الشهاوي: عبد العزيز المقالح .. عاش للشِّعْر وأسئلته
منذ 2 سنوات
عبد العزيز المقالح
عاش للشِّعْر وأسئلتهأحـمـد الـشَّـهـاوي ====================================[email protected]كان عبد العزيز المَقالِح (1937 - 28 من نوفمبر 2022) الذي أنفق أكثرَ من نصفِ عُمره في الدفاع عن الأصوات الجديدة ، وحقِّها في التعبير عن نفسها إبداعًا ونقدًا ، من أهل الذوق والمعرفة الذين يستحضرون عالمهم ، ويوقظون تاريخهم ، ويرسمُون صورة للإنسان من الداخل ، ومن الذين يحتفُون بالزمن والطبيعة ، اتسم بالسلاسةِ واليُسر في جُملته من دون تعقيدٍ أو مُعاظلةٍ ، مُحدَّدًا ودقيقًا في حياته وفي كتاباته ، مُنْطلِقًا من محيطه الإنساني الخاص ، وقد يبدُو للعابر أنه سهلٌ بسيطٌ ، لكنَّه كان مُختلفًا وعميقًا في بساطته ، ومبدعًا في سهولته ، وجامحًا في نصِّه ، مُدافعًا عن الحقيقة ، ساخرًا ضحُوكًا ، سخيًّا مُعينًا ، يعرفُ الأصول ، كان كلُّ شيءٍ عنده بمقدار ما يرى ويزن لا يُغَالي حتى وإنْ جامل ، عرفته في اليمن والتقينا كثيرًا ، وما دمتُ في صنعاء فأنا أراه يوميًّا ، حاورته كثيرًا ، ولم يكن مُتحفِّظًا معي كما يظنُّ البعض بل كان دافقًا كدفئِه شاعرًا ورئيسًا لجامعة صنعاء
وهناك جوانبُ كثيرةٌ يمكنُ للمرء أن يكتبها ويُسجِّلها عن عبد العزيز المقالح الذي عاش مسكُونًا بالأحزان والقلق ، لكن يظلُّ تنوُّعُ ثقافته وتعدُّد مصادره وانشغاله هو ما جذبني في شخصه ، فهو من طينة الكبار أصحاب الشخصية الموسُوعية في المعرفة ، إذْ لم يكُن مهجُوسًا بالشِّعْر ونقده فقط ، على الرغم من أنه الجُزء الخاص والحميم من النشاط الروحي للشَّاعر ، بل ربما بحُكم اتصاله بالموسوعيين في القاهرة ، وفي صنعاء من بعد ؛ حيثُ لم يكُن يمرُّ أسبوعٌ إلا ويستدعي موسوعيًّا ؛ ليكون ضيفًا على اليمن والجامعة مثل أدونيس وعز الدين إسماعيل وكمال أبو ديب ومحمد عبد المطلب وسواهم ،ومنهم من بقي ليدرِّس في جامعة صنعاء ، وذلك الاتصال جعله متصلًا ومُتداخلًا مع الأحدث والأجَدّ في شتى المعارف ، ولم يكُن ذلك نظريًّا فقط في الجلسات بل سجَّله في أكثر من كتابٍ لعلَّ أبرز هذه الكتب هو كتاب مدارات
في الثقافة والأدب الذي صدر عن مجلة”دبي الثقافية” التي توقفت هي الأخرى وكُنتُ من كُتَّابها الدائمين ، ومدارات هو اسم الزاوية التي ظل ينشر تحت لافتتها لسنواتٍ في جريدة الحياة – التي توقَّفت هي الأخرى عن الصدور - كان ينحازُ إلى المُجيدين فقط ، بحُكم أنَّ الإنسانيةَ عرفت في عصورها المُتعاقبة آلاف الشُّعراء ، ومُداومًا على قراءة الشِّعْر الذي يراه غامضًا وعميقًا كالبحر وحُر المذاهب ، و يجد فيه عالمًا غير العالم ، وفضاءً غير الفضاء ، وكان يكتفي بالمباهج الرُّوحية التي يوفِّرُها الشِّعْر له كشاعرٍ ومُتلقٍّ وأكاديميٍّ معا
مارس المقالح صاحب الفكر الثاقب تمرُّدَهُ وغضبه في النصِّ الذي ينشئ، وحريته كاملة في التعبير الشِّعري ، حتى أنه عانى كثيرًا من ضيق أفق دُعاة التطرُّف والتسلُّف والتزمُّت من المنتسبين إلى الإسلام ؛ لأنَّهم لم يتحمَّلوا شِعْره أو فكره أو حتى ظله الذي كان ممدُودًا بحجم سماوات اليمن
وهو ابن الإحاطة العريضة بتاريخ اليمن الثقافي والسياسي ، وابن التراث العربي المُمتد في غِناه وتنوُّعه
كان المقالح مع المتْن بما يحملُ من فرادةٍ وخَلْق ، وضد شرح هذا المتن أو توصيفه وتعريفه ؛ لذلك عاش لا يقدِّم تعريفًا واحدًا للشِّعر ، ولم يتورط كآخرين في تقديم تعريف أو تعريفات للشِّعْر بوصفه شاعرًا وأكاديميًّا ، إذْ الشِّعرْ تعبيرٌ رُوحيُّ صادرٌ عن الشَّاعر
