د. محمد عبدالقادر الحميدي : الدبلوماسية اليمنية في زمن التحولات
منذ 7 ساعات
د
محمد عبدالقادر الحميدي في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تعيد رسم ملامح الشرق الأوسط، يجد اليمن نفسه عند نقطة تقاطع حرجة بين تحديات داخلية متشظية وضغوط خارجية معقدة
في هذا السياق، لم تعد الدبلوماسية مجرد أداة لإدارة العلاقات الخارجية على نحو تقليدي، ولكن غدت ركيزة أساسية في استراتيجية بقاء الدولة واستعادة سيادتها
فهي اليوم ساحة صراع دقيقة تُخاض فيها المعارك بالكلمة والموقف والقانون، حيث لا يقتصر دورها على تمثيل الدولة في الخارج، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة بناء حضورها في الوعي الدولي وترميم صورتها في ضمير العالم
لقد أدركت الدبلوماسية اليمنية المعاصرة أن الاكتفاء بالأدوار البروتوكولية لم يعد ممكنًا في ظل مواجهة دولة لتهديد وجودي تفرضه ميليشيا مسلحة ذات مشروع أيديولوجي عابر للحدود
ومن ثم، أصبحت الدبلوماسية خط الدفاع الأول ومحركًا محوريًا في تشكيل التحالفات وتفكيك شرعية الخصم وحشد الموارد السياسية والقانونية لمعركة استعادة الدولة
وهكذا، انتقلت من حالة التفاعل مع الأزمة إلى هندسة استراتيجيات السيادة، ومن خطاب الانفعال إلى خطاب الفعل والتأثير
لقد ورثت الدبلوماسية اليمنية تركة مثقلة من سنوات الصراع، حين كان خطابها الرسمي متأرجحًا بين الشكوى الإنسانية وردود الفعل الوقتية
ومع أن ذلك النهج كان مبررًا في بدايات الحرب، إلا أنه مع مرور الزمن اختزل القضية اليمنية في بعدها الإنساني، ففقدت حضورها السياسي، وبدت في نظر المجتمع الدولي مجرد مأساة إنسانية لا قضية دولة مختطفة
غير أن التحول الراهن، الذي يقوده الدكتور شائع محسن الزنداني، جاء ليعيد تعريف فلسفة العمل الدبلوماسي على أسس جديدة، تقوم على الانتقال من إدارة الأزمة إلى هندسة السيادة، أي جعل كل تحرك دبلوماسي وبيان ومفاوضة يصب في هدف استراتيجي واحد هو إعادة بناء الدولة اليمنية وتثبيت شرعيتها المعترف بها دوليًا
هذا التحول تجلى في تغيير جوهري لخطاب الدبلوماسية اليمنية، إذ غادر مربع المظلومية إلى ميدان الحجة القانونية
فبدلًا من الاكتفاء بعرض المعاناة الإنسانية، جرى تأطير أفعال الميليشيا الحوثية ضمن القانون الدولي الإنساني وتصنيفها كجماعة إرهابية وبيان تهديدها المباشر للسلم والأمن الدوليين
وبذلك، تحولت الأدوات القانونية إلى وسيلة استراتيجية لتجريد الميليشيا من أي غطاء سياسي محتمل وتعزيز الموقف اليمني بشرعية قانونية لا يمكن تجاوزها
كما أعادت الدبلوماسية تقديم القضية اليمنية بصفتها قضية دولة شرعية تواجه ميليشيا انقلابية، لا صراعًا داخليًا بين أطراف متكافئة
هذا التمايز أضفى على القضية بعدها السيادي وأعاد رسم ملامح الحل السياسي الممكن وفق المرجعيات
وفي بيئة إقليمية تتسم بالتقلب وتضارب المصالح، تعمل الدبلوماسية اليمنية على تحقيق توازن استراتيجي دقيق بين ضرورات الأمن القومي واعتبارات التحالف الإقليمي
فقد بات التحالف مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة أكثر من مجرد تحالف ظرفي تمليه الحرب، إنه عمق استراتيجي يرسخ حضور الدولة اليمنية في محيطها الطبيعي
التحدي الدبلوماسي يكمن هنا في تحويل هذا التحالف من دعم عسكري وأمني إلى شراكة سياسية واقتصادية طويلة الأمد تؤسس لمرحلة ما بعد الحرب وتمنع التدخلات لدول الاطماع ومشاريعها التوسعية
وفي المقابل، شكل التعامل مع سلطنة عُمان نموذجًا متقدمًا في الدبلوماسية الهادئة القائمة على الحكمة وضبط النفس، حيث تم اعتماد نهج الحوار المتزن والتركيز على المصالح المشتركة، ما أسهم في تحييد الدور العُماني عن الاستغلال الحوثي الذي مارسه خلال السنوات الماضية، وإعادة توجيهه نحو دعم الحل السياسي الشامل المتسق مع المرجعيات الدولية
