توفيق السامعي : الوحدة اليمنية ووعي الذاكرة (الحلقة الثالثة)
منذ يوم
توفيق السامعي إعلان الوحدة 22 مايو 1990كان ذلك اليوم مشهوداً، تسابقت فيه دموع اليمنيين مع مواقف الكثير منهم لواقع طالما حلموا بتحقيقه، فقد كانت الأغاني الوطنية تصدح في كل مكان، وكذلك المظاهرات الاختفائية، والناس ليس لهم من حديث إلا الوحدة وفائدتها المرجوة للشعب اليمني؛ فما كان في الأماني والكتب والأغاني والصحف والمجلات ووسائل الإعلام صار واقعاً معاشاً
صبيحة الثاني والعشرين من مايو كنت في المدرسة أدرس في الصف الأول الثانوي، في مدرسة التصحيح من سامع، وكان يوماً تفاعلياً في المدرسة مع المعلمين والطلبة، وأتذكر أنه مع الحزم الشديد التي كانت تبديه إدارة المدرسة حينها طلبنا من الإدارة السماح لنا بالعودة إلى منازلنا وقرانا للاحتفال بالمناسبة، وأتذكر أنني من الحماس قطعت المسافة من المدرسة إلى البيت بعشر دقائق جرياً، وهي مسافة لجبلين كنا نقطعها في نصف ساعة للمجد في السير، وكالعادة ذهبنا لصاحب المولد الكهربائي يشغل لنا كهرباء القرية لنشهد اليوم المشهود والاحتفال ورفع العلم في عدن
وكان الناس كلهم في فرح شديد أكثر من فرحتهم بأي عيد آخر، وصار حديث الناس في الدواوين والطرقات والمجمعات، وكان هناك حراك مجتمعي غير عادي، انتظرت آخر العام بفارغ الصبر وكان تقريبا بعد شهر واحد لأهرب عن الوالد إلى صنعاء؛ حيث العاصمة والحدث الأهم وحيث لا يمكنه اللحاق بي ولا معرفة أين أقيم، سعياً نحو التجنيد والعسكرية التي كان يتهرب منها كل أبناء منطقتنا، وتتهرب منها الأسر أن تلحق بها أبناءها
حتى معلمونا كانوا على قدر كبير من الوعي والثقافة والحراك السياسي المجتمعي يناقشونا في كثير من التفاصيل، ويزرعون فينا كثيراً من الهمم والمواضيع الوطنية، وليس كمعلمي اليوم الذين لا تشعر فيهم فرقاً عن الطالب العادي! فقد كانوا يرفدوننا بالكتب والمجلات وما وقع في أيديهم من الصحف، فضلاً عن النقاشات المطولة في المواضيع والمحطات الوطنية؛ فقد كان الزمن مفصلياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى
سقوط الاتحاد السوفييتي والتسريع بالوحدةفي تلك الأثناء كان المحور الشرقي السوفييتي يتهاوى ويعلن أفوله، ويتهاوى وتتفكك بلدانه، والغرب يعلن انتصاره، والحرب الباردة توشك على الرحيل، بينما كانت عاصفة جديدة تطل على المنطقة تتمثل في الأزمة العراقية الكويتية
بقدر حماسنا بالحديث والمتابعة لأحداث الوحدة كنا متحمسين أيضاً لمتابعة انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان بنظر الجميع الغازي والمدمر لبلد إسلامي هو أفغانستان مع كل الهالات الإعلامية التي ضخمت مواجهة المجاهدين للسوفييت عبر ما يبثه الإسلاميون في أشرطتهم المسجلة؛ حيث كانت تلك الأشرطة تفعل فعلها في الثقافة العامة للمجتمع، وتنتقل من بيت إلى بيت، ومن شخص لآخر، وتنتشر انتشار النار في الهشيم كما هو حال وسائل التواصل الاجتماعي اليوم! لقد كان العصر عصر تفكك المحاور والدول، ومن هنا اكتسبت الوحدة اليمنية أهمية كبرى؛ إذ إنه بينما الدول والمحاور تتفكك كانت اليمن تتوحد، لتتلوها ألمانيا بعدها بخمسة أشهر فقط في الثالث من أكتوبر 1990
عجل سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه بالوحدة اليمنية؛ فقد كان العامل الحاسم والأبرز في طريق الوحدة اليمنية إلى جانب أحداث الثالث عشر من يناير 1986؛ إذ لم يكن أمام الدولة الجنوبية إلا الوحدة مع الشمال نظراً لتفكك حلفائه التاريخيين السوفييت وانكفاء أثيوبيا على نفسها لمواجهة التمردات الداخلية التي آذنت بسقوط حكومة أثيوبيا الديموقراطية الشيوعية بزعامة مانجيستو هيلو مريم، ولم يعد لها من حليف، لتكون بوابتها للعالم عبر الوحدة مع الشمال
نعم كان الشعب اليمني في الجنوب متطلعاً للوحدة ومتمسكاً بها ومتحمساً لها ربما أكثر من الشمال، لكن كانت قيود الأيديولوجيا الشيوعية التي يفرضها الحكام الجنوبيون في الحزب الاشتراكي عائقاً من العوائق أمام الوحدة لينظروا لأنفسهم أنهم أكثر تقدماً من الشمال، وحينما اصطدموا بالمتغيرات الدولية والإقليمية هرعوا إلى الشمال، كما أسلفنا في الحلقة الماضية بزيارة سالم صالح محمد إلى روسيا والوقوف على حقيقة الأفول والانسحاب من الشرق الأوسط
هذه الحقيقة التي يهرب منها المتعصبون جنوباً وشمالاً للاشتراكية الشيوعية والماوضوية ويغلفونها بأنهم تنازلوا عن الدولة والرئاسة لعلي عبدالله صالح وأنهم أكثر وحدوية من الشمال! سأقول هنا حقائق صادمة مع أن الكل يعرفها لكن الكل يتهرب منها أيضاً، لا يريد العودة إلى الماضي لولا المن المستمر على اليمنيين بقضية الوحدة والثروات الجنوبية، حتى وإن لم يعجب كثيراً من الأصدقاء الاشتراكيين في الشمال والجنوب
بحسب الأرقام التي كانت تقال حينها مع الوحدة كانت مديونية اليمن الشمالي ثلاثة مليارات دولار، بينما كانت مديونية الجنوب سبعة مليارات دولار، لتكون المديونية العامة لدولة الوحدة عشرة مليارات دولار تحملها الشعب اليمني وأثرت على مستقبله الاقتصادي ومن ثم السياسي
بينما يذكر بعض السياسيين اليوم أن مديونية الجنوب كانت ١١ مليار دولار! لو نظرنا إلى ما يريد السياسيون أن يغالطوا به الشعب اليمني، ويزوروا أحداث التاريخ والوحدة، ويحملون الطرف الشمالي كل أوزار البلاد اليوم فإننا نرد عليهم بما عايشناه حينها كيمنيين من جيل الوحدة
سمعت وقرأت كثيراً من السياسيين الجنوبيين، بمن فيهم الرئيس الأسبق علي ناصر محمد، وكذلك سياسيين شماليين من الحزب الاشتراكي، يتحدث الجميع أن علي عبدالله صالح طالب بوحدة فيدرالية، وأن علي سالم البيض هو من أصر على وحدة اندماجية كاملة، وهذا تكذبه الكثير من الحقائق على الأرض، كما سأعرضها لاحقاً
فلو كان الحزب الاشتراكي هرع إلى الوحدة بنية صافية ما استثنى أهم ركائز الدولة الأساسية التي احتفظ بها لنفسه ليستعملها عند الحاجة إليها والرجوع لها، والعودة خطوات إلى الوراء، كالتالي:1- استثنى النظام في الجنوب دمج الجيش الجنوبي في الجيش الشمالي ليكون جيشاً عاماً للجمهورية بشكل عام، كما استثنى جميع الأسلحة التابعة له من الدمج، وكان الأكثر تسليحاً والأقوى نوعية، والأكثر عدداً
