بشرى المقطري : الانتقالي الجنوبي اليمني... تحدّيات التمدّد شرقاً

منذ 2 ساعات

تؤسس التطورات في الساحة الجنوبية لمرحلة جديدة وربما فارقة قد تدخل فيها اليمن، بحيث قد تؤدي إلى تغيير جغرافية الصراع الكلية، بما قد يتضمّنه هذا من تعديل خريطة النفوذ والانتشار، سواء في المنافذ الشرقية أو في المناطق الحدودية، ما قد يفرض واقعاً جديداً ربما يدفع إلى تقسيم اليمن مستقبلاً، ومع أن السيناريوهات لا تزال مفتوحة على احتمالات عديدة، فالأكيد أن صيغة السلطة التوافقية استنفدت دورها المرحلي إطاراً يثبت معادلة النفوذ بين الوكلاء، بحيث باتت استمراريته مشروطة بإدارة السعودية وأيضاً الإمارات لعلاقتهما البينية، والتي تعني تحديد خيارات وكلائهما في المرحلة المقبلة

بعملية خاطفة، تحت مسمّى المستقبل الواعد، شنّ المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، في 3 ديسمبر/ كانون الأول الحالي معركة عسكرية أحادية ضد السلطة التوافقية، ممثلة بالمجلس الرئاسي، باعتبارها السلطة المركزية التي تدير المناطق المحرّرة، وأسفرت المعركة عن سيطرة الانتقالي على مدينة حضرموت، بما فيها المنشآت النفطية، إلى جانب طرد قوات المنطقة العسكرية الأولى من مواقعها التي تشكل ما تبقى من تشكيلات الجيش اليمني الرسمي في منطقة وادي حضرموت، إضافة إلى تنفيذ عملية انتقال سياسي في مدينة المهرة، مكّنته من السيطرة عليها

وفي حين مثّل هذا تطوّراً نوعياً وأيضاً بنيوياً في علاقة المجلس الانتقالي بالسلطة التوافقية المنضوي فيها، إذ انتقل من آلية التعطيل لانتزاع مكاسب متدرّجة في مفاصل الدولة إلى حسم السيطرة عسكرياً على المحافظات الشرقية، معتمداً على سياسة براغماتية لفرض أمر واقع، فإنه وإن تعدّدت المكاسب التي حققها، إلا أنها تفرض عليه في المقابل تحدّيات جوهرية بما هو سلطة أمر واقع باتت تسيطر على المحافظات الجنوبية

 يبني المجلس الانتقالي الجنوبي سياساته العامة في هذه المرحلة على ركيزة محورية، تتمثل بتوظيف المعادلة الأمنية لفرض نفوذه في المناطق الشرقية، وذلك باستثمار الاستراتيجية الأمنية الأميركية في إدارة اليمن، حيث يحتل تأمين ممرّات التهريب في مناطق الأطراف، وتحديداً في مدينتي حضرموت والمهرة، الأولوية الأميركية بموازاة تأمين البحر الأحمر، وذلك لقطع الإمدادات العسكرية لجماعة الحوثي، وأيضاً ضرب شبكات التهريب المتبادلة بين الجماعة وتنظيم القاعدة والشباب المؤمن في الصومال

ولذلك يتكئ الانتقالي في سردية السيطرة على المحافظات الشرقية على ضرورة قطع إمدادات الحوثي في إجراء وقائي، إلى جانب ضرورة تفكيك قوات المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت، بتقديمها ممثلاً لحزب التجمّع اليمني للإصلاح، ومن ثم توصيفها مظلة لدعم الإرهاب في اليمن، بما في ذلك تسويق تخادمها مع جماعة الحوثي، وبالتالي، منح نفسه مشروعية تثبيت الأمن في المحافظات الشرقية جرّاء فشل الأطر العسكرية الرسمية في القضاء على شبكات التهريب، إلى جانب التعويل على البراغماتية الأميركية في إدارة مصالحها في المنطقة، أي الاعتماد على القوى المحلية، أياً كانت مشروعيتها وأيديولوجيتها، لكنها قادرة على فرض سيطرتها على الأرض، بحيث تعطّل التهديدات المتأتّية من الجماعات الدينية على مصالحها ومصالح شركائها، وفي مقدّمتهم إسرائيل، ومن ثم تشكل الحرب على الإرهاب عماد سياسة الانتقالي لفرض نفسه طرفاً محليّاً في معادلة مكافحة الإرهاب الدولي والإقليمي، وهو ما تمظهر بعد سيطرته على المحافظات الشرقية، بتدشينه عملية عسكرية جديدة في مدينة أبين، تستهدف عناصر تنظيم القاعدة

