توفيق السامعي : حرب صيف 94 بين التزوير والاستثمار (2-8)
منذ 2 ساعات
توفيق السامعي حقيقة تنازل البيض لصالح والمَنّ الاشتراكيإن من أكبر ما يَمُنّ به الحزب الاشتراكي شمالاً وجنوباً، هو وحلفاؤه، ويكذبون به على العامة ومن لم يعرف الوضع برمته في ذلك الزمن هي كذبة تنازل علي سالم البيض عن الرئاسة في سبيل إنجاح الوحدة، وقد غُرر بكثير من الناس في هذا الأمر الذي نجد صداه في كل مكان كونه الكثير منهم لم يعايش الأحداث عن قرب؛ ففي الأساس لم تناقش هذه المسألة ولم يقف الجانبان عندها كثيراً، ولم تكن عائقاً، بينما كان الأمر برمته أن البيض هرول إلى الوحدة لكونه صاحب الموقف الأضعف، وظروف اللحظة لا تساعده على أن يكون هو الرئيس، ناهيك عن أنه أمين عام حزب لدولة تعدادها ثلاثة ملايين نسمة، وكان رئيس مجلس الشعب الأعلى هو رئيس دولة الجنوب حينها حيدر أبو بكر العطاس، غير أن منصب العطاس كان شرفياً، والأمين العام للحزب الاشتراكي هو أعلى سلطة وصلاحية منه، وكان كل شيء في الجنوب وصاحب الكلمة الأولى، بينما كان علي صالح رئيساً لدولة تعدادها تسعة ملايين نسمة، وأمين عام حزب موازٍ للاشتراكي؛ فقد كان هذا التعداد الضخم حينها للسكان يوازيه مساحة جغرافية مضاعفة للجنوب، وفي الحقيقة بتحمس الجميع للوحدة كان يعتبر منصب نائب للرئيس ليمن موحد منصباً ومكانة أكبر منه رئيساً ليمن مجزأ في الجنوب قبل أن يكون هناك أية امتيازات أو ثروة، وأيضاً إذا أنصفنا الجانبين فما كان لصالح أن يرضى بالتنازل عن الرئاسة لعلي سالم البيض؛ فقد كانت كل الظروف تصب في صالح الرئيس علي عبدالله صالح
وحينما يقال أنه سلم دولة بكامل مؤسساتها يكذب الواقع المعاش هذا الأمر حينها، وقد استثنى من الدمج أهم مؤسسات الدولة، كما سردناها في الحلقة الأولى لإبقائها خط رجعة لحين الحاجة
فقد كان المرسوم أن تأتي أول انتخابات عامة ويلقى في روع قيادة الاشتراكي أن فوز علي سالم بالرئاسة محقق، خاصة وأن مؤشرات الاستفتاء على الدستور أعطته أملاً كبيراً في ذلك، ولكون الحزب الاشتراكي اكثر تنظيماً، وأعلى صوتاً بفعل آلته الإعلامية وخبرته في ذلك، لكن جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية صدمة للجميع حينها، وكانت القاصمة التي يستحيل معها فوز الرجل أو الاشتراكي، وكانت الدافع الأكبر لإعلان البيض الانفصال، رغم كثير من شفافيتها؛ فقد كانت الانتخابات اليمنية الوحيدة الأفضل نزاهة بين كل المحطات الانتخابية الأخرى، بحسب شهود خبراء دوليين حينها، رغم ما شابها من شوائب
كانت النتيجة مخيبة لآمال الحزب الإشتراكي اليمني ولأمينه العام على وجه الخصوص، الذي كان يأمل من خلال الانتخابات أن يتصدر الرئاسة، وكان من حقه ذلك لو أخذ الفارق الهائل في التعداد السكاني على محمل العقل، وكان لا بد أن يكون النظام الانتخابي القائمة النسبية نظراً للفارق الكبير بين السكان، عندها كانت أول النكسة للحزب، وأيقن بأن طريق الديموقراطية لن يكون في صالحه؛ فشن إعلامه حرباً إعلامية يتهم الطرف الآخر بالتزوير وباستعمال الجيش في التصويت
