خطاب زعيم جماعة الحوثي ومأزق المرحلة الراهنة

منذ 4 أشهر

فرنسا – مصطفى ناجيقبل يومين، ألقى زعيم الجماعة الحوثية، المسيطرة على العاصمة صنعاء وبعض المناطق الشمالية الغربية في اليمن، عبدالملك الحوثي، خطابًا مطولًا بثته قنواته المحلية وبعض القنوات الدولية، بما في ذلك قناة “العربي” التي تبث من الدوحة في قطر

وفقًا لموقع القناة، تم بث الكلمة مباشرة

تكتسب هذه الكلمة أهمية خاصة نظرًا للسياق الإقليمي الحالي، في ضوء المتغيرات في الساحتين السورية واللبنانية، وخصوصًا مع تراجع يمكن وصفه بالانحسار لمحور إيران في بلاد الشام، بالتزامن مع تنامي نفوذ إسرائيل وتوسعها

كما أن لهذا السياق تأثيرات مباشرة على الوضع المحلي في اليمن، حيث تعثرت عملية السلام وتوقفت الحرب عند مواجهات محدودة منذ أكثر من عامين

استمر خطاب زعيم الجماعة لمدة ساعة وربع، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة محاور رئيسية، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث نبرة الحديث ولغتها الرمزية واستراتيجيته الخطابية

على غرار خطابات أيمن الظواهري أو أسامة بن لادن، يندرج خطاب الحوثي ضمن الشأن السياسي الدولي، وليس المحلي أو الإقليمي، إذ يتعمد تقديم نفسه كمتحدث باسم الأمة الإسلامية، في محاولة لترسيخ زعامة تتجاوز حدود الوطن

اتسم هذا الجزء من الكلمة بنبرة هادئة ومملةتناول الثلث الأول من الكلمة الأوضاع في شمال الجزيرة العربية والصراع مع إسرائيل، مع التركيز على تفاصيل المأساة الفلسطينية، خصوصًا ما يحدث في غزة، مما يجعل الإطار العام للكلمة يدور حول الشأن الفلسطيني والحرب في غزة وطوفان الأقصى

على غرار خطابات أيمن الظواهري أو أسامة بن لادن، يندرج خطاب الحوثي ضمن الشأن السياسي الدولي، وليس المحلي أو الإقليمي، إذ يتعمد تقديم نفسه كمتحدث باسم الأمة الإسلامية، في محاولة لترسيخ زعامة تتجاوز حدود الوطن

اتسم هذا الجزء من الكلمة بنبرة هادئة ومملة، وبكثير من الخطل

يدور في هذا الثلث التذكير بالجرائم التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ بداية المأساة في بداية القرن المنصرم

سعى الحوثي إلى وضع الأفعال الإسرائيلية ضمن إطار أيديولوجي وعقائدي، يربط بين السياسات الإسرائيلية الراهنة والرؤية الدينية التي تتبناها الجماعة حول اليهود

هذه الرؤية تنظر إلى اليهود من منظور ديني يستند إلى تصورات تاريخية، وعلاقتهم العقائدية وصورتهم في المعتقد الديني الإسلامي (المقيد بسياق تناظري في عهد النبوة)

كما أطلق انتقادات مبطنة لبعض الدول العربية التي تتبنى نمطًا اقتصاديًا قائمًا على الترفيه، واصفًا ذلك بأنه تمييع وإلهاء للشعوب عن القضية الفلسطينية، التي يراها القضية المركزية

وفي هذا السياق، سبق أن استخدم الحوثي، في كلمة سابقة بمناسبة طوفان الأقصى، تعبيرات إدانة واضحة للمملكة العربية السعودية، مستخدمًا مفردات مثل “إفساد”، “إغواء”، “حفلات المجون”، و”الانحلال الأخلاقي”

في الثلث الثاني من الكلمة، ارتفعت نبرة المتحدث قليلًا، إذ تناول الحوثي تشخيصًا للمواقف تجاه الأحداث الراهنة، معتبرًا الموقف من الاعتداءات الإسرائيلية معيارًا أساسيًا للحكم على أطراف المحورين المتصارعين

ركّز في هذا السياق على التحولات في سوريا، مستندًا بشكل كامل إلى مأساة الشعب الفلسطيني

حاول، من خلال الاتكاء الكلي على مأساة الشعب الفلسطيني، الاستحواذ عليها وتلمكها، مع الادعاء بأنه الطرف الوحيد المدافع عنها

يسعى هذا الخطاب، من جهة، إلى تجاوز مأزق اللحظة التي تتسم بانهيار محور إيران في سوريا ولبنان، ومن جهة أخرى إلى تأكيد التزام الحوثيين خارجيًا عبر استثمار مأساة كبرى لا يمكن التغاضي عنها أو التهرب من الاهتمام بها

