فساد المجتمعات وترقية الإنسان
موت الشيطان هو موت للأنانية والنرجسيات المختلفة في هذه الرواية، إذ هي التجسيد العملي المدمر لفعل الشيطان، لكن هذا الشيطان ( الأنانيات المدمرة) لا يموت في عالم الواقع بل في عالم الحلم عالم المثل، عالم المستقبل حيث العلم يبلغ مراتب عالية من التطور وبفضله لا بفضل الأديان يموت الشيطان ( تموت الأنانية) عبر لقاحات يحقن بها جسم الإنسان؛ لقاح الدين ليمحي من العقل كل التراث الديني، ولقاح الصدق كي تمحى نوازع الكذب، ولقاح إزاحة الأنانية ليحل محلها الإيثار ولقاح إسكات الغضب لتحل الحكمة والهدوء محله
وبهذه اللقاحات يتغير الإنسان ويسود عالم واقعي وروحاني أفضل بكثير مما تخلقه الأديان من نزاعات وحروب وأفضليات مستكبرة شوهت معنى الإنسان وأهانته
نجح الروائي أحمد قاسم العريقي في المزاوجة بين عالم الواقع وعالم الخيال المستقبلي ( القرن السادس والعشرين)، من خلال قنبلة تنفجر في عطان بالقرب من بطل الرواية مروان، فتنفصل روحه عن جسده، يذهب جسده الى المستشفى وتذهب روحه الى عالم الفردوس
يظن مروان أنه في الجنة وهو يشاهد دنيا جميلة حوله ونساء لم يشاهد لحسنهن مثلا
ينجح الكاتب في وضع عنصر التشويق الأساس وهو العلاقة بين جسد مروان المريض وروحه المهاجرة ومتى وكيف ستعود روحه من عالم المستقبل الى عالم الواقع
الجسم الأعظم للرواية يصرف لعالم المستقبل مع تدخلات ناجحة في وقتها لعرض حالة المريض الراقد في غرفة مشفى حير الأطباء أمره فهو في حالة موت مؤكد كما تبين حالة جسمه لولا بسمة في الثغر تتسع وتضيق حسب أحواله في عالم المستقبل
في عالم المستقبل تبدأ روحه في مراقبة عالم بديع معطر بكل الروائح الزكية وتملأه الزهور والورود ويقطنه ناس وناس
ناس طبيعيون من لحم ودم وناس يكتشفون بالكاد بأنهم هيوموروبوت أي روبوتات بشرية
تشاهد روحه عالم المستقبل لكنه يبقى غير مرئي وغير مسموع حتى يخترق جسدا يشبهه، جسد كريم فيتحول الى كائن بشري في عالم المستقبل، وتبدأ مغامراته وإدهاشاته ويكتشف سكان عالم المستقبل حاله فيخضعوه للدراسة ويعطى اللقاحات الضرورية للتخلص من محتوى فكره الديني والاجتماعي فيرى الله أهم من الأديان بل ويعافها وينسى معاني الأنانية والغيرة ويدرك أن المتع المحصلة في عالم المستقبل بفضل العلم أعمق من متع الدنيا وألذ
ولأن متعة النساء هي الأبرز فقد رأى بعينيه كيفية اللقاء ( المضاجعة) بين رجال عالم المستقبل ونسائه، وسماه الكاتب ( اللقاء الروحي) وأن معاشرة النساء المألوفة في الأرض همجية وليس فيها من اللذة الا ثوان قليلات بينما تبلغ في عالم المستقبل نصف ساعة من خلال وضع الأكف على العورات ومواضع القلب وسماعات في الأذن تبث موسيقى روحية، ثم تسري من خلالها بين المتضاجعين رعشات من اللذة لاحدود لمتعتها، ولأن الغيرة قد سقطت والأنانية ( الشيطان) ماتت، فيمكن للرجل أن يضاجع روحيا سبع نساء أو ضعفهن وكلهن يحصلن منه على نفس اللذة بل ويمارس ذلك بحضور باقي النساء، ما أن ينتهي من واحدة حتى تتقدم الأخرى
ولا مكان للمضاجعة الأرضية إلا في حال طلب الولد
وكي تستمر الرواية بين المقارنات بين عالم الواقع الأرضي وعالم المستقبل القادم، يتم إخضاع ذاكرة مروان للنظر والمشاهدة يصور الكاتب هنا أن العلم في عالم المستقبل تطور إلى الحد الذي تم فيه تفريغ ذاكرة مروان الأرضية من كل محتوياتها إلى ذاكرة الكترونية مصورة أمكن عبرها مشاهدة الوقائع والأحداث، من حرب افغانستان إلى حرب الانفصال عام ٩٤ وثورة الشباب ودخول الحوثيين الى صنعاء وبداية الحرب التي ما زالت مستعرة، وفي كل مرة يُظهر سكان عالم المستقبل استغرابهم من همجية عالم الواقع الذي صار بالنسبة لهم تاريخا مضى