وعلى مستوى آخر، وإن في سياق أكثر حسماً، فإن الإمارات، حليف الانتقالي والداعم الرسمي له، تدفع هي الأخرى بتثبيت خريطة النفوذ الجديدة في المحافظات الشرقية لصالح وكيلها، وبالطبع تحت مسمّى مكافحة الإرهاب وتأمين الممرّات الشرقية، بعيداً عن أطر السلطة التوافقية

السيطرة العسكرية على الأرض، سواء العاصمة اليمنية صنعاء أو المنافذ الشرقية حالياً، تعني تغيير موازين القوة بين الوكلاء، بما في ذلك تحوّل هذه المعطيات إلى أمر واقع وربما دائم، وإذا كانت السلطة التوافقية قد فرضها المتدخلون لتثبيت خريطة النفوذ بين وكلائهم، فإن إعاقات سلطة توافقية مكونة من قوى متنافسة ومتناقضة من حيث الأجندات والولاءات، إلى جانب فسادها وتشوهاتها البنيوية، أتاحت للطرف الأقوى، الذي يحتكم لثقل واقعي، من خلال سيطرته الفعلية على الأرض، أي في حالة الانتقالي الجنوبي نفوذه في مدينة عدن -العاصمة المؤقتة للسلطة التوافقية- إخضاعها لأولوياته في كل مرحلة، إلى جانب كونه قوى سياسية تمثل نطاقاً جغرافياً، أي جنوب اليمن، بحيث مكّنه هذا من فرض اشتراطاته على السلطة التوافقية باعتباره مكوّناً جنوبياً، وأيضاً تحدّي أي ترتيبات من الضامنين الإقليميين لاستقرار جغرافية النفوذ، إلى جانب امتلاك الانتقالي قوة عسكرية أكثر تنظيماً، مقارنة بالسلطة التوافقية التي تتشرذم قواها العسكرية والسياسية، وتتصارع على مفاصل الدولة على حساب تثبيت سلطة مركزية موحّدة، إضافة إلى استثمار الانتقالي طبيعة التحالفات بينه وكيلاً للإمارات وبين وكلائها في شمال اليمن

ولذلك استطاع، وفي غضون أسبوعين، قلب معادلة النفوذ المستقرة في جنوب اليمن منذ تأسيس المجلس الرئاسي لصالحه، عبر التمدّد شرقاً، فعلى الصعيد السياسي، أعاد الانتقالي أزمة السلطة التوافقية إلى الواجهة، بما في ذلك فشلها في تعطيل الخيار العسكري

سياسياً أيضاً، أثبت عدم امتلاك الرئاسي أدوات فاعلة لتحجيمه، أو حتى الضغط عليه، عسكرياً أو سياسياً، مقابل تحول الانتقالي الذي بات مع محاولة الوسطاء السعوديين دفعه إلى الانسحاب من المحافظات الشرقية الطرف المتحكّم، ليس فقط بمعادلة الأرض، بل وببقاء سلطة المجلس الرئاسي

 عسكرياً، انتقل المجلس الجنوبي الانتقالي، وبحسم سيطرته على مدينة حضرموت ذات الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية، سواء من حيث ثرواتها النفطية، أو لكونها تطل على بحر العرب، أي على خطوط الملاحة الرئيسية في المنطقة، انتقل من خيار الصراع على الموارد لقضم سلطة المجلس الرئاسي إلى فرض هيمنته الاقتصادية على المدينة، كما أن اختراقه العمق الحضرمي واستقطاب نخبته، وتحديداً من أبناء القيادات الجنوبية التاريخية المطالبة بالانفصال، مكّنه من قلب المسار التاريخي الذي كانت تشكله حضرموت، بوصفها رأس حربة في تحقيق الوحدة اليمنية، إضافة إلى أن تمترس القوات الموالية لـالانتقالي في المنافذ الشرقية من مدينة حضرموت على الحدود اليمنية مع السعودية إلى مدينة المهرة على الحدود العمانية، تعني تحول الانتقالي إلى طرف في إدارة معادلة الحدود، سواء قبل اقتسام تأمينها مع قوات درع الوطن السلفية الموالية للسعودية التي تحرص السعودية على أن تتولى الحماية، أو لو أصر على انفراده بذلك، ومن ثم تحييد القوات الرسمية التي تمثل الجيش اليمني من معادلة تأمين الحدود أو على الأقل تحجيمها، الى جانب أن هذه المكاسب حسمت واحديّة تمثيل الانتقالي القضية الجنوبية، سواء في مستقبل الأزمة اليمنية، أي التفاوض مع جماعة الحوثي، أو على ضوء أي تفاهمات تفرضها السعودية على السلطة التوافقية، ومن ثم ضمن موقعاً مريحاً يمكّنه من المساومة، وبالطبع، وفق شروطه، وأيضاً شروط حليفه الإماراتي

