دروس معمدة بالدم من مجزرة “يناير”

منذ 2 سنوات

رغم مرور نحو أربعة عقود عليها، مايزال الحديث عن أحداث 13 يناير 1986 المشؤومة في عدن، متداولًا بين عموم اليمنيين في مناطق الجنوب وغيرها

ومازال بعض أطراف ذلك النزاع المؤلم ممن لايزال على قيد الحياة، يتبادلون الاتهامات حول من يتحمل مسؤولية تفجير الوضع في ذلك الحين

يرى سياسيون ومؤرخون وكُتاب، منهم من عاصر تلك الحقبة السوداء، ومن هم من كتب عنها، أن ما حدث لم يكن مجرد شأن داخلي عابر، والدليل على ذلك أن تلك الأحداث ماتزال توظف سياسيًا بين أطراف النزاع حتى الوقت الراهن

كما أن أطرافًا إقليمية ودولية تحاول أن تستدعي تلك الأحداث لأهداف وأغراض تسهم في تأجيج النزاع الحالي في اليمن

بينما يرى ناشطون وصحفيون أن لا جدوى من تذكُّـر تلك الأحداث، رغم أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، وأن أبناء الجنوب اليمني تمكنوا من إعادة لملمة صفوفهم، واستفاقوا وأدركوا ما خُطط لهم، واستطاعوا أن يتصالحوا ويتسامحوا في ما بينهم، وهم اليوم يواجهون تحديات من نوع آخر، ويسعون اليوم لخلق واقع جديد عله يداوي جراح الماضي، ويفتح آفاقًا عنوانها الأمل بوطن مستقر ومزدهر

خلال السنوات الأخيرة من عمر الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، والذي دام 129 عامًا، عمل الإنجليز على الإمعان في تطبيق سياسة “فرق تسد” بين مختلف مكونات قيادات ومجتمع الجنوب اليمني من سلاطين وقيادات في الاتحادات والنقابات والتشكيلات المسلحة

أدت تلك السياسة إلى نشوب صراعات على الحكم أثناء فترة الاحتلال البريطاني للجنوب، وعقب رحيله

في 1963 أرسلت الأمم المتحدة لجنة إلى عدن، وشجبت ما قامت به بريطانيا من ممارسات احتلالية فيها، وأوصت بإنشاء حكومة وطنية لتسليم بريطانيا مقاليد الحكم لها

تزامن ذلك مع الإعلان عن تشكيل جبهة التحرير “الأولى”، جبهة تحرير الجنوب العربى المحتل، في مؤتمر لمناضلي الجنوب بكل فئاتهم، في صنعاء، وصدور ميثاقها ونشرة خاصة بها

وفي العام ذاته، تم الإعلان عن تشكيل الجبهة القومية لتحرير الجنوب العربي، بحضور 10 أفراد فقط من حركة القوميين العرب، وتكونت الجبهة من اندماج 7 فصائل سرية، وقامت الجبهة القومية بتصفية جبهة التحرير، والإعلان بأنها الممثل الشرعي لأبناء الجنوب، وأن على بريطانيا الاعتراف بها

“لا جدوى من استرجاع الماضي الأسود في ما يخص أحداث 13 يناير، وغيرها، لأنها أحداث قد عفا عليها الزمن، ولا تمت بصلة للواقع المغاير عنها بشكل تام، لأن شخوصها مختلفون، ومسارها مختلف تمامًا عن الحرب الحاصلة اليوم

“لكن بريطانيا كانت مراوغة وتحاول إجهاض الحركات الثورية حتى بعد جلاء آخر جندي لها من عدن، في 30 نوفمبر 1967، وهو العام الذي تم فيه الإعلان عن الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، تحت قيادة الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل إبان حرب التحرير، وإعلان تقسيم سياسي وإداري جديد للمحافظات الجنوبية والشرقية، يضم 6 محافظات و30 مديرية بدلًا من التقسيم الذي كانت قد حددته بريطانيا