كان الجيش الجنوبي يقدر بثلاثمائة ألف ما بين ضابط وصف وجندي كرقم حقيقي وواقعي على الأرض، وليس أرقاماً وهمية كما هو الحال في الشمال، وهؤلاء موازناتهم المالية ضخمة في رواتبهم واستحقاقاتهم المختلفة يكلفون خزانة الدولة أموالاً طائلة
وبهذا الأمر أبقى الحزب الاشتراكي على صاعق اللغم بيده متى احتاج إليه! في هذه الخطوة كنا حتى ونحن أطفالاً صغاراً نفهم تماماً ماذا يعني عدم دمج الجيش، حتى مع ما يتم النقاش به مجتمعياً وسياسياً مع معلمينا أو وسائل الإعلام حينها، أو حتى عندما فتح الباب على مصراعيه للحزبية والتحزب وما جرى من حراك مجتمعي حزبي كبير، وحملات توعية منقطعة النظير، وحملات استقطابات حادة وكبيرة بين كل الأحزاب
تحديداً بقي أمر عدم توحد الجيش من أكبر النقاط العالقة في ذهني من حينها إلى اليوم؛ لأنها كانت لب المسألة كلها من ناحية، وما تمثله من مخاطر من ناحية ثانية، وما عشته بعد ذلك من مراحل ومحطات وأحداث عند انضمامي للجيش في يوليو 1990م2- استثنى النظام الجنوبي (الحزب الاشتراكي) الخطوط الجوية لليمن الديموقراطية الشعبية (طيران اليمدا) من الاندماج في الخطوط الجوية اليمنية العامة، بينما كانت الخطوط الجوية اليمنية الشمالية أكثر تطوراً وتقدماً من الجنوبية باعتبار الشراكة السعودية في هذه الخطوط
3- استثنى الحزب الاشتراكي المالية وعدم الاندماج الاقتصادي، وبقيت عملة الشلن متداولة مع فارق كبير في الصرف بينها وبين الريال الشمالي، وبقي البنك المركزي الجنوبي كما هو، وهذا يشكل خط رجعة للاشتراكي متى ما عاد خطوة إلى الوراء
كان هذا الاستثناء مبرراً لما بعد الفترة الانتقالية التي تعد فترة تجريبية للجميع، وعند اللحظة الحاسمة العودة إلى الوراء سيستخدمها علي سالم البيض للانفصال مجدداً، سأفصل فيها في محطة حرب 1994
إن من أكبر ما يَمُنّ به الحزب الاشتراكي شمالاً وجنوباً، ويكذبون به على العامة، ومن لم يعرف الوضع برمته في ذلك الزمن، هي كذبة تنازل علي سالم عن الرئاسة في سبيل إنجاح الوحدة؛ بينما كان الأمر برمته أنه هرول إلى الوحدة لكونه صاحب الموقف الأضعف، وظروف اللحظة لا تساعده على أن يكون هو الرئيس، ناهيك عن أنه أمين عام حزب لدولة تعدادها ثلاثة ملايين نسمة، وكان رئيس مجلس الشعب الأعلى هو رئيس دولة الجنوب حينها حيدر أبو بكر العطاس، غير أن منصب العطاس كان شرفياً، والأمين العام للحزب الاشتراكي هو أعلى سلطة وصلاحية منه، وكان كل شيء في الجنوب وصاحب الكلمة الأولى، بينما كان علي صالح رئيساً لدولة تعدادها سبعة ملايين نسمة وأمين عام حزب موازٍ للاشتراكي؛ فقد كان هذا التعداد الضخم حينها للسكان يوازيه مساحة جغرافية مضاعفة للجنوب، وفي الحقيقة بتحمس الجميع للوحدة كان يعتبر منصب نائب للرئيس ليمن موحد منصباً ومكانة أكبر منه رئيساً ليمن مجزأ في الجنوب قبل أن يكون هناك أية امتيازات أو ثروة، وأيضاً إذا أنصفنا الجانبين فما كان لصالح أن يرضى بالتنازل عن الرئاسة لعلي سالم؛ فقد كانت كل الظروف تصب في صالح الرئيس علي عبدالله صالح