فضلًا عن ذلك، فإن الالتصاق بقضية إنسانية وأخلاقية ودينية كبرى، تمتد جذورها إلى وجدان المواطن العربي والمسلم، يمثل مدخلًا أوليًا لتبرير توجهات الجماعة محليًا والوصول إلى الشأن اليمني

أبرز الحوثي صمود غزة، رغم الكارثة الإنسانية غير المسبوقة هناك، بهدف الإيحاء أن المقاومة في غزة نموذج يُحتذى به، وقابل للتكرار من قبل جماعته

غير أن هذا الطرح يتسم بانتقائية لافتة، إذ يغض الطرف عن حجم الدمار والمأساة التي تعيشها غزة

ومن جهة أخرى، تطرق عبدالملك الحوثي إلى الوضع السوري، قاصدًا الحطّ من قيمة الإنجاز السوري المتمثل في إسقاط نظام الأسد، محاولًا ربط هذا الإنجاز بالموقف من الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، دون الإشارة إلى التحديات الداخلية التي تواجه سوريا أو الانعتاق من نظام ديكتاتوري

المفارقة هنا أن نبرة حديثه عكست مرارة انهيار نفوذ محور إيران في سوريا، وسقوط نظام الأسد، وهو موقف يتناقض مع تصريحات نعيم قاسم، الزعيم الجديد لحزب الله اللبناني، الذي قلل من أهمية الخسارة، رغم اعترافه بآثارها المباشرة على قدرات الحزب

في وصلة انتقالية نحو المحور الثالث، أسهب الحوثي في شرح الوضع الإقليمي وفق تصور محور إيران، محاولًا تفسير التحولات في سوريا من هذا المنظور

أدان جميع الأطراف التي تتخذ مواقف مختلفة عن موقف المحور تجاه الاعتداءات الإسرائيلية، واستعرض مواقف وأفعال جماعته لرفع رصيدها الأخلاقي، مستهدفًا تعبئة أتباعه لمواجهة أي ردود فعل محتملة، بخاصة بعد وصول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى السلطة

يتميز هذا المحور الثالث بعدة دقائق من الربع الأخير الكلمة، تتسم بدينامية دفاعية وتعبئة استباقية تعتمد على التهديد واستعراض عوامل القوة، بهدف رفع معنويات أنصاره وإظهار الصلابة والثبات، لا سيما مع تخلخل أدوات المحور الإيراني في المنطقة

ظهرت الملامح المحلية للكلمة بوضوح، إذ قسّم الحوثي الناس إلى معسكرين: معسكر من باعوا أنفسهم لله، ومعسكر من باعوا أنفسهم لأمريكا مقابل الريال السعودي أو الدرهم الإماراتي أو الدولار الأمريكي

هذه العملات الإقليمية والدولية، وفق تصوره، تمثل ارتباطات الأطراف المحلية المناوئة لجماعته

يتعمد الحوثي تجاهل هذه الأطراف من حيث دوافعها وقضاياها، ويختزلها في معادلة شراء وبيع مدفوعة بالعملات

الهدف هنا هو نزع أية شرعية قتالية أو مشروعية قضية عنهم، والسعي إلى سحقهم معنويًا، وتجريدهم من أصالة قضاياهم

في هذا السياق، تغيرت نبرة الحوثي، إذ بدا أكثر انفعالًا، وارتفع صوته، وتزايدت حركات جسده

تعكس هذه الدقائق تصاعد العنف الرمزي في خطابه الموجه للداخل

الهدف الرئيسي من هذا الخطاب الداخلي هو تعزيز الثبات، التماسك، والثقة بين أنصاره، وكأنها معطيات إما غائبة أو بحاجة إلى تحفيز مستمر

مارس الحوثي استعراضًا رمزيًا للقوة التي يدعي أن جماعته أعدتها لمواجهة أي هجوم على جماعته

فالعادة يطرح الحوثي تهديدات مبطنة وغامضة مفتوحة لكل التكهنات نابعة من ثقته بما يملك من قدرات مفاجئة

إلا أنه بدا هذه المرة منفعلًا متوجسًا

استعراض القوة هنا يمكن تفسيره بأنه ليس أكثر من دلالات خشية وارتباك

يقودنا تحليل خطاب زعيم الجماعة وتفكيكه إلى تلخيص محتواه واستراتيجيته كالتالي:أولًا: يظهر الخطاب تعمق الطور الجديد الذي دخلت فيه الجماعة خلال تطورها التاريخي

حتى الآن، مرت الجماعة الحوثية بثلاث مراحل: مرحلة مشاغلة النظام في صنعاء منذ عام 2004، مرحلة مشاغلة التحالف العربي منذ عام 2015، المرحلة الحالية التي تتمثل في محاربة أمريكا وإسرائيل