وفي العام ذاته، تم تعيين قحطان محمد الشعبي أمين عام الجبهة، رئيسًا للجمهورية الاشتراكية ذات نظام الحزب الواحد، والدولة الشيوعية الوحيدة في الوطن العربي آنذاك

ومن بعده تولى الحكم سالم ربيع علي سنة 1969، وانتهى حكمه بإعدامه سنة 1979، ليتولى رئاسة اليمن الجنوبي من بعده عبدالفتاح إسماعيل الذي استقال، وتم نفيه إلى روسيا سنة 1980، أي بعد أقل من سنتين على توليه الرئاسة، ومن بعده علي ناصر محمد الحسني الذي تولى الحكم حتى أحداث يناير 1986

في صباح يوم الاثنين 13 يناير 1986، كان من المقرر أن يجتمع أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، وهو الحزب الحاكم في الجنوب آنذاك، في مقر المكتب بمنطقة التواهي بمدينة عدن

كان الهدف من ذلك الاجتماع مناقشة الخلافات التي كانت قائمة على توزيع المناصب القيادية بين قيادات الحزب للدولة وللحزب، حينها كان علي ناصر محمد يشغل منصب رئيس الجمهورية، ومنصب الأمين العام للحزب الاشتراكي، وحيدر العطاس يشغل منصب رئيس الوزراء

ووفقًا لشهادة الصحفي الأجنبي “ديفيد جارودي، في ترجمة كتابه المعنون بـ”كنت هناك

عدن أحداث يناير 1986″، إضافة إلى شهادات لكُتاب مستقلين آخرين اطلع “المشاهد” عليها، فإنه، بالفعل، اجتمع عدد من أعضاء الحزب في ذلك اليوم، لكن الرئيس علي ناصر محمد لم يكن حاضرًا فيه، لأنه سافر إلى أبين

كما أبلغ علي ناصر محمد مؤيديه بعدم حضور الاجتماع، واستقل سيارته، وغادر العاصمة عدن إلى محافظة أبين، لأنه كان قد علم بأمر التخطيط للإطاحة به وقتله من قبل خصومه الذين كانوا حاضرين في ذلك الاجتماع، فأراد أن “يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به” كما يقول المثل الشعبي

عبد ربه منصور هادي: أحد أهم أسباب حرب الرفاق 1986 في عدن، كان الخلاف حول الطريقة التي يجب أن تتم بها الوحدة اليمنية، حيث انقسم الحزب الاشتراكي اليمني إلى: معسكر يريد الوحدة الفورية ولو عن طريق الحرب ومعسكر آخر يريد الوحدة المتدرجة على مراحل”وفي الموعد المحدد للاجتماع، حضر أعضاء المكتب السياسي من المعارضين لعلي ناصر، ولم يحضر الاجتماع أبو بكر باذيب، وعبدالغني عبدالقادر، وأحمد مساعد، وهم أنصار الرئيس، بإيعاز وطلب من علي ناصر

وكإجراء أمني، أرسل علي ناصر محمد سيارته المعروفة، دون أن يكون هو فيها، من أجل التمويه وإيهام خصومه بتواجده

وبالفعل وصلت سيارة الاختبار تتبعها سيارات أخرى تحمل الحراس المسلحين التابعين للرئيس علي ناصر

بعد دخول القيادي في الحزب علي سالم البيض، كان بالقرب من قاعة الاجتماع النقيب مبارك سالم أحمد، قائد الحرس الخاص للرئيس علي ناصر محمد، أما داخل قاعة الاجتماع فكان دخول حسان، وهو أحد حراس الرئيس، يحمل حقيبة علي ناصر، حيث وضعها على الأرض قرب المقعد المخصص له، وبعد أن وضع الحقيبة، وجه الرشاش الذي كان معه إلى ظهر نائب الرئيس علي عنتر، وأطلق عليه النار

وعلى الفور هبط أعضاء المكتب السياسي الآخرون تحت الطاولات، بعد أن سحب كل منهم مسدسه، وأخذوا يطلقون النار على الحارس حسان، وعلى علي أحمد، وهو حارس آخر كان قد دخل إلى القاعة