وهكذا، أثبتت التجربة فاعلية العمل الدبلوماسي الهادئ، بعيدا عن الصدام الخطابي والانفعال السياسي
ومن خلال موازاة هذا الحراك الإقليمي، برز البحر الأحمر كساحة اختبار جديدة للدبلوماسية اليمنية
فالهجمات الحوثية على السفن الدولية حولت الممر الملاحي الحيوي إلى بؤرة توتر عالمي، غير أن الدبلوماسية الحالية الراسخة أحسنت توظيف الحدث لصالحها عبر ربط أمن الملاحة بضرورة استعادة الدولة اليمنية لسيطرتها على سواحلها ومؤسساتها
ولقد نجحت وبجهود الأداء الموحد للأشقاء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في إقناع المجتمع الدولي بأن أمن البحر الأحمر لا يمكن ضمانه إلا بوجود دولة يمنية قوية ذات سيادة، فتحول النقاش من كونه شأنًا أمنيًا بحريًا إلى قضية تمس بنية النظام الدولي للأمن والسلام
ومن هنا انبثقت التحالفات الدولية التي وضعت الميليشيا الحوثية في مواجهة مباشرة مع إرادة العالم وقوانينه
لكن أي استراتيجية دبلوماسية طموحة لا يمكن أن تؤتي ثمارها من دون جهاز مؤسسي كفؤ يقف وراءها
وهو ما أدركته القيادة الدبلوماسية الحالية أن النجاح في الخارج يبدأ بالإصلاح في الداخل
فجاءت عملية إعادة هيكلة وزارة الخارجية كضرورة وطنية، لا إجراءً إداريًا
فتحولت البعثات اليمنية في الخارج إلى مراكز عمل نشطة، تتكامل فيها الأدوار السياسية والإعلامية والقانونية، بينما أُعيد تفعيل آليات الرقابة والتقييم، وتطوير قدرات الكادر الدبلوماسي بما يتناسب مع طبيعة المرحلة
إن هذا الإصلاح المؤسسي يمثل فعلًا سياسيًا بامتياز، لأنه يعيد للعقل الدبلوماسي للدولة قدرته على التحليل والتخطيط والتنفيذ بدل أن يظل مجرد صدى لسياسات الآخرين
إن الدبلوماسية اليمنية في جوهرها اليوم ليست مجرد أداة لإدارة الصراع، وإنما وعي الدولة بذاتها في لحظة إعادة التكوين، حين تخوض معركة الوجود على طاولة العالم، وتعيد تعريف اليمن في عيون الآخرين، لا كدولة انهكتها الحرب، ولكن كأمة تسعى لاستعادة حضورها وكرامتها
إن القيمة الحقيقية لجهود الدكتور شائع الزنداني تكمن في المنهجية الهادئة والرصينة التي يديرون بها هذا الملف المعقد، إذ يدركون أن استعادة الدولة لا تتم بالسلاح وحده، ولكن من خلال بناء شرعية سياسية وقانونية وأخلاقية قادرة على الصمود، في عالم يتغير فيه ميزان القوة من المادة إلى الموقف، ومن السلاح إلى الفكرة، حينها تصبح الدبلوماسية سلاحًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن أي جبهة ميدانية
رغم ما تحقق من منجزات على صعيد الحضور الدبلوماسي، إلا أن المرحلة المقبلة تفرض على وزارة الخارجية أن تنتقل من إدارة الملفات إلى صناعة المبادرات، وأن تجعل من علاقاتها الخارجية رافعةً لتعزيز حضور الدولة في الداخل والخارج على السواء
فالدبلوماسية لم تعد أداة تواصل خارجي فحسب، بل صارت جزءًا من بناء القرار الوطني، وصوتًا للعقل اليمني في محيطٍ يتغير بسرعة
والمطلوب اليوم دبلوماسيةٌ تستوعب التحولات الإقليمية والدولية، وتعيد تموضع اليمن في خارطة المصالح الجديدة من خلال شراكات قائمة على الاحترام والمصالح المتبادلة، بما يحفظ للبلاد سيادتها ويعزز مكانتها في النظامين الإقليمي والدولي
وعليه، فإن مسؤولية وزارة الخارجية مضاعفة في هذه المرحلة الدقيقة، إذ يُنتظر منها أن تُحول ما تحقق إلى استراتيجية مستدامة تقوم على الأداء المؤسسي، والانضباط المهني، والتمثيل المسؤول للدولة اليمنية في المحافل كافة