إلخ، وهو محق في ذلك بطبيعة الحال
لا يمكن أن نغفل أبداً أن اشتراكيي الشمال قد يكونوا خدعوا اشتراكي الجنوب وزينوا لهم بالتقارير المضللة والمبالغة أنهم مسيطرون شعبياً وأنهم سيكتسحون الشمال بمجرد الوحدة كما كانوا في جبهات المناطق الوسطى، وأن الفارق الهائل في التعداد السكاني في الشمال يعتبر غثاءً أمام التنظيم الاشتراكي، كما كنا نسمع ونناقش حينها اشتراكيي الشمال، مما مثل صدمة لقيادة الاشتراكي في الجنوب عقب تلك الانتخابات
في تلك الانتخابات أيضاً ترشح مرشحون باسم الاشتراكي وتم فوز بعضهم فيها في الشمال، لكنهم عقب إعلان النتائج سارع علي صالح لشراء من استطاع شراءه والتأثير عليه من أبناء الشمال فانضموا لكتلة المؤتمر الشعبي العام على حساب حزبهم الأساس (الاشتراكي)، فاستخدام صالح للمال كان بلا حساب، وقد لعب لعبته السياسية بشكل صحيح، ومن هذه النقطة تحديداً صرخ الاشتراكي
كان صراخ الاشتراكي من سلبيات الانتخابات تتمثل في بعض النقاط والمآخذ، وهو على حق فيها، منها على سبيل المثال: استخدام المال العام والوظيفة العامة في شراء الولاءات والتأثير على الانتخابات، وكذلك استخدام الجيش للتصويت، والثالثة عدم تنقيح سجل الانتخابات من صغار الأعمار والأسماء الوهمية وأسماء المتوفين، والتنقل بين الدوائر، واستخدام الطلاب، وكذلك الترغيب والترهيب للتأثير على المقترعين!عقب هذه الانتخابات، وما تعرض له بعض كوادر الحزب من اغتيالات في صنعاء وإقصاء في بعض المؤسسات التي تم دمجها، زادت المشاحنات، وأحيت الأحقاد مجدداً، فطالب علي سالم البيض على الفور بحكم ذاتي لجنوب اليمن وتمثيلٍ متساوٍ في المناصب بين الجنوبيين والشماليين، بينما لعبت ظروف أخرى أدواراً مختلفة في زيادة حدة الأزمة وسوء النوايا للطرفين
وحتى يحاول الإصلاح، الحاصل على المرتبة الثانية في الانتخابات النيابية التي جرت في أبريل 1993 إنهاء الأزمة بين الطرفين تنازل بحصته ومرتبته الثانية للحزب الاشتراكي لنزع فتيل الأزمة، غير أن تلك المعالجات لم تفلح؛ فقد كان الاشتراكيون ينظرون للإصلاح نظرة عدائية أشد مما ينظرون إلى الحزب الحاكم للشمال المؤتمر الشعبي العام بسبب الاختلاف الأيديولوجي ولا يتقبلون أي شيء منهم
لقد كان أهم عامل في هذه الأزمة هو الفارق المعيشي بين أبناء الشمال الذي كان اقتصاده مزيجاً من الرأسمالية والحر والتقليدي القبلي والإسلامي، والذي يمتلك معه الفرد المال بلا حدود من التجارة والزراعة والاغتراب والصناعة والمهن المختلفة؛ فكان منهم التجار والأثرياء والعيش الرغيد، مقابل اعتماد الجنوبيين على الراتب المحدود الذي كانت توفره الدولة لهم، وبالتالي وجدوا أنفسهم فقراء لا يستطيعون التعايش مع إخوانهم الشماليين من هذا الباب، مما ولد الحقد الطبقي بين الجانبين، رغم أن قيادة الحزب الاشتراكي تم إغراقهم بالنعيم من خلال موازنة الدولة التي تقاسموها مع المؤتمر، وسهل لهم صالح ذلك الأمر حتى عاش كثير من كوادر الحزب الدنيا والجنوب الصدمة الاقتصادية الكبيرة التي غذت الحساسية بين الجانبين، وبالتالي انصدم المؤدلجون بالاشتراكية بأنهم يعيشون واقعاً غير الذي ألفوه ونظّروا له ووطّنوا عليه أتباعهم، مما زاد من حدة الأزمة، ولم يعد للجنوبيين (الاشتراكيين) من خيار إلا العودة للماضي والعيش بطريقتهم، وبالتالي ما عرف بالمطالب الانفصالية، خاصة وأنهم ما يزالون يمسكون بأهم تلابيب الدولة السابقة من جيش وأمن وبنك مركزي وخطوط جوية وإعلام كخط رجعة يعود إليها وقت الحاجة!