في المقابل، التحوّل من سلطة ظلت تعمل تحت كيان توافقي (على هشاشته) إلى سلطة أُحادية تهيمن على المناطق الجنوبية تفرض نفسها على الانتقالي الجنوبي له تحدّيات عديدة، فإلى جانب التحدّيات الوظيفية والبنيوية لكيان السلطة ومسؤولياتها أمام المجتمع، تحضر طبيعة البنية السياسية والاجتماعية لـالانتقالي تحدّياً إضافياً على المدى البعيد، إضافة إلى وسائل إدارته السلطة وعلاقته بالقوى المحلية، بما في ذلك تبعات حربه الدموية في المحافظات الشرقية، فضلاً وهو الأهم، تحديات مسار تحقيق الانفصال، وأيضاً علاقته مع السعودية، ومع أن الانتقالي ما زال يراهن على معادلة مكافحة الإرهاب لاستمالة المجتمع الدولي، ومنح تحركاته على الأرض قدراً من الشرعية، أي شرعية الضرورة، وأيضاً لتحجيم أي خطوات سياسية قد تُقدم عليها السلطة التوافقية لتقديمه بوصفه قوى انقلابية ومعوقاً لترتيبات المرحلة الانتقالية، فإن تقويض تعطيل الحكومة المعترف بها دولياً من القيام بواجباتها حيال المواطنين تقتضي بالضرورة تحمّل الانتقالي هذه المسؤولية، أي تمكين الدولة أو القيام بدورها الوظيفي

بيد أن مراوحته عند استثمار الحالة الشعبية لانتصاراته في المحافظات الشرقية، مقابل التحايل على التزاماته تجعله طرفاً قاصراً عن أن يتحول إلى سلطة أمر واقع، بما في ذلك تثبيت نموذج للدولة على الأقل في حدّها الأدنى؛ ومن جهة أخرى، فإن فرض الإرادة العسكرية، وبالقوة على مدينة حضرموت، بما في ذلك موقعها في المشروع الوطني، وإن شكّل انتصاراً للانتقالي إلا أنه لا يعني حسم اتجاهات المجتمع وتطلّعاته السياسية، إلى جانب أن الانتهاكات التي شهدتها حضرموت تكرّس سرديات الصراع والإخضاع التي عاشها جنوب اليمن، بفرض المنتصر إرادته على المهزومين، بما في ذلك تصعيد القرويات المتصارعة

وفي مستوى آخر، وإن بشكل أكثر أهمية، ومع تسويق الانتقالي سيطرته على المحافظات الشرقية بأنها خطوة مفصلية لتحقيق الانفصال، فإن أداءه السياسي عكس تخبّطاً وأيضاً تناقضاً ما بين المُضي لتحقيق الانفصال وما بين التمسّك بأطر السلطة التوافقية ومرجعياتها، حتى وإن كان لغايات براغماتية، ففي مقابل تقديم نفسه القوى القادرة على تزعم حرب ضد جماعة الحوثي في المناطق الشمالية، ومن ثم ضمن الأهداف المعلنة للسلطة التوافقية، فإنه يسوّق تحرّكاته في المحافظات الشرقية بأنها تتدرج تحت مظلة السلطة التوافقية، ولتنفيذ اتفاق الرياض

ومن ثم يدرك الانتقالي، وإن استطاع فرض أمر واقع على الأرض عبر التمدّد شرقاً، أن تحقيق الانفصال مرهونٌ بإرادة المتدخّلين، وأيضاً بالمسار الدولي الذي تتحرّك وفقه الأزمات المحلية، بما فيها الأزمة اليمنية