د. تركي القبلان : الشرعية الملوّثة: الدعم الخارجي كعائق بنيوي أمام الاعتراف بالكيانات الانفصالية
منذ 2 ساعات
د
تركي القبلان يُعدّ الدعم الخارجي أحد أكثر العوامل تقويضًا للشرعية القانونية لأي كيان انفصالي إذ لا يكتفي بإضعاف فرص الاعتراف الدولي به بل يجعل هذا الاعتراف في الغالب شبه مستحيل
ويستند هذا الحكم إلى مبادئ راسخة في القانون الدولي العام صُممت أساسًا لضبط العلاقات بين الدول وحماية النظام الدولي من التفكك القسري الناتج عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة
ينص ميثاق الأمم المتحدة في (مادته الثانية_ الفقرة السابعة) على أنه ليس في الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة التدخل في المسائل التي تكون من صميم السلطات الداخلية للدول
وبما أن مسألة الانفصال تُعد في أصلها شأنًا داخليًا خالصًا للدولة ، ما لم تنطبق عليها استثناءات ضيقة ومحددة تتعلق بتقرير المصير الخارجي في حالات الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي ، فإن أي دعم خارجي لحركة انفصالية يقع في دائرة التدخل غير المشروع
ويعزز هذا الإطار ما ورد في (المادة الثانية_الفقرة الرابعة) ، من الميثاق ذاته التي تحظر على الدول التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة ، حيث يُعدّ الدعم العسكري للانفصاليين ، حتى وإن كان غير مباشر استخدامًا للقوة عبر وكلاء يهدف عمليًا إلى تقويض وحدة الدولة الإقليمية ويشكل انتهاكًا واضحًا لحظر استخدام القوة في القانون الدولي
ويكتمل هذا الأساس القانوني بما نص عليه إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول لعام 1970 والذي ألزم الدول بالامتناع عن تنظيم أو تشجيع أو تمويل أو تقديم أي شكل من أشكال المساعدة لأنشطة تهدف إلى تفكيك السلامة الإقليمية أو الوحدة السياسية لدولة ذات سيادة
وبهذا المعنى لا ينظر القانون الدولي إلى الدعم الخارجي بوصفه عنصرًا محايدًا أو ثانويًا ، بل كعامل يُلوّث الشرعية القانونية للكيان الانفصالي منذ لحظة نشأته ويضعه في تعارض بنيوي مع النظام الدولي القائم
وتتفاوت درجة تقويض الشرعية بحسب طبيعة الدعم الخارجي ومستواه
فالدعم الدبلوماسي، المتمثل في التصريحات السياسية أو الاتصالات الرسمية يظل ذا أثر قانوني محدود ، وإن كان يثير إشكالية سياسية قائمة
أما الدعم المالي والاقتصادي فيرتفع به مستوى الإشكالية القانونية لأنه يسهم في تمكين كيان غير معترف به من أداء وظائف سيادية بصورة مصطنعة
ويزداد الأثر القانوني خطورة عند تقديم الدعم اللوجستي كالتدريب أو تبادل المعلومات الاستخباراتية ، إذ يتحول الكيان الانفصالي إلى أداة تنفيذية لقوة خارجية
ويبلغ هذا التقويض ذروته في حالة الدعم العسكري غير المباشر عبر التسليح والمستشارين حيث يصبح الانفصال قائمًا على استخدام القوة بالوكالة
أما التدخل العسكري المباشر بوجود قوات أجنبية على الأرض أو تنفيذ عمليات قتالية فيُعد عاملًا حاسمًا يُبطل أي ادعاء بالشرعية ويجعل الكيان الناتج عنه نتاج احتلال فعلي لا حركة تقرير مصير
وتؤكد السوابق التاريخية هذا المسار القانوني بوضوح ، ففي شمال قبرص أدى التدخل العسكري التركي المباشر عام 1974 وما تلاه من إعلان “جمهورية شمال قبرص التركية” عام 1983 إلى خلق كيان قائم على الاحتلال العسكري والتمويل الاقتصادي الكامل والاستيطان السكاني من دولة أجنبية
وقد قوبل هذا الإعلان برفض دولي شبه مطلق تُرجم في قراري مجلس الأمن 541 لعام 1983 و550 لعام 1984 ، اللذين أدانا الإعلان ودعوا إلى احترام وحدة قبرص وسحب القوات الأجنبية
وبعد أكثر من أربعة عقود لا يزال هذا الكيان معزولًا دوليًا ولا يحظى بأي اعتراف سوى من الدولة الداعمة نفسها ، في مثال صارخ على أن التدخل العسكري الأجنبي يمثل قبلة الموت للشرعية الدولية
وفي حالة إقليم ترانسنيستريا في مولدوفا أُعلن الانفصال عام 1990 بدعم روسي شامل تمثل في الوجود العسكري والدعم المالي وربط الإقليم اقتصاديًا بروسيا حتى اعتماد الروبل الروسي عملة فعلية
ورغم هذا الدعم الكامل لم يحصل الإقليم على أي اعتراف دولي بل إن روسيا نفسها امتنعت عن الاعتراف به قانونيًا مكتفية باعتراف عملي بحكم الأمر الواقع
وقد بقي الكيان معزولًا دوليًا لعقود يُنظر إليه بوصفه دولة دمية فاقدة للاستقلال الحقيقي وهو ما يبرز عجز الدعم الخارجي عن إنتاج شرعية قانونية
وتتكرر النتيجة ذاتها في جورجيا حيث أدى التدخل العسكري الروسي عام 2008 إلى انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية والاعتراف بهما من قبل روسيا
وعلى الرغم من الاحتلال الفعلي والتمويل الكامل لم يتجاوز عدد الدول المعترفة بهذين الكيانين خمس دول فقط ، في حين لا تزال الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يعتبرانهما أراضي جورجية محتلة
وتكشف هذه الحالة أن حتى دعم قوة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن لا يكفي لتجاوز القواعد الأساسية للنظام الدولي ولا يمنح الكيان الانفصالي شرعية قانونية معترفًا بها
وتخلص هذه المعطيات مجتمعة إلى أن القانون الدولي رغم كونه نتاج توازنات سياسية لا يزال متمسكًا بمبدأ حماية السلامة الإقليمية للدول واحترام سيادتها
فالدعم الخارجي لا يصنع شرعية للكيانات الانفصالية بل يحولها إلى كيانات مشكوك في استقلالها ومحرومة من الاعتراف ، ويجعلها أقرب إلى أدوات نفوذ لقوى خارجية منها إلى تعبيرات قانونية عن إرادة شعوب
ومن ثم فإن أي مشروع انفصالي يقوم على رافعة خارجية خاصة إذا اتخذ طابعًا عسكريًا يحمل في بنيته بذور فشله القانوني ، ويضع نفسه منذ البداية في مواجهة شبه حتمية مع النظام الدولي القائم