وأيضاً فقد كان المرسوم أن تأتي أول انتخابات عامة فإن فوز علي سالم بالرئاسة محقق، خاصة أن مؤشرات الاستفتاء على الدستور أعطته أملاً كبيراً في ذلك، لكن جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية صدمة للجميع حينها، وكانت القاصمة التي يستحيل معها فوز الرجل أو الاشتراكي، كما سنعرضها في موضعها، وكانت الدافع الأكبر لإعلان البيض الانفصال، رغم كثير من شفافيتها؛ فقد كانت الانتخابات اليمنية الوحيدة الأفضل نزاهة بين كل المحطات الانتخابية الأخرى
فالثروة النفطية لم تكن قد اكتشفت في الجنوب من ناحية، بينما اكتشفت في الشمال عام 1986 في صافر بمارب وبدأ التصدير، وإن بكميات قليلة، وبالتالي فقد كان الشمال هو صاحب الثروة الأولى في كل شيء، وقد اتفق الطرفان على الاستكشاف النفطي المشترك بشكل موحد بين الجانبين في اتفاقية 30 نوفمبر على ما أتذكر، بينما كان باب المندب حينها من نصيب الشمال
من خلال ما اعترى الوحدة من عراقيل ومشاكل وانسداد الأفق وصولاً إلى حرب صيف 1994 أستطيع الجزم أن الشخصين دخلا الوحدة بنية غير صافية؛ بهدف استحواذ الطرفين على ما عند الآخر، إلا أن الظروف ساعدت علي صالح أكثر من علي سالم البيض
في اعتقادي لقد كان الفخ الذي نصبه اشتراكيو الشمال، بحسن نية وسوء تقدير للأوضاع، للحزب الاشتراكي كرأس السلطة الجنوبية أنه بتوحد اشتراكي الجنوب مع اشتراكي الشمال والدخول في الوحدة اليمنية، مع قوة التنظيم والتنظير باعتباره الحزب التقدمي المدني بينما الشمال قطاع قبلي متخلف رجعي، كما كان الاشتراكيون في الشطرين يصفونه، كل هذه العوامل ستلتهم الشمال من قبل الجنوب، وستكون اليد العليا والكلمة الأولى للحزب الاشتراكي في اليمن الموحد، وما يدعم ذلك قوة المواجهات والاكتساح في جبهات المناطق الوسطى قديماً وباقية في أذهانهم حتى عام 1994، وهو الفخ الذي وقعت فيه السلطة في الجنوب وهرولت إلى الوحدة، وفي مقابل ذلك ترك اشتراكيو الجنوب اشتراكيي الشمال بعد إعلان علي سالم الانفصال والحرب في 1994 دون رعاية أو اهتمام من الجنوب، والتحق الكثير منهم بالحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام
دخل الرجلان معتركاً سياسياً كبيراً، وكل طرف منهما له العديد من نقاط الضعف والقوة، كما سيتضح من خلال أحداث الفترة الانتقالية التالية التي حددت كمقياس لمصداقية الطرفين للوحدة ويمكن التراجع خلالها عن الوحدة والاندماج الشطري؛ فقد كان علي سالم البيض يهيأ له أنه سيلتهم الشمال بنقاط قوته، بينما علي صالح أيضاً كان متطلعاً إلى التهام الجنوب ليكون الرجل الأوحد الذي يصنع التاريخ ويشار له بالبنان، وهذا ما صار، لكن الصدمات التي تلقتها البلاد إثر الوحدة كانت كبيرة بحق اليمنيين بشكل عام والجنوبيين بشكل خاص
هذه القناعات والاستنتاجات لم تكن وليدة اليوم، أو تلفيقاً مرحلياً لزمن مضى فنسيت أحداثه، بل إنني عايشتها وراكمتها منذ لحظة ولادتها، فقد كان كل شيء واضحاً، يلمسه من يعايش الحدث ويغوص في أعماقه
يتبع