د. مصطفى الجبزي : سؤال الفعل اليمني: أين يقف اليمنيون من صراعاتهم؟
منذ ساعة
د
مصطفى الجبزي في عام 2024 التقيتُ صديقي الباحث المتميز أحمد ناجي -نتشابه في الأسماء ونحن إخوة من رضاعة التحليل السياسي فقط - في لاهاي على هامش فعالية نظّمها مركز صنعاء
رحنا نسير ليلاً في أزقة لاهاي ونتجادل حول نقطتين واقعيتين: حدود التدخلات الخارجية interventionism ومتن الفعل للأطراف اليمنية agency
سبق وأن كانت هذه الثنائية نقطة حديث طويل لنا أيضاً في وجبة عشاء في مطعم دعاني إليه في الضواحي الغربية لمدينة إسطنبول قبلها بعام
ما زلتُ أشدّد على فحص قدرة اليمنيين على الفعل -وعلى ضوء هذا كتبت تعليقاتي الطويلة للصحفي فهد سلطان بعد منشوراته عن اللجنة الخاصة السعودية- لا من أجل إعادة ترتيب سببية تاريخية تعيد وضع الفاعل في المبتدأ فحسب، بل لتوزيع المسؤولية من ناحية ومواجهة الأطراف اليمنية أمام مسؤوليتها التاريخية
وبالتالي استنهاض مدارات الفعل اليمني
أعوامي التي أنفقتها لمتابعة أحداث وتقلبات اليمن جعلتني أخرج بخلاصة بسيطة
لا ينظر اليمنيون إلى ما يريدون بل إلى المساحات التي يمكن أن تتحرك فيها القوى الإقليمية ليعيدوا تعريف هامش ارادتهم داخل هذه المساحات
من جهة، عقائدية الحوثي تسوقه إلى الإيمان بقدرة إيران، وبالتالي سيضحي معها لأنه ضامن النتائج بحكم التسليم المطلق وهو يبالغ في اثبات الولاء على حساب سؤر ما شيده اليمنيون من مصالح خدمية واستراتيجية
هذه العقيدة ترى أن الولاء يكتمل بالفناء وأن الدمار هو الشهادة الأوضح والتي لا يمكن نقضها على الإخلاص
من جهة أخرى، باقي الأطراف اليمنية تقيس رهاناتها في تفاعلاتها المحلية بوحدات قياس الحدود التي ستذهب إليها الإمارات في تماديها أو أبعاد الممانعة السعودية
لذا يقولون: ستفعل الإمارات، أو يقولون: لن تقبل السعودية
بالطبع لا يمكن نكران التدخلات الخارجية
البلاد مباحة وكل دول الجوار تتدخل صغيرها وكبيرها
بعد عامين إلى ثلاثة، وإذا تراكمت ثروات بسيطة في إثيوبيا بفعل الاستخراج النفطي، فإنها ستتدخل في الشأن اليمني ولديها الوصفة الجاهزة للتدخل وسيكون تدخلها حصيلة أثننة المشكلة اليمنية
أراهن على ذلك بهاتفي هذا الذي أكتب منه وليس لدي غيره
فمن يقبل الرهان؟ بل أوسّع دائرة رهاني على نحو اللامعقول أو اللا منظور وأقول إن الهند بعد أقل من عشرة أعوام ستكون قوة إقليمية كبيرة مهابة وتدخلية، وستتدخل في اليمن ولو عبر البحر والمحيط الهندي في أقل الأحوال
لكن لمن لا يعلم، اليمن كانت ميدان ثاني عملية إخلاء خارجي هندية عبر البحر نفّذته البحرية الهندية تحت اسم عملية راحات عام 2015 (الأولى كانت في لبنان 2006 باسم سكُون)
التاريخ السياسي اليمني المعاصر يعصر لنا عبرة صغيرة: كل صراع داخلي أُدير بمعادلة صفرية وانتهى بفوز ساحق لطرف قاد إلى تجريد البلاد من المناعة السيادية
لذا، ما نزال ندور في دوامة جولات الصراع الدورية