وهكذا ينجح الكاتب في نقد الواقع من خلال حياة مروان ومغامراته في عالم المستقبل
وفي سياق موت الشيطان يتم استعراض أفكار الأديان المختلفة ومحاولاتها الفاشلة في إصلاح الإنسان ليتم في الخلاصة الانتصار للعلم الذي مكّن عبر لقاحاته من إنتاج إنسان غير أناني، صادق وحكيم، انسان لم يعد يعرف الشيطان وما يوسوس له من أفعال قبيحة، وبموته تغير الإنسان وتغير شكل العالم
لا تستمر الرواية في امتاع القارئ بتجارب مروان الأرضي في عالم المستقبل بل ترتد بالتدريج الى الواقع الشيطاني من خلال تصوير أن أثر اللقاحات التي طُعِّم بها مروان تراجع حد الاختفاء بسبب سنه العالية وكونه أرضيا معجونا بكل أشكال النفاق والأنانيات والأفكار الدينية
يبدأ بانتقاد ما يشاهده من عُري وما يعرض للرجل من نساء يزدن على أربع ويرى الاختلاط مذموما والآليون من الناس يتدخلون في كل شيء، يبدأ بجعل الإسلام الذي اعتاده معيارا لنظرته الى عالم المستقبل ويريد هداية عالم المستقبل إليه
وفي الأثناء تحمل منه امرأة من عالم المستقبل كانت تراقب تطور تكيفه مع عالمهم وبحملها منه تخالف شروط الحياة في عالم المثل فتنفى معه الى جزيرة الشواذ وهي جزيرة يُنفى إليها المخالفون لنظم عالم المستقبل ويقضون فيها عقوباتهم
ولا ندري لم اختار الكاتب أجمل الجزر اليمنية وأغربها (سقطرى ) لتكون هي بالاسم ( جزيرة الشواذ) ولو اختار جزيرة متخيلة لكان أفضل من جعل جزيرة سقطرى الجميلة مكانا للشواذ والمتمردين على القانون
من عالم المستقبل أمكن لمروان أن يرى التطور المذهل الذي حصل في كوكب الأرض فتبدلت الصحاري الى جَنّات وعُمِّرت الأرض على نحو بديع اختفت فيها الأنانيات والدول وحدودها وساد فيها مجتمع عالمي بلغة عالمية موحدة مع احتفاظ كل أمة بلغتها الخاصة
عالم إنساني متطور تراجع فيه دور الرجال وصار في معظمه محكوما من النساء، عالم لا يحتاج أنبياء ولا رسالات سماوية فالعلم الإنساني حسم كل ذلك وأوصل الإنسان الى حالة الكمال التي يصير فيها نبي نفسه في كون متفاعل يحيا ويموت
في جزيرة الشواذ ، يلتقي مروان بكريم الذي تقمص جسده في عالم المثل فيصطرعان ويوشك كريم أن يخز بطعنة قاتلة مروان الذي يتلاشى أمامه ويختفي ليظهر متحركا في سرير المرض فتفرح أمه وزوجته ويتم الإعلان أن مروان استعاد وعيه وصحته ليرى ثانية مشاكل أنانية أهل الأرض قد غزت أسرته ومنها الشجار الذي وقع بين ولديه علي ومعاوية على ميراثه وهو بعد في سرير المرض
رواية لا تزيد عن ١٢٠ صفحة ، ومع ذلك فقد حشد الكاتب فيها صور الصراع الأزلي على الأرض وأشواق الخلاص منه عبر الأديان والفلسفات وكيف تمرد الإنسان عليها وشوهها وصيرها خادمة لأطماعه وأنانياته، ثم كان العلم ولقاحاته هو المنقذ، هو الحل لأنانية الإنسان، طور لقاح قتل هذه الأنانية واعتماد الصدق وبهما مات الشيطان وبانتظار ذلك العالم القادم بعد خمسة قرون سيتعذب أهل الأرض كثيرا فشيطانهم الشرير ما يزال نشطا ولم يمت، وبانتظار معجزة العلم القادم سيتجرع عالم الواقع المزيد من الويلات بكلام حق يراد به باطل وباسم كل مقدس وجميل
أحمد السري2022/12/27 ====================================