التغطية الصحفية لقضايا العنف.. هفوات مكلفة وثغرات كبيرة
منذ 8 أشهر
عدن – ريــا المزاحمي في اليمنِ كما في غيره من البلدان تتعرض كثير من الفتيات والنساء لأشكال مختلفة من العنف والمضايقات، كالإقصاء والتهميش والاعتداءات الجسدية والنفسية والجنسية، بعضها عبر الإنترنت والبعض الآخر على أرض الواقع
غير أن ذهنية المجتمع المحافظ غالبًا ما تغيب عند وقوع العنف، وسرعان ما تحضر لاحقًا للتستر عليه، فلا يصل إلى أقسام الشرطة سوى القليل، فيما أقل القليل هو ما يمكن أن يصل إلى الصحافة
وفي الوقت الذي يكون فيه من غير اليسير على الصحفيين تغطية قضايا العنف ضد المرأة في بلد محافظ كاليمن، تصبح التغطيات أكثر صعوبة عندما يقوم أحدهم بنشر قصة أو صورة ما، دون حساسية كافية أو احتكام دقيق للقواعد
تعتمد التغطية الصحفية الحساسة لقضايا العنف الاجتماعي على جملة من المعايير والمحاذير التي يجب مراعاتها بصرامة في هذا النوع من التغطيات، إذ يمكن لحسن النية أو سهو بسيط غير مقصود أن ينتج عنفًا إضافيًا ضد الناجية، وهذا ما حدث في الواقع
خلل في حجب الهويةتُشكل الصورة ضرورة صحفية ومعضلة أخلاقية في آن، ففي قضايا العنف والوصم الاجتماعي يمكن للصورة أو جزء منها أن تتحول في نظر الناس إلى “فضيحة”، بتعبير العامة
ويمكن لقطعة أثاث أو اكسسوار أو أثر مميز أو ملامح مكانية من نوع ما أن تدل على الشخصية، رغم حرص المصور الصحفي على حجب وجه الناجية (المرأة التي تعرضت للعنف)
تقول “أشجان”: “خمسة سنوات حتى الآن ومازلت غير قادرة على الخروج من دوامة العنف والتعنيف بعد ما نشرت إحدى الصحفيات قصتي”
وتوضح أشجان لـ«المشاهد»: “إشارة في النص وتفصيلة صغيرة في الصورة سقطت سهوًا ربما من الصحفية وسقط معها مستقبلي كله”
كانت شكوى أشجان تتعلق بأحد حقوقها العامة المعترض عليها من الأقارب، لكن نشر القصة مكنهم من ضربها وعزلها والتشدد في موقفهم أكثر من ذي قبل، والاستمرار في تعنيفها لسنوات “العنف الذي عانيته بعد نشر قصتي أكبر بكثير من سابقه”
في نموذج آخر تعرب سناء عن تقديرها للصحفي الذي أراد تقديم تجربتها كقصة نجاح ملهمة، وعبرت في ذات الوقت عن شديد استيائها من أسلوب كتابة القصة والصورة المنشورة
“استغل كوني كفيفة، فكتب قصة كما لو كان يستجلب من القارئ الشفقة، ونشر صورة تعزز موطن الضعف وتبتعد عن مواطن قوتي وحضوري واندماجي في المجتمع الواسع”
تقول سناء
مضيفة: “مرّ وقت طويل على تلك الحادثة لكنني ما زلت أصارع عقدتي من الصحفيين”
اعتبارات مهنيةتشترط التغطية الصحفية الحساسة لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي التزامًا صارمًا باليقضة والقواعد الأخلاقية، تقول “وداد البدوي”، صحفية مدافعة عن حقوق الإنسان
وتضيف: “هناك حساسية كبيرة في تغطية هذا النوع من القضايا، حيث لا بد من دراسة الأجواء والظروف المحيطة بالناجية بكثير من العناية والتركيز، وإدراك مدى خطورة تعريض الناجية أو أي من أهلها وأقاربها للخطر”
مشيرة إلى أهمية أن “يُبرز الصحفيون والإعلاميون قضايا الناجيات كمناصرات للتغيير الإيجابي، والمساهمة في تغيير وعي المجتمع إزاء سلبية إخفاء حوادث العنف بدلًا من طرحها للتحليل والمعالجة”