لسبعة عقود متتالية، أكنا شطرين أو شطرا واحدا، لم تخلُ أي عشرية من صراع دموي
والحبل على الجرار
وهنا يمكن أن نضع سؤالين اثنين: كيف تتولد الصراعات؟ والإجابة تكمن في تفكيك ديناميكية القهر والهيمنة بتراكماتها التاريخية
والسؤال الثاني: لماذا تتكرر دورات العنف؟والإجابة على بساطتها شديدة التعقيد: الفشل في بناء دولة حديثة
قبل أسابيع قدمتُ مداخلة في مؤتمر إسطنبول للأكاديميين والخبراء اليمنيين، ووعدتُ باستكمال كتابة الورقة – لكني لم أتمكن بعد أمام خيبات الوضع وارتباك طرأ على حياتي منذ شهور – وتناولتُ في مداخلتي المسجّلة تصويراً يومها النعرات ما دون الدولتية التي تَنبثق في اليمن وأثرها على تماسك مجتمع الدولة
أشرتُ فيها إلى أن الفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة؛ دولة المواطنة من ناحية، والسلطوية من ناحية أخرى ، هما الرافعة الناهضة لهذه النعرات بأشكالها المختلفة (مناطقية، انفصالية، طائفية/مذهبية… إلخ)، بالإضافة إلى ممانعة – أسهم الإسلاميون أيضاً في تكوينها وتعضيدها – بناء هوية وطنية حديثة
تحتاج الدولة الحديثة فكريا القيام بخطوة تأسيسية تمكن في تعزيز الفردية والاستحقاق بالتالي تحجيم تدخل العصبيات وكسر قيود المحافظة، وتحجيم تدخل الدين في بناء منظومة قيم مواطنية تعالج الثنائية الصراعية المذهبية وتكبح تمدد إرث الإمامة من التقدّم إلى المستقبل
بمعنى آخر علمانية رشيدة، استحقاق وكفاية وجدارة (ميرتوكراسي)
تكرار دورات العنف والفشل في بناء دولة وطنية يضع أي متأمل للشأن اليمني أمام إشكالية جوهرية: لماذا تفشل النخب اليمنية في بناء تحالفات متينة وصادقة؟ أو بصورة عملية: لماذا كل اتفاق سلام يمني يقود إلى الحرب مباشرة؟ في مناسبة أخرى، بطريقة مختلفة تناقشتُ حول هذا الموضوع مع صديق آخر تربطني به حوارات واتساابية ، في محاولتنا لفهم أسباب نكث العهود بين اليمنيين
تمام حيرتنا في فهم الظاهرة جزمت برأي المتهور : كل طرف يضمر مكيدة لحليفه وأن روح الغدر أثبت من الصفح
هل تتذكرون صالح -وصوته المجروح ذي الجرس الخائر اثر تداعيات حادثة مسجد الرئاسة - عقب التوقيع على اتفاق المبادرة الخليجية في الرياض عام 2011: مش مهم التوقيع، المهم التنفيذ
ليس علينا أن نستفسر: ممن كان يحذر صالح؟ بل مما كان يحذر صالح وهو يعرف نفسه جيداً
لم يكن صالح يومها أحد رعايا ذلك الاتفاق حتى يعجّل في وضع تحذيرات وخلق بيئة ذهنية تحث على الإلزام بالاتفاق
بل كان طرفاً فيه، أو هو الطرف الأول المعني بالاتفاق بعد ان تملص من التوقيع لشهور، لدرجة أن أنصاره هاجموا السفارة الإماراتية في صنعاء في مايو 2011
قرأتُ قبل أيام منشوراً طويلاً للدكتور عبد القادر الجنيد يقدّم فيه إجابة غير مباشرة نابعة من تصور حتمي دارويني للصراع في اليمن بأبعاده الاجتماعية والسياسية
تذهب خلاصة المقال الذي يتتبع التطور السلوكي البشري منذ مئات آلاف السنين ويسقطه على اليمن الراهن إلى أن هناك أربعة نوازع تسير الفرد تطورياً وتحكم علاقاته بالآخرين، منها الخوف والرغبة في الهيمنة، والخضوع والتمرد وهي ثنائيات قادت إلى التطور المستمر رغم ثبات الخصال