عداء إسرائيل هو اللافتة العريضة لهذه المرحلة، ويستخدم كوسيلة لكسب الشرعية والمشروعية السياسية محليًا وإقليميًا، وأيضًا كغطاء لإخفاء التحديات الداخلية على مستوى الشرعية والمشروعية المحلية

يتضح هذا في الإفراط باستخدام المأساة الفلسطينية بكل أبعادها المادية والمعنوية

ثانيًا: تنبع من هذا الخطاب استراتيجية خطابية تتمحور حول ما يلي:1

احتكار الشرف في المعركة مع العدو: يدّعي الخطاب امتلاك فهم عميق للواقع وازدراء فهم الآخرين

أي تصور أو فهم مخالف لما تقدمه الجماعة يوصف بأنه ساذج أو ينتمي إلى البسطاء والأغبياء، أو أنه نتيجة تآمر

2

الاعتماد على ثنائيات مانوية: الخطاب يروج لثنائيات حادة مثل: جهاد/ كفر، فوز/ فشل، تمكين إلهي/ فشل أمريكي، شرف/ خزي

3

لغة تكفيرية: يصف الخطاب أمريكا وإسرائيل بأنهما على رأس الكفر، وبهذا التوصيف، ينزع الصراع من إطاره الدنيوي، ويضعه ضمن سجل ديني يُستحضر فيه المقدس والمدنس، الإيمان والكفر، الجنة والجحيم، الجهاد والهيمنة

4

منظار عقائدي للتقييم والحكم: وفقًا لرؤية زعيم الجماعة وأيديولوجيتها، يتم تقييم الكيانات والمجموعات والمنظومات السياسية من منظور عقائدي يقوم على ثنائية الجهاد والكفر

ثالثًا: تعمد الجماعة إلى تقديم نفسها كيانًا جهاديًا عابر للحدود في مرجعيته وأفعاله واصطفافاته

إضافة إلى ذلك، تبرز ملحوظتان أساسيتان في الخطاب: في البدء، هناك تكرار لكلمات مثل: “فتن”، “خطط”، “مؤامرة”، “مخطط”، “تخطط”، “اتجاهات”، “جماعات”، “كيانات”، “عناوين”

هذه الكلمات الفضفاضة تفتقر إلى الوضوح أو إمكانية تحويلها إلى برامج عملية

بتقديرنا، الاعتماد على الغموض في استخدام هذه الكلمات يهدف إلى التهويل والسيطرة على المشاعر، مما يعزز حالة من الالتفاف العاطفي حول الجماعة، ويحد من مساءلتها

الملحوظة الثانية: يظهر استخدام صفة المفرد عند الحديث عن أمريكا أو إسرائيل (مثل: “الأمريكي”، “الإسرائيلي”) نزوعًا اختزاليًا

يتمثل هذا النزوع في تأطير المسألة ضمن إطار عداء أيديولوجي وديني، متجاهلًا الديناميكيات السياسية والجيوسياسية لهذه الوحدات السياسية

ينظر الخطاب إلى هذه الدول ككتلة واحدة، ويرفض الاعتراف بالتعددية داخلها

هذا التوجه يعكس التصور القطعي لدى الجماعة تجاه خصومها، حيث يتم التعامل معهم ككيانات متجانسة لا مجال فيها للتنوع أو التباين

في النهاية، يبرز تساؤل حول سبب هيمنة البعد الإقليمي في خطاب كهذا على حساب الشأن المحلي

في رأيي، يعود ذلك إلى رغبة عبدالملك الحوثي في أن يكون، ولو بشكل مؤقت، الصوت البديل لحسن نصر الله

يظهر في هذا الطرح استعجال الحوثي لملء الفراغ الناتج عن غياب حسن نصر الله عن المشهد

بالإضافة إلى ذلك، فإن الزعيم البديل في لبنان لم يتمكن بعد من تثبيت حضوره أو ملء المساحة التي تركها حسن نصر الله

هذه المعطيات تتيح فرصة للجماعة الحوثية للبروز بشكل أكبر، والتصدر في المشهد الإقليمي، بحيث تتحول إلى بديل لا يقتصر على الجانب الإعلامي أو التواصلي لصورة المحور الإيراني، وإنما بديل استراتيجي لإيران يتميز بفاعلية عالية وتكلفة أقل

نتوقع أن يدخل عبدالملك الحوثي في منافسة على مستوى التواصل والصورة مع الأمين العام الجديد لحزب الله خلال السنوات القادمة، بخاصة إذا استمرت رغبة الحوثي في تسلم الراية بعد حزب الله

ليصلك كل جديدالإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقارير