د. عبدالقادر الجنيد : النقد والمديح لمؤتمر اسطنبول.. هل يجب أن تتغير توكل كرمان؟ أم نحن؟

منذ 3 ساعات

د

عبدالقادر الجنيد ألقت إبنتي نحوان الجنيد اليوم كلمتها عن المعادن النادرة والطاقة في مؤتمر اسطنبول

نجوان الجنيدخريجة جامعة كالجاري، وقد عملت في شركة توتال النفطية في اليمن وفي فرنسا وفي كندا

وتتكلم العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة

وحاصلة أيضا على ماجستير في الطاقة المتجددة والمستدامة من جامعة كالجاري

وعملت بنجاح في منظمة غير حكومية في مجال الطاقة المستدامة بحيث لفتت أنظار المؤثرين والساسة وهو الأمر الذي جذبها في النهاية إلى عالم البرلمان والسياسة

نجوان، أصبحت وزير الظل عن الطاقة في برلمان ولاية البرتا في كندا والمسؤولة عن رسم وتشكيل سياسة المعارضة بشأن النفط والغاز والفحم والطاقة المستدامة

ولاية البرتا، هي ولاية النفط والغاز في كندا

 المؤتمر وتوكل كرمانالذي مول انعقاد المؤتمر هو حكومة تركيا كنوع من الدعم لمؤسسة توكل كرمان

توكل كرمان، هي امرأة يمنية ثورية، حازت على جائزة نوبل للسلام

المؤتمر والخبراء والباحثون، تعرضوا لقليل من المديح والكثير من النقد القاسي

وموضوع اليوم، هو إطلالة على كل جوانب الموضوع

أولا: الجوانب الإيجابية في المؤتمر١- ينابيع وروافد أنهار اليمنأول جانب إيجابي بالنسبة لي، هو رد فعلي العفوي الذي ملأني وأنا أتابع إبنتي نجوان مع متابعة هذا المؤتمر

في اليمن ينابيع وجداول مياه وروافد وأنهار وسيول وفيضانات ومستنقعات، أشكال وألوان

أنا رأيت هؤلاء الخبراء والباحثين، ينبوعا صغيرا صاف يتدفق من أحشاء الأرض اليمنية الطيبة، في أصقاع وأماكن بعيدة متناثرة

من المتع البصرية والحسية أن ترى ينبوعا صافيا يخرج من بطن الأرض

 ٢- تركيز على المعرفة وليس السياسة فقطتوكل كرمان أكّدت في كلمتها أن غالب النشاطات المؤتمراتية السابقة كانت مركّزة على السياسة والحرب، وأن هذا المؤتمر يفتح مساحة للنقاش العلمي والبحثي في المجالات التنموية مثل التعليم، الصحة، الاقتصاد والطاقة

  هذا التوجّه يعكس رؤية بأن إعادة بناء اليمن لن تكون فقط عبر التوافقات السياسية بل عبر حلول قائمة على العلم والخبرة

 ٣- دمج اليمنيين من الداخل والخارجالمؤتمر جمع باحثين وخبراء من داخل اليمن ومن الشتات، مما يتيح تبادل خبرات ووجهات نظر متنوعة (أكاديمية، عملية، ميدانية) ويعزّز الهوية الوطنية المشتركة

   ٤- مناقشة قطاعات أساسية مضمّنة في التحدّيات الراهنةمن بين المحاور المطروحة: الطاقة، البنى التحتية، التعليم، الصحة، الاقتصاد، الهوية، وغيرها

  هذا يعطي المؤتمر طابعا عمليا (ليست مجرد شعارات)، بل محاولة لتقديم رؤى وحلول تُطبّق في الواقع اليمني

 ٥- الدعوة إلى إنهاء التبعية والاعتماد على الذاتكرمان شددت على أن اليمن يجب أن تستعيد إرادتها وسيادتها، وأن الحلول لا تأتي دائمًا من الخارج، وأن بناء الدولة يجب أن يكون من الداخل بالإمكانيات اليمنية

 ثانيا: السلبيات من وجهة نظر الناقدينالناقدون، يقولون أن المؤتمر عقيم وفاشل بسبب ثلاثة سلبيات:١- سلبية استحالة تطبيق توصيات المؤتمر على الأرض

٢- سلبية استحالة اهتمام الأطراف السياسية والسلطات التنفيذية٣- استحالة بتمويل وتنفيذ المشاريع المقترحة

وأنا عندي ردود فعل فورية على هذه الانتقادات:رد الفعل الأول: هل هذه هي مهمة المؤتمر أن يحقق الشروط الثلاثة؟الإجابة: لا

مهمة المؤتمر ليست التنفيذ، بل إنتاج معرفة، أفكار، ومقترحات منهجية تساعد على فهم الواقع وتقديم حلول نظرية أو عملية يمكن أن يتبناها الآخرون لاحقًا

رد الفعل الثاني: هل لأن هذه الشروط لن تتحقق، ما كان يجب أن ينعقد المؤتمر؟الإجابة: لا

فشل الواقع في تطبيق الأفكار لا يلغي قيمة العصف الذهني

العلم والفكر، يخلقان البيئة التي تجبر السلطة لاحقا على التحرك أو التغيير

مثل هذا المؤتمر:١- يحفظ ذاكرة فكرية يمنية منظمة يمكن أن نبني عليها بدل العشوائية

٢- يخلق شبكة تواصل بين خبراء الداخل والخارج

٣- يشحذ “العقل اليمني” ليبقى في حالة حيوية فاعلة، لا في حالة استسلام

ثالثا: حملة قاسية على المؤتمرهناك حملة قاسية على المؤتمر، تسفه المؤتمر، وتوكل كرمان، والخبراء، والباحثين، وتنفي عنهم النية الخالصة، والخبرة والعلم والبحث

وهذا تصنيف سريع للناقدين:١- المعارضة السياسية المباشرةأطراف أو قوى سياسية تعتبر المؤتمر في صالح خصومهم

إذا نجح المؤتمر فكريا فقد يفسد روايتهم أو يضعف نفوذهم

إذا تبلورت خطط عملية تؤثر على موارد دخلهم المالية فقد يؤثر هذا على نفوذهم

هذا الإنجاز الرمزي وحده كافٍ لإثارة الحساسية، لأنه يُظهر الفرق بين من “يعمل” ومن “يتذمر”

بكلمات أخرى، المؤتمر أثبت أن الفعل المدني ما زال ممكنا، وأن المشهد اليمني لا يملكه السياسيون وحدهم — وهذا ما أزعج كثيرين

٢- المتشددون هؤلاء هم الأيديولوجيون / المحافظون

يهاجمون الأفكار كـتغريب أوروبي وأمريكي أو مخالفة لقيمهم (دينية أو اجتماعية) ويشطبون المشاركين لكونهم غير مؤهلين أخلاقيا أو فكريا

 ٣- الساخطونهؤلاء يصفون أنفسهم بالواقعية والبراجماتيةهؤلاء باللهجة التعزية، يمكن أن نسميهم المَعْقَلَة

هم يعارضون كل شيئ وأي شيئ بمهارات اللقافة أو اللقانة وهي أيضا مفردات من تعز

ينتقدون أن الأفكار لا تراعي الواقع الممارَس: لا تمويل، لا سلطة، لا أمن — لذلك وصفوا المؤتمر بـالأحلام

 ٤- النقاد الأكاديميّون والمنهجيونركّز نقدهم على جودة البحث: منهجية ضعيفة، عينات محدودة، غياب بيانات موقة، أو استنتاجات غير مدعومة

قد تكون بعض الأوراق أو الجلسات ذات منهجية ضعيفة أو سطحية، وعندئذ فالنقد الأكاديمي مبرر

أنا عندي شوق لرؤية أبحاثهم المنهجية

يعني حبكت كل هذه الغيرة العلمية الفورية؟وكم من هذا إنما هو غيرة شخصية ونرجسية و الأنا المنفوخة؟ ٥- الناشطون المجتمعيّونالمؤثرون، يغيظهم أن يحصل الحاضرون في المؤتمر على نوع من الوجاهة والمكانة والإعتبار، وأن هؤلاء لا يتعبون من أجل تسلية الشعب ولا يملكون مواهب الترندات واستثارة الناس ومع هذا يحصلون على مثل هذه المنصات

يشعرون أن المؤتمر نخبوِي ولا يمثل قضاياهم (الجوع، المرأة، اللاجئون، الريف، التعليم الأساسي، الأمن، البلاطجة المفصعون،…)

تسفيه الأشخاص واتهامهم بعدم كونهم خبراء، هو غالبا تبسيط سياسي أو ذم بلا دليل

صفة خبير تُقاس بمنهجية، إنتاج علمي، تجربة عملية، لا بتسطيح هجائي

 ٦-الصحافة الاستعراضيةهجاء لشدّ الانتباه: عناوين مهينة، تهريج على الكلام، أو تصوير المؤتمر كـعرض تمثيلي

 ٧- انتهاز الفرصهذه فرصة، ويريدون أن يربحوا من عرض المؤتمر

يستغلون الحدث لتعزيز صورتهم أو للتشويش سياسيا أو تجاريا (تصفية حسابات، جذب متابعين)

 ٨- المؤمنون بنظرية المؤامرةهؤلاء هم التشكيكون المطلقون، وموجودون في كل إتجاه وكل مكان وكل زمان

يؤمنون بأن أي مبادرة ليست من صنعهم أو من صنع حلفائهم، إنما هي مخادعة أو مدعومة من جهات أجنبية ذات نوايا خفية، وحتى ماسونية

رابعا: مؤسسة توكل كرمانربما توكل كرمان نفسها — هي العامل الأكثر تأثيرا في طبيعة النقد وشدّته، حتى أكثر من محتوى المؤتمر العلمي ذاته

هناك تنقيص من قدر مؤتمر اسطنبول لأنه يعيد تسليط الضوء على رمز لا يريدون عودته إلى الواجهة

١- هناك غيرة وحسد شخصية من فوز توكل كرمان لجائزة نوبل السلام

٢- هناك خصومة سياسية لتوكل كرمان من أطياف يمنية عديدة— يسارية وتقدمية وقومية وسلفية ومحافظة وحوثية

٣- هناك رفض ل ثورجية توكل كرمان ليس فقط بين اليمنيين ولكن من كل دول المنطقة بدون استثناء

هذا المؤتمر هو برعاية توكل كرمان وقد أضاف ل نجوميتها أو مكانتها، أو أي مسمى من مسمياتها شيئا من الزينة والمديح

وهذا ضايق الكثيرين ومن كل الأطباف

١- شخصية توكل كرمان كـ”رمز مثير”توكل ليست شخصية عادية، بل رمز متنازع عليه؛محبّوها يرونها نموذجا للشجاعة والمقاومة السلمية،أما خصومها فيرونها رمزا للفوضى أو للانقسام أو للمبالغة في الثورية

ولأنها حائزة على نوبل للسلام، فإن أي مبادرة تحمل اسمها تكتسب فورا بُعدا دوليا يثير الغيرة والحساسية — خصوصا في بيئة عربية ويمنية لا تحتمل بسهولة صعود امرأة بهذا الحجم الرمزي

 ظاهرة المرأة الثورجية النوبلية

هذه الظاهرة، انفجرت من حيث لم يكن أحد يتوقع ولا يحتسب

ظهرت في اليمن، من أفقر بلاد العالم ومن أكثرها اضطرابا

المرأة:كسرت السقف الزجاجي، الذي يمنع المرأة من التكلم بإسم الوطن

 الثورجية:التمرد السلمي في بلد يعشق السلاح، قدمت سلوكًا جديدًا: “قوة الصوت أقوى من صوت الرصاص”

في بلد يعشق السلاح، كانت هي من أصبحت رمزا لعبارة أن “قوة الصوت أقوى من صوت الرصاص”

النوبلية:أدخلت “المرأة العربية” إلى نادي السياسة العالميةلأول مرة منذ نوال السعداوي وسميرة موسى، تُفرض امرأة عربية في الحضور الدولي من موقع التأثير لا الضحية

 ٣- الحسد والخصومةالحسد على الفلوس والوجاهة ومن فوقها الخصومة السياسية والأيديولوجية

اليساريون، يتهمونها بأنها متلونة متحورة مع واشنطن

القوميون، يرونها إخوانجية مع الأمة وضد العروبة

الإسلاميون (السلفيون أو بعض الإصلاحيين)، يعتبرونها “متمرّدة على الحشمة أو الانضباط الحزبي”