لعل البحث النفسي أقدر على تقديم فهم لسلوك النخب والقوى اليمنية التي ما تزال تحبو في طفولتها الاجتماعية السياسية ولم تنضج لتواكب متطلبات بناء دولة حديثة
وبما أنها في طفولتها فإنها تلتهي ما إن تُقدّم لها الحلوى وتتخلى عن غايتها الأولى
وفوق هذا ما تزال غريزية تستجيب شرطياً للمحفزات فتقع في دائر الترويض اليسير والسريع
لذا لا يحدث التمرد عن وعي إنما بتغيير في المعادلة الشرطية
لو تمكننا من سبر السلوك السياسي للرئيس صالح مع القوى الخارجية لفهمنا هذا المغزى
تتضافر هذه الطفولة السياسية إلى جانب عوامل موضوعية مادية تضع اليمني تحت نير القابلية للتدخل الخارجي
هذه النخب الطفولية وعياً – رغم مهارة المكر ودهاء التملص والتراكم المعرفي والشخصيات المصقولة على المناورة حد الاستخفاف المبطن بالوسطاء والخصوم – لم تفهم منذ أكثر من عشر سنوات الغاية الكلية للتدخل في اليمن
ــ 2 ــكانت الدولة اليمنية بعوارض عدم الاستقرار وقابلية الانفجار الداخلي تهديداً حقيقياً لدول الجوار والعالم
إذن فالمهمة هي تفكيك إرث السلطة اليمنية وبناء صرح جديد مختلف
نحن -رغم مكابرة البعض ونكرانه اللحظي والنكائي- ندرك إلى أي درجة كان البناء اليمني المؤسسي ملغوماً بكل عوامل الفشل حتى إنه أفرغ نفسه من النزعة الجمهورية ومرتكزاتها الانسانوية
نعرف المشكلة، وسبق أن قدمنا لها تشخيصاً دقيقاً وحاولنا تقديم مقترح حلول بعد 2011
ما حدث الآن هو أن تفكيك السلطة المتعسف والرغبوي يقود إلى تفكيك الدولة
اشدد على كلمة رغبوي لانه مخطط للتفكيك التي يسايرها كل القوى اليمنية وكل واحدة منها لديها حساباتها الخاصة كان يمضي وفق رغبات متبدلة ومتناقضة في داخلها جعلت من التفكيك غاية وليس وسيلة
بالمقابل القوى اليمنية – التي حشدت حولها نخباً زائغة ومتهافتة على عسل الموائد وتحريضية – لا تملك تصوراً واحداً حول الفصل بين السلطة المراد تفكيكها والدولة التي ينبغي الحفاظ عليها
يتذكر احد السياسين انه حين قابل السفير الأمريكي في 2011 واجاب على سوال السفير بماذا تريدون: اسقاط النظام
فكان رد السفير لاذعاً : اولاً شيدوه حتى تنادوا بإسقاطه
أنا اختلف تماماً مع كل من يرى أن السعودية مع إعادة تشطير اليمن
هي ليست كذلك لكنها لن تفعل ما يحول دون التفكيك
أخي مطالبة بهذا؟ سيتوقف استثمارها السياسي في اليمن عند الوصول إلى ضمان أمنها ومصالحها لا أقل ولا أكثر
هذا هو التفسير العقلاني للسلوك الخارجي لدولة وما
لماذا تخشى الدول الاروبية محاولات الانفصال داخل أوروبا ؟ لارتدادات ذالك على الهوية الوطنية لكل دولة أوروبية
ليس ليس واردا في حالة السعودية
إذن، لماذا وقع التفكيك على هذا النحو العشوائي
هل لأن السلطة كانت هي الدولة؟ أم لأن هذه القوى غير مسؤولة وتريد أن تلقي بعبء التغيير على غيرها؟ هذه صفة طفولية أخرى تحتاج إلى نظر
