د. مصطفى الجبزي : النزعات ما دون الدولتية وتأثيرها على تماسك الدولة والمجتمع في اليمن

منذ 3 ساعات

د

مصطفى الجبزي سررت أن أكون مشاركًا في مؤتمرٍ الباحثين والخبراء اليمنيين الذي أُقيم في إسطنبول يومي أمس والبارحة، وقد قدّمت عرضًا لورقة بحثية تتناول النزعات ما دون الدولتية وتأثيرها على تماسك الدولة والمجتمع في اليمن في سياق الحرب الجارية في اليمن

سأضع أهم ما ورد فيها هنا في السطور التالية

قدّمت سياقًا عامًا على نحوٍ مقتضب يتطرّق إلى المراحل المفصلية في بناء الدولة الحديثة في اليمن، والمتمثلة في قيام النظام الجمهوري في الشطرين اليمنيين، بما يتضمنه هذا النظام من تغيير جوهري وقطيعة تاريخية في طبيعة العلاقة الرأسية بين الأفراد والسلطة

والمرحلة الثانية هي مرحلة تحقيق الوحدة، ودخول اليمن في طيّ صفحة الحزب الواحد، وبدء التعددية الحزبية والديمقراطية

إلا أن مسيرة بناء اليمن الحديث، وبالتالي تشكيل هوية جمعية لليمنيين، لم تَسِرْ بمسارٍ خطيّ، بل تعرّجت وشهدت صراعاتٍ وجولاتٍ من الصدامات الدامية

وآخر هذه الجولات هي الحرب الجارية وما خلّفته من أزمة راهنة أفرزت وضعًا كارثيًا على الصعيد الإنساني وانقساماً سياسياً واجتماعياً، وكشفت هشاشة المجتمع والدولة على السواء

وقد انبثقت مجموعة من النزعات ما دون الدولتية، واستُبدل الخطاب الوطني بخطابٍ أكثر عصبوية

وتتمثل التهديدات الأساسية في محاولة تطييف المجتمع بصبغة مذهبية سياسية أحادية تُعيد إنتاج الحكم الكهنوتي، وتفرض على المجتمع لونًا عقائديًا واحدًا

كما برزت نزعاتٌ انفصالية تُعيد تعريف يمنية اليمنيين

وبروز قراءة إثنية للصراع في اليمن فوق ابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمذهبية

وبهذا، فإن المشكلة اليمنية في إطار هذه الورقة هي ظهور النزعات ما دون الدولتية، والمقصود بها أنماط ولاء وتنظيمات دون الدولة أو موازية لها (طائفية، قبلية، مناطقية، إثنية)، تسعى إلى تمثيل سياسي في أحسن الأحوال ، أو تمدّ شهيتها نحو بناء تكتلات أمنية وعسكرية، واستقطاع موارد خارج مؤسسات الدولة وبالافتكاك منها

ومردّ ذلك يمكن أن يعود إلى أسبابٍ في مقدّمتها فشل بناء الدولة والوطنية، الذي يتجلّى في العجز عن السيطرة الترابية، وتدنّي مستوى الخدمات (ماء، كهرباء، صحة، تعليم)، والقصور في سرعة إنفاذ القانون، ووجود مسارات عدالة موازية لا يتساوى أمامها المواطنون

إلى جانب قصورٍ في قدرة الدولة من حيث الإنفاق العام للفرد، وتحويل اليمن إلى مناطق حضرية

 وهذه ليست إلا عناوين لفساد الحكم والإقصاء والمحاباة والعائلية، واجتماع كارتل المال والسلطة

كما أن اليمن ضحية خرائط الانقسام ذات الجذور التاريخية، إذكتها السياسات المتعاقبة، ومنها تراكب المذهب (الزيدي/الشافعي) مع الجغرافيا القبلية والحرمان التنموي كـوصفة ملائمة للنعرات، وتاريخ سياسي حديث موسوم بالتشطير ومسارٍ وحدوي متعثر