موسمية العنف أم موسمية التغطية؟العتب على الصحافة أوسع مما نظن نحن كصحفيين لكننا لانراه في خضم انشغالنا بملاحقة الأحداث اليومية، بحيث لا نجد وقتًا للنظرِ إلى أنفسنا في “مرآة المجتمع”
هذهِ المرة تُطلق ناشطة مدنية صرخة كبيرة في وجه الصحافة”: أنتم الصحفيون كبعض الأطباء الذين يكتبون روشتاتهم تبعًا لأمراض الموسم وليس بحسب حالة المريض”
أو هكذا تنظر إليكم بعض الناجيات
تخبرني صديقتي المنافحة عن حقوق المرأة والطفل بعد امتصاصي لغضبها، عن امرأة تعرضت للعنف وتغافلت عنها الصحافة رغم إبلاغها إحدى الصحفيات باستعدادها للحديثِ عما تعرضت له على يد زوجها
تواصلت بدوري مع تلك المرأة وما إن علمتْ أني صحفية حتى انفجرت في وجهي: “أنتم الصحفيون لا ترون أكثر من مصالحكم الآنية”
تعرضت “أنوار” -كما عرفت خلال حديثها ما بعد “الانفجار”- للضربِ المبرح من زوجها لدرجة تهشمت معه بعض عظامها
تقول أنوار: “ظللت أبحث عن صحفية تنقل وجعي للجهات المعنية والناس، كنت بحاجة للحماية والدعم لكنني وجدت نفسي وحيدة”
وتضيف: “ذات يوم عثرت على صحفية وأخبرتها الحكاية، فأخذت رقم هاتفي كي تتصل بي حول تفاصيل الحادثة، ومضت الأيام والشهور ولم تتصل”
وذات يوم اتصل بي رقم غريب وحين أجبت كانت هي
قالت لي: “أنتِ ناجية تعرضتِ للعنف، وعندنا حملة 16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة وأحتاج أن أسمع قصتك لكي أنشرها بهذه المناسبة”
تحدق بي “أنوار” وترمي قنبلة أخرى في وجهي: “هل أصبحت أوجاعنا قصصًا للمناسبات؟، حسنًا، هلا تخبرون الآباء والأزواج أن يؤجلوا عدوانيتهم ضدنا إلى حين حاجتكم وعن مواصفات حادثة الضرب التي تودون نشرها حسب المناسبة؟”
وبكل صوتها ولغة جسدها: “أين إنسانيتكم وواجبكم؟”
صمت مطبق، وكثير من المرارة
حوادث في النقطة العمياءتنظر الصحافة إلى قضايا العنف بعينٍ واحدة حين تفتش عن قصصها فقط في الأحياء الفقيرة، إنه خطأ شائع وقعت فيه الصحافة والمجتمع مرات كثيرة
“من قال لكم إن الأسر الغنية لا تمارس العنف على النساء؟”
تسألني “أروى” بحرقة، ومرة أخرى أركز على امتصاص الغضب أكثر من محاولات البحث عن إجابة
تنتمي “أروى” لإحدى الأسر الميسورة التي ترفض لمجرد المزاج -كما تقول- السماح لابنتهم بالذهابِ إلى الجامعة واستكمال تعليمها
تضيف معاتبة: “لي صديقة صحفية، تكتب كثيرًا عن حرمان فتيات الريف وفتيات الأسر الفقيرة من التعليم دون أن تلتفت إليّ باعتباري لست ريفية ولا فقيرة”
وتواصل أروى: “طلبت منها مرتين أن تلتفت إلى ما يحدث خلف الجدران المزركشة لكنها لم تهتم”
أسوار عاليةفي الأعراس أو المشافي أو غيرها من الأماكن التي تتواجد فيها نساء من شرائح اجتماعية غنية، كثيرة هي الحكايات التي يتداولنها حول زواج البدل (الشغار) وإجبار المرأة على كثرة الإنجاب دون مراعاة أثر ذلك على صحتها وسلامتها
وعن الحرمان من التعليم الجامعي لعدم الحاجة إلى الوظيفة، وعن وعن،… قصص كثيرة عن عنف نفسي وجسدي وجنسي تحدث هناك كما يقلنّ، وتغيب عنه الصحافة
أخذت بعضًا من تلك الحكايات ووضعتها رفقة سؤال وأحد على طاولة البرفسور “فضل الربيعي”، أستاذ علم الاجتماع في جامعة عدن، ورئيس مركز مدار للدراسات والبحوث
