د. تركي القبلان : إرهاب الدولة: عندما تصبح الفوضى سياسة

منذ 2 ساعات

د

تركي القبلان لم تعد كثير من الأزمات المشتعلة في المنطقة قابلة للفهم ضمن الأطر التقليدية للصراع السياسي أو حتى منطق الحروب بين الدول، فقد باتت أقرب إلى نمطٍ متقدّم من إرهاب الدولة؛ حيث يُوظَّف العنف المنهجي المباشر وغير المباشر كأداة سياسية لترويع الخصوم وتعطيل الدول وابتزاز الإقليم خارج أي التزام بقواعد القانون الدولي أو أعراف النظام العالمي

هذا التحوّل لا يعكس فقط انهيارًا في منظومات الردع الإقليمية لكنه يكشف عن محاولة لإعادة تعريف العنف بوصفه “سياسة بديلة” تُدار عبر وكلاء وتُغلَّف بخطابات أيديولوجية أو أخلاقية ، بينما نتيجتها الفعلية هي تفكيك الدولة الوطنية وتحويل الجغرافيا إلى ساحة فوضى مستدامة

ما نشهده اليوم يمثل تحولًا جوهريًا في طبيعة العنف السياسي المعاصر حيث لم يعد الصراع محكومًا بمنطق “كلاوزفيتز” الكلاسيكي الذي يرى في الحرب امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى ، بل أصبح العنف نفسه هو السياسة ، نمط من الحكم عبر الترويع المنهجي والتفكيك المستدام للدولة الوطنية

الفارق الجوهري بين الحرب التقليدية وإرهاب الدولة يكمن في الغاية الاستراتيجية ذاتها؛ فبينما تسعى الحرب التقليدية لحسم سياسي أو سيطرة جغرافية أو تغيير نظام ، فإن إرهاب الدولة يستهدف استدامة الفوضى نفسها كبيئة حكم حيث الهدف ليس الانتصار بل تعطيل قدرة الطرف الآخر على التشكّل كدولة أصلاً

تعتمد هذه الاستراتيجية على أدوات تشغيلية مختلفة تمامًا عن أدوات الحرب التقليدية فهي توظّف الوكلاء غير الرسميين من ميليشيات وجماعات مسلحة لخلق ما يمكن تسميته “مسافة إنكار معقولة” بحيث تستطيع الدولة الراعية ممارسة العنف دون تحمّل مسؤوليته القانونية أو السياسية حيث يسهل انكاره ، “لكن في نفس الوقت ليس من الصعب اثباته مع تطور أساليب التثبت الحديثة وطرق التتبع المراقب”  وبينما باتت أساليب التثبت الحديثة قادرة على كشف خطوط الإمداد والعلاقات التشغيلية فإن غياب الإرادة السياسية الدولية يحوّل الإثبات التقني إلى مجرد توثيق بلا عواقب مما يُبقي مسافة الإنكار فعّالة رغم ضعف مصداقيتها

علاوة على ذلك تستخدم العنف غير المباشر عبر الحصار الإقتصادي والتجويع المنهجي وتدمير البنية التحتية ، وأخطر من ذلك يتحول الإرهاب إلى بُعد بنيوي عبر تحويل الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والدواء إلى أدوات ضغط سياسي عبر استهدافها أو السيطرة عليها وتقييدها ، مما يخلق حالة من العجز المستدام للسكان المدنيين

وهو نمطٌ ترفضه الدول المتحضّرة لا من منطلق أخلاقي مجرد بل لأنه يهدد جوهر النظام الدولي نفسه

فالنظام الدولي منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648 يقوم على الدولة كوحدة أساسية تحتكر العنف الشرعي ضمن إقليم محدد ، وإرهاب الدولة يستهدف تفكيك هذه الوحدة نفسها ليس باحتلالها كما في الحروب الاستعمارية التقليدية بل بمنعها من التشكّل أصلاً ، إذا أصبح التفكيك المستدام للدول استراتيجية مقبولة ، فإن ذلك يعني تحول الجغرافيا إلى مساحة رمادية دائمة حيث لا سلطة فعلية ولا فراغ كامل ، وانهيار القانون الدولي الذي يفترض وجود أطراف محددة يمكن محاسبتها

الدول التي تمارس هذا النمط تحوّل الأزمات الإنسانية إلى رأسمال سياسي قابل للاستثمار ، فاللاجئون يصبحون ورقة ضغط ، والحصار يتحول إلى أداة مساومة ، والميليشيات تصبح أصولاً قابلة للتأجير في صراعات إقليمية مختلفة

هذا النمط من الابتزاز كأداة حكم إقليمي يخلق حالة من عدم الاستقرار المزمن تستفيد منها الدولة الراعية دون أن تتحمل تكاليف الحكم المباشر أو مسؤولياته

ما يقودنا هذا التحليل إليه هو خيار الحل البنيوي الذي يكمن في إعادة بناء الدولة الوطنية كأولوية وليس مجرد تغيير أنظمة ، وفي إيجاد آليات محاسبة دولية فعلية للدول الراعية عبر عقوبات اقتصادية حقيقية وليس قرارات شكلية ، وفي تجفيف بيئة الوكلاء عبر قطع خطوط الإمداد وتفكيك الشبكات المالية ومحاربة التطرف الأيديولوجي الذي يغذيها

 لكن السؤال الأخطر: ليس ما إذا كان النظام الدولي الحالي قادرًا على فرض هذا الحل بل ما إذا كان راغبًا فيه أصلاً

فالأرجح أننا أمام نظام دولي يعيش حالة تشكّل جديد اختار فيها التعايش مع الفوضى لا مواجهتها ، إذ أن إعادة الانضباط الجيوسياسي تتطلب أعباءً عسكرية وسياسية واقتصادية لم تعد القوى الكبرى مستعدة لتحملها ، وهو ما يجعل المسؤولية الأساسية تقع على الدول الإقليمية المتضررة لبناء منظومات ردع إقليمية وإعادة بناء الدولة الوطنية كأولوية استراتيجية لا يمكن تأجيلها