د. مصطفى الجبزي : هل تكون قمة تيانجين الصينية عنوانًا لعالم دولي جديد؟ وهل تستطيع الصين قيادة كتلة عالمية موازية؟
منذ 13 ساعات
د
مصطفى الجبزي قبل انعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون في الصين، والتي يُتوقع أن تتخللها عروض عسكرية صينية تعبّر عن المرحلة المتقدمة التي بلغتها الصين من حيث القوة والنفوذ، شهدت مدينة تيانجين لقاءً مهمًا لقادة أكثر من عشرين دولة
وقد شارك في قمة تيانجين عدد من الزعماء البارزين، من أبرزهم قادة الصين، والهند، وتركيا، وماليزيا، وروسيا، إلى جانب عدد من الدول الأخرى التي تمثّل كتلاً سياسية واقتصادية صاعدة في النظام الدولي
في هذه القمة تحدثت الرئيس الصيني من منصة عريضة زرقاء اللون مستنكرا أسلوب الحرب الباردة وداعيا إلى نظام دولي جديد يحافظ على سلامة العلاقات التجارية
لِلإجابة على هذا السؤال أعلاه الذي يبدو استجابة للمشهد في ظاهره، سنبدأ بتقديم تعريف مختصر للنظام الدولي الراهن
منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، سيطرت الولايات المتحدة على النظام الدولي ضمن إطار أحادي القطب
غير أن هذه الهيمنة الأمريكية باتت اليوم موضع تشكيك، مع بروز قوى إقليمية أخرى لا تقل عنها تأثيرًا، لا سيما من الناحية العسكرية، وإن كان هذا التأثير لا يزال محدودًا مقارنة بالنفوذ الأمريكي الشامل
إن طبيعة النظام الدولي الحالي ليست عسكرية فحسب، بل هي في الأساس اقتصادية
وما يميّز هذا النظام عن سابقه (نظام القطبية الأحادية) أنه لا يقوم فقط على صراع عسكري أو استقطاب سياسي، بل يقوم أيضًا على درجة عالية من الترابط والاعتماد الاقتصادي المتبادل، لم يسبق أن شهدتها البشرية بهذا الشكل من قبل
لم تكن قيمة التبادل التجاري بين بلدان العسكرين المهيمنين قبل عام 1990 بالشيء العام اقتصاديا ولم تكن امريكا تاخذ من الاتحاد البوليفي إلا اقل 5٪من تبادلها التجاري
لكن أمريكا اليوم هي السوق الأول للصين
من أبرز ملامح هذا التحول أيضًا كان وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة
ويُمكن اعتبار ذلك مؤشرًا على إدراك أمريكي باطني لتراجع الهيمنة أو على الأقل صعود قوى منافسة
أما الإجابة التي قدّمها ترامب على هذا التحول فكانت متسمة بالرعونة والاندفاع، في محاولة لإعادة تثبيت أقدام أمريكا كقوة عظمى كما يحلم
وفي طريق تنفيذ هذه المهمة لم يصب ترامب ،الذي تحول إلى جابٍ عملاق، خصومه انما حلفاءه ايضا
وقد تجلى ذلك في توتر علاقات أمريكا مع حلفائها التقليديين مثل أوروبا، وكذلك في كشف هشاشة بعض التحالفات الاستراتيجية الأمريكية، مثل العلاقة مع الهند
لكن تراجع النظام الدولي الحالي لا يعود فقط لأسباب مادية أو اقتصادية، بل يرتبط كذلك بما يمكن تسميته أزمة أخلاقية
فقد تأسس النظام الغربي على ادعاءات التفوق الحضاري والديمقراطي، إلا أن هذه القيم تعرضت لتآكل متزايد، خاصة في ضوء ما يشهده العالم من حروب وانتهاكات كالحرب على غزة، وما تمارسه إسرائيل من جرائم مدعومة بالسلاح والدبلوماسية الأمريكية
وهذا كله يُضعف من الشرعية الأخلاقية للنظام القائم
من هنا، بات من الضروري إعادة التفكير في النظام الدولي، في ظل تراجع التفوق الأخلاقي الغربي، وفشل الديمقراطية الغربية في فرض نفسها كنموذج عالمي مقبول
وفي هذا السياق، تتوالى القمم والاجتماعات الدولية كما تنقلها وسائل الإعلام
أما ما يميز قمة تيانجين الصينية الأخيرة، فهو السياق العالمي المتغير الذي أشرنا إليه، حيث تبدلت خارطة الأحلاف وذهبت الهند إلى الصين
واحسب رئيس الوزراء الهند يقول لنفسه في طائرته بيت المتنبي الشهير : ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرىعدوًّا له ما من صداقته بدّبالإضافة إلى ان التكتل يمثل ما يقارب ثلث الإنتاج العالمي وأقل من نصف سكان الأرض بقليل
وهذا يعكس كتلة سكانية واقتصادية هائلة من شأنها ان تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة
فهل تستطيع الصين قيادة العالم الموازي لأمريكا؟تُعد الصين اليوم دولة ذات شبكة علاقات دولية واسعة، وقد بنت تحالفات معقدة بأسلوب ناعم ومتدرج، خصوصًا خارج نطاق العالم الغربي
هذا التدرج شمل تعزيز قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية، حتى أصبحت في موقع يمكنها من حماية مصالحها الدولية—ليس بالضرورة عبر التدخل العسكري، بل من خلال النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي إلى الحد الذي جعلها تسب عن الطوق الروسي وتضعه تحت رحمتها التكنولوجية والاقتصادية
الصين تُعد اليوم مصنع العالم، وقد أصبحت حاجة الاقتصاد العالمي إليها حيوية ومستمرة
ومع ذلك، لا تستند قوتها فقط إلى الجانب الاقتصادي، بل تعتمد أيضًا على عدة عوامل استراتيجية:وحدة القرار السياسي، ما يمنحها استقرارًا في التوجهات الكبرى
القدرة على التخطيط طويل المدى وتنفيذ السياسات بشكل تدريجي وفعال
الاستفادة الذكية من التحولات الجيوسياسية، خاصة في ظل ضعف واضح في قيادة المحور الغرب والتخبط الأمريكي
ومن اللافت أن الصين لم تدخل حتى الآن في أي صراع عسكري مفتوح وتراكمت القدرات
وهو ما يجعل مسار صعودها أقل تكلفة وأكثر اتزانًا
فهي تسير بمنطق الربح دون الخسارة، وتتفادى الغرق في حروب الاستنزاف
صحيح انها لم تمتحن نفسها ولا قدراتها العسكرية
كما أن الصين تمتلك مفاتيح القوة المستقبلية:دخلت بقوة في مجال الصناعات الدقيقة والتقنيات المتقدمة
حققت إنجازات ملموسة في الفضاء
تسيطر على الجزء الأكبر من المعادن النادرة، التي تمثل عنصرًا حاسمًا في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، ما يمنحها أداة تفاوض استراتيجية كبرى في النظام العالمي القادم
ويبقى السؤال الملح : أين موقعنا نحن العرب في رقعة الشطرنج هذه؟