مُؤمنًا بأنَّ الشِّعر الحقيقي لا يعرف ولا يحد ؛ لأنه مكتوبٌ بلغةٍ شعريةٍ مُبهمة تجعل منه عملًا فنيًّا خالدًا ، صعبَ المنال حينًا ، وصعبَ التعريف في كل الأحيان كان المقالح مؤمنًا بمقولة الشَّاعر والناقد أرشيبالد ماكليش (1892 - 1982) صاحب كتاب - الشِّعْر والتجربة - ليس على الشِّعْر أن يعني ، ولكن أن يكُون ، حريصًا على تحرير القصيدة وتخليصها مما يثقِل كاهلها ، ذلك الحمل الذي ورثته ، لا يُحبُّ المحمُولات الدلالية المُباشرة في الشِّعر ، مؤمنًا بأنَّ الشِّعْر فنٌّ صافٍ ، وينبغي تخليصه من الشعارات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والوظائف الأخرى التي ينتظرُها القارئ منه ؛ ولذا كان يدركُ جيدًا مفهُوم الشِّعْر ووظيفته وطبيعة الرسالة التي تُناط به ، كفنٍّ إنسانيٍّ له خُصوصيته ، وله قراؤه
كانت لديه حساسية مفرطة ، تنشدُ الأحدثَ والأجدَّ ، وتكشفُ الحُجب ليظهرَ المخبُوء والمخفي ، عاش مسكُونًا بالدهشة ، مُحتفلًا بالجمال ، باحثًا عما يثيرُ دهشته في النصُوص ،مُصغيًا إلى لغة الأشياء ، مُنصتًا إلى ما وراء الموجُودات ، مؤمنًا أنَّ الشَّاعر لا يؤرِّخ للملوك والدُويلات ، ولكنَّه يؤرِّخ للخسارة البشرية ، خسارة الإنسان في نفسه وفي حياته ، يؤرِّخ للعبثية وتلاشِي الأجساد والأشياء الجميلة
وعاش الشَّاعر عبد العزيز المقالح مؤمنًا بأنَّ شعبًا بلا شعرٍ هو شعبٌ بلا روح على حدِّ تعبير الشَّاعر المكسيكي أوكتافيو باث (1914-1998) الحائز جائزة نوبل في الآداب
عبد العزيز المقالح ابن الثقافة الواسعة ، والتجربة العميقة ، التي مكَّنتهُ من هضم القديم والإقدام على اجتراح الجديد ، ذُو الحساسية العالية كشاعرٍ يرى الشِّعرَ فن الفنون ، وأنَّه الملاذُ الأخيرُ ، كي يحيا حُرًّا طليقًا ، ويعيدُ خَلْقَ العالم كيفما يرى ويحلم ، باعتباره نافذةَ رُوحه إلى الناس والعالم والأشياء ، لم يُهادن ، ولم يقبل التدجين ، بل عاش وفيًّا لقصيدته ، ساخطًا رافضًا مُعارضًا مُتمردًا ، لم يقع في عشق السلطة والمال ، ولم يفقد أجنحتَهُ التي لا تحصى أبدًا ؛ كي يظلَّ قادرًا على التحليق والطيران ؛ متجاوزًا ، مُختلفا عن السَّائد في مكانه وبيئته ، وناجيًا من أثر المُحاكاة والتماثل والتكرار والتقليد أو النسج على منوال من سبق ، فلم يستدرجه نظامٌ ، ولم يستقطبه أحدٌ ؛ كي يُحْبَسَ في قفص السلطة
عاش للشِّعْر وأسئلته ، يلتقط المُرهف والشَّفيف من الواقع ، وآمن أنه جوهرُ الكلام ، وأنه فوق التصنيف والأشكال والتقنيات الفنية التي يستخدمها الشُّعراء
وأنه أعلى أشكال التمرُّد والتجديد
لم يكُن ولاؤه للماضي الشِّعري ، بل عاش يدعو إلى تجاوزه بعد أن يكُونَ الشَّاعر قد هضم أسلافَهُ في مختلف العصُور ، ثم يعيش زمانه ولغته وثقافته المتنوِّعة ومُجايليه ، لا أن يقلِّدَ ويكرِّر ويكون نسخةً من شُعراء الأزمنة القديمة ، هو مع الولادات الجديدة في كل حقل معرفي خصوصًا الشِّعْر ، بعيدًا عن السَّائد والمألوف والمُتاح والنموذح الجاهز
إذْ يعلي من شأن الجهد والسَّعي والبحث الدؤوب : وأحسبني واحدًا من المشجِّعين لهذا الجيل الجديد من الشُّعراء ، ومن المحرِّضين له على التمادي في جرأته على التجديد ، وعلى مباغتتنا بمحاولاته المتمردة صفحة 91 ، مدارات في الثقافة والأدب ، ديسمبر 2008 ، كتاب دبي الثقافية