كما شارك بقية حرس الرئيس في المجزرة التي قُتل فيها صالح مصلح، وعلي شايع، وعلي عنتر، وعلي أسعد مثنى، وعلي صالح ناشر، كما تعرض أفراد حراسات أعضاء المكتب السياسي الذين كانوا خارج القاعة، للتصفية، وبالفعل قُتل غالبيتهم

ونجا من المجزرة عبدالفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، وسالم صالح محمد

وبعد عصر ذلك اليوم، أعلنت إذاعة عدن بيانًا قالت فيه إنه تم إفشال محاولة انقلاب على الرئيس علي ناصر محمد، قادها الجناح المعارض له، وأن الرئيس دفع ثمن تلك المحاولة بمقتل ابنه جمال، وأن المكتب السياسي للحزب الاشتراكي شكل لجنة لمحاكمة الانقلابيين، وأصدر حكمًا بإعدامهم، وتم إعدامهم في حينه

علي ناصر محمد: الكل كان مسؤولًا عن وقوع تلك المجزرة، وأن المخابرات الأجنبية كان لها أيضًا دور في تلك الأحداث، كما أن هناك طرفًا ثالثًا شارك في قصف الجنوبيين (دون الإشارة إلى هوية ذلك الطرفوتزامن وقوع تلك المذبحة مع مذابح مشابهة في عدد من مؤسسات الدولة هناك، راح ضحيتها آلاف المسؤولين والموظفين والمواطنين، وأخذت الحرب طابعًا مناطقيًا بين من يُطلق عليهم “لزمرة”، وهم أنصار الرئيس علي ناصر محمد، والذين يرجعون في انتمائهم المناطقي إلى محافظتي “أبين وشبوة”، وبين من يُطلق عليهم “الطغمة”، وهم أنصار الرئيس علي سالم البيض، والذين يرجعون في انتمائهم المناطقي إلى محافظات ومناطق “الضالع وردفان ويافع”

وامتدت شرارة الحرب لكافة أرجاء مدينة عدن، مستمرة أزيد من عشرة أيام، لتخلف نحو عشرة آلاف قتيل، والآلاف من الجرحى والمعتقلين الذين كانوا في السجون

في فبراير/ شباط 2017، أثار الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، الجدل خلال حديثه في مقابلة صحفية عن الأسباب التي أدت إلى الحرب التي تفجرت في 86، في الجنوب، بين قيادات الحزب الاشتراكي، وقال هادي إن “أحد أهم أسباب حرب الرفاق 1986 في عدن، كان الخلاف حول الطريقة التي يجب أن تتم بها الوحدة اليمنية، حيث انقسم الحزب الاشتراكي اليمني إلى: معسكر يريد الوحدة الفورية ولو عن طريق الحرب، يقوده عبدالفتاح إسماعيل، ومعسكر آخر في إطار الحزب يقوده علي ناصر محمد، يريد الوحدة المتدرجة على مراحل”

في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2021، ظهر حيدر أبو بكر العطاس، خلال لقائه في برنامج تلفزيوني، للحديث عن مجزرة 13 يناير 1986

العطاس كان في تلك الحقبة يشغل منصب رئيس الوزراء، وأثناء وقوع تلك المجزرة كان مسافرًا إلى الهند، أدلى العطاس بشهادة لم يسبق أن تحدث بها، إذ اتهم الرئيس علي سالم البيض بتورطه بمقتل الرئيس عبدالفتاح إسماعيل الذي كان قد نجا من القتل خلال مجزرة المكتب السياسي

وقال العطاس في شهادته إن “عبدالفتاح إسماعيل خرج سالمًا من إطلاق النار الذي وقع في اجتماع المكتب السياسي، حيث فر راجلًا، ومن ثم ركب على ظهر دبابة، وتوجه معه أشخاص موالون للبيض، وقاموا بتصفيته بأوامر من الأخير”