ساهم اكتشاف حقول نفطية جديدة عام 1993 في حضرموت، مسقط رأس علي سالم البيض، في زيادة حدة الخلاف، وأصر البيض على موقفه الرافض لأي شيء أقل من نصف السلطة مع حزب المؤتمر الشعبي العام، وكان من حقه ذلك كشريك في السلطة والوحدة، وكان كذلك من حق الآخرين الشماليين مناصفتهم في المؤسسات الجنوبية بما يحقق التكامل في الوحدة الاندماجية
وصلت المحادثات بين صالح والبيض إلى طريق مسدود، وزادت من حدة الأزمة السياسية تلك الأزمة الاقتصادية وسال لعاب البيض جراء هذا الاكتشاف النفطي، وأصر على كثير من مواقفه عبر عنها بالاعتكاف مرة في عدن ومرة في حضرموت، حتى توسط الملك الأردني الحسين بن طلال بين الطرفين فيما عرف بوثيقة العهد والاتفاق، ووقع علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض على وثيقة العهد والاتفاق في عمّان فبراير 1994
كانت عودة البيض من عمّان إلى صنعاء ستربك علي صالح ويمكن أن تنحيه من الرئاسة، بحسب اتفاق وثيقة العهد والاتفاق، وكان يمكن أن يفقد السلطة، كما قال لي الفريق علي محسن ذات يوم؛ فقد كان البيض في أوج شعبيته وصالح في الحضيض، وكان هناك من يدفعه للحرب وعدم العودة لصنعاء لاستمرار فتيل الأزمة التي تفضي إلى الحرب، وشاء الله أن لا يتم ذلك فكانت مقادير الحرب جارية لتغيير المعادلة
كنت شاهداً ومعايشاً لكل خطوات تلك الأزمة المفضية إلى حرب صيف ٩٤
فلو نظرنا إلى ما يريد السياسيون أن يغالطوا به الشعب اليمني، ويزوروا أحداث التاريخ والوحدة، ويحملون الطرف الشمالي كل أوزار البلاد اليوم فإننا نرد عليهم بما عايشناه من أحداث حينها كيمنيين من جيل الوحدة
كانت تلك المرحلة، وخاصة قبل وبعد التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق تمثل ذروة شعبية الحزب الاشتراكي وعلي سالم البيض، حتى المعسكرات في الشمال تعاطفت معه، وكان له فيها مناصرون كثر وقد عبروا عن ذلك بالانتخابات النيابية التي جرت في أبريل 1993، وكنت شاهداً عليها ونخوض حوارات وصراعات داخلية عليها في بعض المعسكرات، وكان الإعلام المنظم للحزب والأحزاب المناصرة له من ناصري وبعثي واتحاد القوى الشعبية يلعب دوراً كبيراً في تغذية هذه الشعبية مقابل إعلام هش وضعيف وغير منظم للحزبين المؤتمر والإصلاح، خاصة وأن مراسلي الصحف الخارجية كانت تسيطر عليه كوادر هذه الأحزاب (الاشتراكي، الناصري، البعث بشقيه العراقي والسوري)، حتى مكون الحوثي الذي ما زال طرياً وتنظيماً سرياً حينها وقف مناصراً للاشتراكي في تلك الحرب والموقف السياسي
وكانت صوت صحيفة صوت العمال الاشتراكية هو الأعلى صخباً وانتشاراً بين كل الصحف الأخرى والأكثر مبيعاً ورواجاً وقراءة في الشارع اليمني