بالإضافة إلى دور الإسلام السياسي في تقويض السياسة عبر سلفنة الحياة العامة، ومعاداة الممارسة السياسية والحزبية، ونقل الصراع من سياسي إلى مذهبي، والإقحام الثقافي الفج بأسلمة مجتمعٍ مسلم، وأخذه إلى الماضي بدل الذهاب به إلى المستقبل

ولفتُّ الانتباه إلى أن المشكلة اليمنية قد تكون إشكالية هوية كنتيجةٍ ما بعد كولونيالية،ك

لكن لا توجد دراسات كافية حول هذا الأمر تكشف كيف أن النزعات ما دون الدولة، ولا سيما الانفصالية التي لا تريد فقط اقتطاع الجغرافيا اليمنية، بل تقويض يمنية اليمنيين، هي نتيجة استعمارية تُمدّها بالحياة

إلا أننا معنيون بنظرةٍ دقيقة إلى الحرب وتشظّي المجتمع من ظهور كانتونات وحدودٍ وقيودٍ أفرزت بدورها قيودًا على كثافة الروابط العابرة للهويات (زيجات مختلطة، أحزاب عابرة للكانتونات، منظمات مجتمع مدني عابرة)

وبالطبع، ظهور العنف الهويّاتي، والتهجير والنزوح، وشدة خطاب الكراهية، والانفلات الإعلامي

كما لا يمكن إغفال الانشقاق المؤسسي والمؤسسات الموازية لسلطة الدولة، والتي تتجلّى من خلال تشكيلات عسكرية وأمنية واجتماعية مسنودة من الخارج، نشأت في سياقٍ جيوسياسي إقليمي ودولي

ففي ظل هشاشة البلاد، بات اليمن بلا مناعة سيادية، كمرضٍ أعراضه أن نخبًا سياسية تدافع عن مصالح الرعاة الخارجيين أكثر من دفاعها عن مصالح قواعدها الجماهيرية، وكتلًا سياسية ونخبًا بلا قاعدة جماهيرية، يولّد انفصالًا عن الواقع، وتبني قضايا مؤقتة وزائلة، وسيولة وانحسارًا في المجتمع المدني وتبعيته الكاملة للخارج

وهذه كلها هي ديناميكية افتكاك الدولة وتشظي المجتمع:انهيار الدولة يعني انهيار احتكار العنف المشروع، وبالتالي ظهور ميليشيات طائفية وقبلية

تسييس الهوية عبر خطاب المظلومية والاستحقاق (الحق والمختلق)

حصول الفاعلين ما دون الدولة على تمويل خارجي وموارد ذاتية

بناء مؤسسات بديلة (مدارس، محاكم، خدمات) تعزز شرعيتهم

 النتيجةكلما ضعفت الدولة في تقديم الخدمات واحتكار العنف، زادت قوة النزعات ما دون الدولتية

وجود دعم خارجي لهذه الجماعات يضاعف من فرص استمراريتها

تسييس الخطاب المذهبي أو المناطقي يرتبط بانخفاض التماسك الاجتماعي

كلما تراكمت الانقسامات التاريخية، زادت احتمالات تفكك الدولة

 الخاتمةإن النزعات ما دون الدولتية في اليمن ليست مجرد ظواهر اجتماعية معزولة، بل هي بنى عميقة الجذور تاريخيًا، تفاعلت مع الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية لتعيد إنتاج نفسها بقوة

لقد أضعفت هذه النزعات شرعية الدولة المركزية وأدّت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي

انتهزت هذه النعرات السياق الجيوسياسي الاقليمي والدولي وأصعب متاعا البلاد

 ويظل التحدي الأكبر أمام اليمن هو إعادة بناء دولة وطنية جامعة، قادرة على استيعاب التعددية المذهبية والمناطقية والإثنية، والانتقال من منطق الولاءات الجزئية إلى عقدٍ اجتماعي جديد يؤسس لوحدة الدولة وتماسك المجتمع

هذا تقديم لورقة ستكون صالحة للنشر ضمن ادبيات المؤتمر

 الشكر للقائمين على المؤتمر وأبارك لهم نجاحه وانتظر النسخ القادمة منه بشكل أوسع وأكثر شمول وتخصص