مشيرًا إلى أن “الدافع لتورط البيض بتصفية عبدالفتاح، هو شغف البيض بالسلطة وإزاحة عبدالفتاح الذي كان منافسًا له”

علي سالم البيض: ملف الماضي أغلق، ولا نريد العودة إليه، والتصالح الجنوبي هو مظلة للجميع، والشعب الجنوبي قد أمضى في استعادة دولته شوطًا كبيرًا، ولن يعود للدائرة الأولى حتى ولو كان يُخطط لذلك وتُنثر أموال هنا وهناك، لن يستطيعوا”

عقب مرور أربعة أيام على اتهامات العطاس، رد البيض عليه بتصريح صحفي قائلًا: “اتهامي بقتل عبدالفتاح محض افتراء، ومدفوع الثمن من قبل جهات تسعى لإعادة الفتنة بجنوبنا الحبيب بين أبناء الشعب الجنوبي الثائر، ولكن سيتجاوزها جميع الشعب الجنوبي بالوعي”

مضيفًا القول: “مقابلة العطاس أتت في توقيت حساس وتماسك جنوبي وحوار جنوبي يسير في طريق التقارب الذي ندعو له منذ ٢٠٠٧، وأن ملف الماضي أغلق، ولا نريد العودة إليه، والتصالح الجنوبي هو مظلة للجميع، والشعب الجنوبي قد أمضى في استعادة دولته شوطًا كبيرًا، ولن يعود للدائرة الأولى حتى ولو كان يُخطط لذلك وتُنثر أموال هنا وهناك، لن يستطيعوا”

في 2022، عاد الرئيس علي ناصر محمد للحديث عن مجزرة يناير 86، عبر برنامج متلفز، قائلًا بأن الكل كان مسؤولًا عن وقوع تلك المجزرة، وأن المخابرات الأجنبية كان لها أيضًا دور في تلك الأحداث، كما أن هناك طرفًا ثالثًا شارك في قصف الجنوبيين (دون الإشارة إلى هوية ذلك الطرف)

“يجب أن تعرف الأجيال الجديدة التاريخ الأسود لمن تورطوا في سفك دماء أبناء الجنوب خلال أحداث يناير 86، بخاصة أن عددًا من القيادات مايزالون على قيد الحياة، وكان من المفترض أن يحالوا للمحاكمة كي ينالوا جزاءهم الرادع، لكن ذلك لم يحدث للأسف”؛ يقول الناشط فايز الشيباني، ويضيف في حديثه لـ”المشاهد”: “يجب على الساسة القائمين على إدارة الملفات السياسية في الجنوب، الاعتبار من الماضي، وألا يكرروا ذات الأخطاء القاتلة، ومنها التمييز المناطقي بين أبناء الجنوب، سواء في الوظائف الحكومية، أو في سلك التجنيد، فالجميع أبناء وطن واحد”

أما الضابط في وزارة الداخلية في عدن قبيل إعلان الوحدة اليمنية وأثناءها، العقيد محسن ناجي، فيرى أن لا جدوى من استرجاع الماضي الأسود في ما يخص أحداث 13 يناير، وغيرها، لأنها أحداث قد عفا عليها الزمن، ولا تمت بصلة للواقع المغاير عنها بشكل تام، لأن شخوصها مختلفون، ومسارها مختلف تمامًا عن الحرب الحاصلة اليوم

ويقول ناجي في حديثه لـ”المشاهد”: “وسائل إعلام تابعة لدول عربية، حاولت في الآونة الأخيرة، أن تستدعي الماضي البغيض، لما من شأنه إثارة الضغائن بين مكونات أبناء الجنوب، وتصوير الوضع في الجنوب اليوم على أنه مشابه للماضي، وهذه المقارنة ليست صحيحة”

ويضيف: “اليوم الجنوبيون مدركون الأخطار والمؤامرات التي تحيط بهم، وهم متوحدون اليوم أكثر من أي وقت مضى”

ليصلك كل جديد