فأجاب: “العنف الأسري والسلوك العدواني ضد المرأة ليس حصرًا على الأسر الفقيرة والمهمشة، بل أنه يحدث في الأسر الغنية والطبقات العليا، بشتى أنواعه الضرب والتهديد والقتل والتجسس والطعن، ومنع المرأة من اتخاذ القرارات المصيرية كالزوج والانجاب وخلافه”
ويضيف: الإعلام عادة ما يصور العنف بأنه حاصل فقط في الأوساط الفقيرة والمهمشة؛ وذلك لسبب بسيط جدًا وهو أن العنف في الفئات الاجتماعية الفقيرة سريع الانتشار بصورة علنية بخلاف في الأسر الغنية أو الميسورة
وبحسب الربيعي تحرص الأسر الغنية والميسورة على كتمان ما يحدث؛ مخافة الفضيحة وتضرر السمعة فيحرصون على جعل ذلك بعيدًا عن الإعلام، وقد يفرضون عليه إخفاء حوادث العنف ومنع ظهورها إلى العلن
الصحة الإنجابية والإعلام الغائبماتزال الكثير من المشكلات والانتهاكات المتعلقة بالصحة الانجابية تتجمع في النقطة العمياء بالنسبة للإعلام بحسب المهتمين بهذا النوع من القضايا
وفي مواجهة هدفت منها معدة التقرير إلى تعريف كل طرف بمآخذ الآخر تقول أخصائية النساء والولادة، ومديرة قسم الصحة الانجابية في مستشفى الصداقة الدكتورة “رنده البريكي”: “إن الصحة الانجابية تقوم بدورها وتبذل قصارى جهدها لتقديم الخدمة، لكن أكثر مكونات المجتمع لا يملكون القدر الكافي من الوعي بالمخاطر والحلول المتعلقة بهذا المجال على أهميته؛ لأن الإعلام لا يقوم بدوره التثقيفي”
من جانبه يقول الصحفي بديع سلطان: “المشكلة ليست لدى إدارة الصحة الانجابية أو الداعمين لها بقدر ما هي في مركز الإعلام والتثقيف الصحي بالوزارة، المركز هو المعني بالتواصل مع الصحفيين والإعلاميين، ويفترض التعامل والتعاون معهم، حين يتواصلون معه”
ويضيف سلطان: “تتفاوت استجابة القائمين على مركز الإعلام الصحي فهناك من يتعاون مع الصحفيين وهناك من يرفض حتى مجرد التواصل مع الصحفيين لإعلامهم بعقد دورات أو صدور بيانات أو إحصائيات، ونحن كصحفيين نادرًا ما نعلم عن الورش والدورات التي ينظمها المركز رغم أننا يفترض أن نكون مشاركين”
مستدركا: “لكن هذا لا يعفي الصحفيين بالطبع من كونهم مسئولون عن البحث والسؤال وتقصي المعلومات، خاصة في هكذا مجالات حيوية”
لأسباب أنانيةفي العام 2021، مرّت الصحافة مرور الكرام حول قصة رجل أجبر زوجته على الولادة بعملية قيصرية، رغم عدم وجود مخاطر أو مبررات طبية تمنعها من الولادة بشكل طبيعي، فماتت بعد العملية بساعات قليلة
مرّت القصة بسلام لكن حالات الإكراه بلغت اليوم حدًا صادمًا دون أن تجد القضية الحد الأدنى من اهتمام الإعلام
حول منسوب العمليات القيصرية غير الضرورية تقول الدكتورة “منال الناخبي”: “إن عددها يقدر بنحو 50% من إجمالي الولادات، موضحة أنها تتم بطلب وليس بسبب تشخيص الأطباء”
وتنوه الناخبي إلى أن “مخاطر العملية القيصرية بالغة، في وقت كثرت فيه هذه العمليات بطلب دون الحاجة الطبية إليها، خاصةً من قبل الآباء الجدد، في ظل جهل فادح بآثار القيصرية وتداعياتها المستقبلية”
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع تعزيز أصوات النساء من خلال الإعلام الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصاديليصلك كل جديدالإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقارير