سامي الكاف : المهمة الملحة في اليمن

منذ 9 ساعات

سامي الكاف لا يوجد لدي أدنى شك في أن المشهد الجنوبي في اليمن اليوم يُظهر حركة سياسية وأمنية مضطربة تعيد اختبار حدود الفعل بالقوة في بيئة شديدة الحساسية لا تحتمل مزيداً من الفوضى والتيه، فالمجلس الانتقالي الجنوبي سار خلال الأيام الماضية في مسار فرض أمر واقع في حضرموت والمهرة، متجاوزاً ما تقتضيه طبيعة المرحلة الانتقالية من احتكام لمؤسسات الدولة وما تم الاتفاق عليه في مؤتمر المشاورات اليمنية في الرياض ولإعلان نقل السلطة، وهذا المسار يتبدى لي أقرب إلى محاولة لترسيخ حضور جغرافي – عسكري تُبنى عليه مطالب سياسية لاحقاً، ولو تعارض ذلك مع متطلبات الاستقرار

في الواقع لا يخفي المجلس الانتقالي الجنوبي عدم اكتراثه بتداعيات استخدام السلاح لتوسيع نفوذه، والسلوك المستمر على الأرض يشي بأن حسابات المجلس لا تأخذ بالاعتبار التوتر المجتمعي المتنامي، ولا ما يمكن أن ينجم عن تعريض المحافظات الهادئة لارتدادات أمنية هي في غنى عنها، بل الجميع في غنى عنها، بهذا المعنى يبدو الانتقالي وكأنه يتحرك وفق مقاربة تعتبر القوة أداة تفاوض لا أداة دفاع

في هذا السياق - الشديد الخطورة - تبرز داخلياً ثلاثة تداعيات مباشرة لهذا النهج:الأول: تعريض وحدة القرار الأمني في الشرعية المعترف بها إقليمياً ودولياً للاهتزاز العنيف الذي قد يؤدي إلى انهيارها، وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه مرحلة انتقالية هشة

الثاني: فتح الباب أمام فرز اجتماعي خطر غير معلن، خصوصاً في محافظات تنظر إلى الدولة بوصفها الضامن الوحيد لتوازن القوى

الثالث: تهيئة بيئة تجعل الاحتكام للسلاح خياراً متاحاً في كل منعطف سياسي، بما يفقد العملية السياسية معناها وجدواها في آن

أما خارجياً، فإن فرض سلطة الأمر الواقع، في تصوري، يشوّش على صورة اليمن كدولة قادرة على الالتزام بتعهداتها، ويخلق انطباعاً بأن الساحة اليمنية لا تزال تُدار بمنطق القوى المتدافعة لا منطق الدولة

وهذا في اعتقادي يقوض الثقة الدولية بأي خطوات مقبلة نحو تسوية شاملة استناداً إلى عملية سياسية تقوم على حوار، لأن تعدد مراكز القرار يمثل تحدياً مباشراً لأي جهود سلام تحت سقف شرعية الدولة

وتزداد المفارقة وضوحاً حين تنتقل قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي بين اللقاءات السياسية في قصر معاشيق في العاصمة عدن، باعتبارها عاصمة للجنوب العربي وليست عاصمة موقتة للجمهورية اليمنية، وبين عمليات عسكرية في ساحات يفترض أنها تحت مظلة الدولة، والدولة هنا ليست غير الجمهورية اليمنية، إنها ببساطة شديدة ازدواجية تجمع بين الخطاب السياسي عالي السقف والممارسة الميدانية التي تستند إلى قوة السلاح، في وقت تحتاج البلاد إلى قدر ما من الانضباط المؤسسي

يحدث هذا كله في ظل صمت حكومي لافت ومريب في آن، وهو ما يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، ليس الصمت، كما أرى، مجرد غياب تصريح، إنه غياب موقف في لحظة تتطلب وضوحاً

تأملوا معي التالي من فضلكم: في ذروة أحداث حضرموت والمهرة كان حساب وزير دفاع الجمهورية اليمنية في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك يظهر صوره يتبادل الهدايا التذكارية في القاهرة مع نظيره المصري، في حين توارى رئيس هيئة الأركان عن الأنظار تماماً مثلما فعل غالب المحيطين برئيس مجلس القيادة الرئاسي وأعضاء الحكومة وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء

ونشرت رئاسة هيئة الأركان بتاريخ الـ12 من ديسمبر (كانون الأول) بياناً قالت فيه إنها نعت شهداء الوطن الأبطال من منتسبي المنطقة العسكرية الأولى، الذين ارتقوا أثناء أداء واجبهم الوطني والدستوري، دفاعاً عن أنفسهم ووطنهم، في مواجهة اعتداءات مجاميع تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، وأكدت في البيان الذي نشرته وكالة (سبأ) الحكومية أن هذا الهجوم ليس له أي مُبرر قانوني أو شرعي، ويهدف إلى زعزعة الأمن والسلم في محافظة حضرموت الآمنة والمستقرة وتهديد استقرار المناطق المحررة، وفرض أمر واقع يقوض العملية السياسية ويقفز على المرجعيات الوطنية

في مقابل ذلك، يقف الشارع أمام انطباع بأن الحكومة وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي غير المنتسبين للانتقالي عاجزون عن إدارة الموقف، أو مترددون في حماية موجبات المرحلة الانتقالية، أو الذهاب أبعد من ذلك كما في وصف ما حدث في حضرموت والمهرة على نحو مغاير لما حدث على الأرض، إذ قال عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق محمد عبدالله صالح ما حدث شرقاً عبارة عن إعادة ترتيب لمسرح العمليات

والاستثناء الواضح في هذا السياق المحتقن، المشار إليه أعلاه، هو موقف رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، الذي عبّر بوضوح - كما أوضحتُ في مقالي الأخير في اندبندنت عربية - عن أن أي مشروع ينهض بقوة السلاح سيفتح الباب لمشاريع مماثلة، وأن الانزلاق إلى منطق القوة سيعيد إنتاج الصراع، هذا الموقف يمثل الحد الأدنى من حماية مفهوم الدولة، ويؤكد أن استقرار اليمن لا يمكن أن يُصاغ تحت تهديد السلاح

لكن ما يعزز الإرباك، في اعتقادي، ليس فقط غياب مواقف مماثلة من بقية أعضاء المجلس، بل ومن مستشاري رئيس مجلس القيادة الرئاسي، وهو ما ينعكس على صورة التماسك داخل مؤسسة يفترض أنها تقود البلاد في مرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد، هذا الغياب لا يقدم رسائل طمأنة، بل يفتح المجال أمام تأويلات قد تشجع مزيداً من التمدد خارج مؤسسات الدولة

وإزاء هذا الفراغ، يصبح احتمال الاحتكاك العسكري أمراً غير مستبعد، خصوصاً إذا استمر كل طرف في قراءة المشهد بمعزل عن مقتضيات الشراكة الانتقالية

ومثل هذا السيناريو الخطر سيكون مكلفاً للجميع، وسيعيد رسم خطوط تماس جديدة في مناطق يُفترض أنها تجاوزت منطق المواجهة منذ أعوام

وسط هذا المشهد المعقد، يبرز الدور السعودي بوصفه أحد أهم العوامل التي تمنع تفكك الساحة اليمنية إلى مستويات أدنى من الفوضى

فالسعودية، بما تملكه من ثقل سياسي وتأثير مباشر، دفعت باتجاه التهدئة وحالت دون تطور الأحداث إلى مواجهة مفتوحة، مؤكدة أن الاستقرار في اليمن ليس هدفاً تكتيكياً، بل خياراً استراتيجياً ثابتاً في سياستها الإقليمية

في الواقع، تبرز السعودية، على نحو واثق، كعامل توازن منع انزلاق الأوضاع إلى ما هو أسوأ، فموقف الرياض، المتسق في دعمه لاستقرار اليمن، كان حاسماً في التذكير بأن أي تغيير على الأرض يجب أن يتم عبر القنوات السياسية لا عبر القوة، وهذه مقاربة ثابتة في السياسة السعودية تجاه اليمن: حماية المدنيين، وضبط الإيقاع الأمني، ومنع تحول التوترات الموضعية إلى صراع شامل

أكثر من ذلك، شددت القيادة السعودية عبر رئيس وفدها إلى حضرموت اللواء محمد بن عبيد القحطاني على ضرورة إعادة الأوضاع في حضرموت والمهرة إلى ما قبل التصعيد، وسحب قوات المجلس الانتقالي من مراكز التوتر، حفاظاً على وحدة القرار الأمني ومنعاً لاستخدام القوة لفرض أجندات سياسية

هذا الموقف الراسخ، في اعتقادي، يعيد التأكيد على أن الأمن ليس ورقة تفاوض، بل هو أساس تُبنى عليه أي تسوية سياسية

فضلاً عن ذلك، لا تتعامل الرياض مع مطالب الجنوبيين بمنطق التجاهل، بل تنظر إليها بوصفها جزءاً من المعادلة الوطنية الشاملة

فتمكين الجنوبيين سياسياً، وضمان مشاركتهم في أي عملية تفاوضية، يمثلان ركناً أساساً في جهود السعودية، وقد دفعت الرياض باتجاه إشراك مختلف المكونات الجنوبية في الوفود الحوارية بما في ذلك بالطبع مؤتمر المشاورات اليمنية في الرياض، أبريل (نيسان) 2022، إيماناً منها بأن أي إقصاء لأي طرف سيُنتج تسوية ناقصة وسلاماً هشاً

وقد كنت أكدت في تصريح نشرته وسائل إعلام محلية قبل أعوام عدة من الآن بأنه لا يمكن أن نصل إلى حل سياسي شامل ومستدام في اليمن من دون المرور عبر البوابة الجنوبية، فحرب 1994 تسبق الحربين الأخيرتين معاً: (انقلاب) الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2014 وحرب مارس (آذار) 2015

بهذا المعنى الموضح أعلاه، تجمع السعودية بين حماية المسار السياسي ومنع الانفلات الأمني في مقاربة واحدة: ضبط الصراع من دون كبت المطالب، وفتح الطريق أمام حل يقبل به الجميع بما يحقق العدالة ويحمي حقوق المواطنين ويصون وحدة النسيج الاجتماعي، وهي مقاربة تمنح الأطراف كافة فرصة لإعادة ترتيب أولوياتها الوطنية بما يدل على قدرتها على تحمل مسؤولياتها

مع ذلك، فإن تجاوز المرحلة الحالية يتطلب إرادة محلية واضحة تعود إلى وثيقة إعلان نقل السلطة بوصفها الإطار الذي يستمد منه مجلس القيادة الرئاسي والحكومة شرعيتهما، فالوثيقة لم تكن مجرد إعلان، بل صياغة متكاملة لمسار يُفترض أن يحكم سلوك الأطراف السياسية كافة، ويمنع أي طرف من الانفراد بقرار يغير طبيعة المعادلة، على طريق التهيئة لخوض المرحلة التالية، إنها المهمة الملحة الآن التي ينبغي العمل على إنجازها بأسرع وقت ممكن، حتى وإن تبدت مستعصية

إن التعامل مع تعقيدات الواقع يستلزم أكبر قدر ممكن من ضبط النفس، والتعامل مع هذه التعقيدات بقدر لازم من الحكمة، حكمة تقود في نهاية المطاف إلى مشروع وطني جامع، لا يستثني أحداً، ولا يكرر أخطاء الماضي، ولا يسمح لأي طرف أن يضع مصير البلاد رهينة حساباته الخاصة، مشروع جامع يتسع للاختلاف من دون أن يتفكك، ويستوعب التعدد من دون أن ينفجر، فالدولة، في اعتقادي، لا تُبنى بفرض الوقائع ولا بالصمت الرسمي، بل بمواقف صريحة تضع حدود القوة، وتعيد الاعتبار للقانون، وتُبقي الباب مفتوحاً أمام تسوية عادلة ومستدامة تحفظ اليمن من منزلق جديد هو في غنى عنه