ثم أليست مفاعيل التفكيك نابعة من تاريخ سياسي غير محسوم ظل فاعلوه يراكمون الإخفاقات ويهربون إلى الأمام
هل حدثت لحظة تصالح حقيقية بين الأطراف اليمنية؟ هل وضعت النخب السياسية عربة التحديث على قضبان العدالة الاجتماعية؟ هل حسمت النخب مرجعيتها الفكرية والفلسفية في بناء الدولة؟ النقطة الثانية التي أظنني استخلصتها تكمن في أن النخب اليمنية تنظر إلى الوحدة باعتبارها شأناً شمالياً
لذا على الشمال أن يحافظ ويحتفي بالوحدة لأنه حقق مكاسبه الخاصة من خلالها
وهذا بالطبع خطأ احصائي
استسلمت النخب الشمالية لهذا التصور وبما أنها منقسمة وقد فتك بها الحوثي، فإن جزءاً منها ذهب إلى النقيض تماماً ويرى أن الانتقام من الحوثي لا يكون إلا في تعضيد كل طرف يناقض الوحدة
هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى لم تعقد النخب الشمالية هذه أواصر حقيقية (خارج نسيج حزب الإصلاح) مع نخب وحدوية جنوبية
في مقتبل مركزية صنعاء الوحدوية بقي مشروع الانفصال متمركز في عدن
تساهل بناء تحالفات عابرة مع النخب الوحدوية اليمنية سمح بتمدد الإشعاع الانفصالي شرقاً
كان هادي ومن حول والقوى السياسي والعسكرية التي ساندته أوساط من دافع عن اليمن
الدفاع عن الوحدة يتطلب استعادة صنعاء او في اقل القليل توسيع رقعة المناطق المحررة في محافظات الشمال
مقابل تشريد القوى الشمالية المناهضة الحوثي، تقف النخب والقوى الوحدوية الجنوبية مجردة من أي تضامن أو تحالفات أو مجال تنفس
وبما أن حزب المؤتمر قد تفكك وتشظّى ذاتياً كما تفعل الكائنات الأولية حين تتكاثر بالانشطار، فقد تحمّل حزب الإصلاح وحدة الهجمة الانفصالية وواجه الخطاب التجريمي للوحدة
في الحقيقة كان الإصلاح هو عدو الجنوبيين الانفصاليين حتى في عهد صالح والسبب يعود إلى السحق الثقافي الذي مارسه الاصلاحيون للخاسرين عقب حرب 1994
ثلاثة عقود من الوحدة لم تكن كفيلة بخلق وعي وحدوي عابر للجغرافيات أو للكيانات الحزبية
الآن، حزب الإصلاح هو نفسه في لحظة هوان وفقدان سيطرة إلى درجة أن نخبته الجنوبية قابلة لأن تنزلق نحو نزعات مناطقية
إصلاحيّو حضرموت يميلون أكثر إلى ذاتية حضرموت عوضاً عن الوعي المركزي الإصلاحي
ثالثة نقطة وآخرها من التي احب استعراضها هنا هي ان الجمهرة في اليمن تنحو إلى الانتصارات الخاطفة
في حقيقتهم، اليمنيون لا يحبون الحرب، بل التهديد بها واذا وقعت حرب أرادوها خاطفة
وعندما تحدث يستسلمون للهجمة الأولى ويقلبون في صف المنتصر
يقول المثل اليمني الحامل لتصالح مؤقت :من أكلك قال أخوك
هذا السلوك المتبع أصلا من محدودية الموارد المخصصة للحرب جنب اليمنيين حروباً طاحنة لكنه فتح الباب نحو تربية الحقد وتأصيل الثأر
المسالة فقط انتظار سانحة
خرجت الحوثية من هذا الاستثناء لسببين اولا انها تمنح من تراث قتالي عقائدي جهادي
والثاني انها حاليا تدار ايرانيا وبخبرات ايرانية
وبهذا فإنها أشد فتكاً باليمنيين وأكثر قدرة على إحداث تغييرات ثقافية فيهم