الحوثيون، يكرهونها لأنها عرت مشروعهم الإمامي الطائفي

النظام القديم وأتباعه، يرونها السبب في سقوط صالح

 ٤- الحساسية الإقليميةأنظمة الحكم الإقليمية، تكره احتجاجات الشوارع و الثورجية و الإخوانجيةدول المنطقة، جميعها تقريبا، تتحسس من خطاب “الثورة والتغيير الشعبي”، خاصة حين يصدر من امرأة حرة وغير تابعة لأي نظام

وبالتالي، فإن ظهور مؤسسة توكل كرمان بمؤتمر علمي منظم في إسطنبول — المدينة التي ترمز في المخيال العربي إلى الحاضنة الكبرى للمعارضين — أثار توجسا طبيعيا لدى الحكومات ووكلائها داخل اليمن والنخب المحافظة، التي تخاف من أي بريق جديد يذكّر بـ”الربيع العربي”

 ٥- الخلط بين “الشخص” و“الفكرة”من أكثر مظاهر النقد العربي عمومًا واليمني خصوصًا، هو عدم الفصل بين الفكرة وصاحبها

فبدل أن يُناقَش المؤتمر كمبادرة فكرية أو علمية، يُختزل في صاحبة المؤسسة: “توكل كرمان”

وهذا الميل إلى “الشخصنة” يجعل النقاش ينزلق من مستوى تحليل الأداء إلى مستوى تصفية الحساب

وبالتالي، حتى المشاركون في المؤتمر، يُحاكمون باعتبارهم “في معسكر توكل” لا باعتبارهم “خبراء مستقلين”

 ٦

حساسية “المرأة القيادية”هذا شيئ مربك ومزعج في الثقافة اليمنية والعربيةجزء كبير من النقد، وإن لم يُعلن صراحة، نابع من لاوعي جمعي لا يقبل بسهولة زعامة امرأة، خصوصا امرأة ناجحة ومشهورة دوليا

هذه الحساسية تضاعفت لأن توكل لم تأتِ من عائلة حاكمة ولا حزب قوي ولا نسب قبلي، بل من نضال ذاتي وصوت فردي، فشكلت تحديًا لبنية ذكورية هرمية اعتادت أن تتحكم في “الشرعية الرمزية” للزعامة

لذلك، النقد ضدها يحمل أحيانًا طابعًا انتقاميًا من فكرة تحرر المرأة اليمنية والعربية أكثر مما هو نقد لمؤسسة علمية

 ٧- كراهية المحظوظينالكثيرون يعتقدون أن ما تحقق لتوكل كرمان ما هو إلا ضربة حظ كبرى

كسبت ورقة يانصيب بمائة مليون دولار

في سنة واحدة في ٢٠١١، كانت مجرد واحدة من عشرات النساء في ساحات الاعتصام لتصبح محل ثقة دولة قطر الثرية، ولتنال الحظوة في تركيا ولتفوز بجائزة نوبل للسلام، ولتصبح نجمة ملئ السمع والبصر في كل أنحاء العالم

هذه ضربة حظ- في سنة واحدة- ولا في الأحلام

وعموم الناس يكرهون المحظوظين

 خامسا: من الذي يجب أن يتغير؟ توكل؟ أم نحن؟هذا سؤال عميق ومزلزل في بساطته

هي مفيدة ومربكة في نفس الوقت

هي لن تتغير

هي بالتأكيد مزعجة

هي في حالة احتجاج دائم

إنظر إلى كيف تهب بسرعة البرق لتأييد أي حركة احتجاجات واعتصامات في الشوارع في أي مكان كما يحدث الآن في المغرب (!)لكن في المقابل، إذا اختفت الأصوات مثل توكل،فسنعود إلى الركود الكامل — لا حركة، لا مراجعة، لا ضغط شعبي

ويمكننا أن نتغير ونقبل بدور المرأة في الصف الأول والرئاسة

ويمكننا أن ننسى حكاية حسد المحظوظين الذين ينالون الشهرة والمال والنجومية العالمية ولا ينالها غيرهم من نفس المجهود