سامي الكاف : عن القوة المفقودة: كيف السبيل إلى الدولة الجامعة في اليمن؟
منذ 7 ساعات
سامي الكاف أعتقد أن الدولة ليست مفهوماً إدارياً قابلاً للتعليق أو التفاوض، بل فكرة سيادية جامعة لا تبنى إلا على قاعدة الحق والعدالة، ولا تحمى إلا بقوة قادرة على ردع نقيضها
وانقلاب الحوثية على الدولة في الجمهورية اليمنية لم يكن مجرد تمرد مسلح، بل مشروعاً انقلابياً يسعى إلى هدم فكرة الدولة الوطنية من أساسها، واستبدالها بسلطة قامعة، وتؤسس لحكم طائفي مغلف بخطاب ديني زائف
في الواقع تحولت هذه الجماعة إلى نقيض لفكرة الدولة الوطنية، لا بتجاوزها للمؤسسات فحسب، بل بإعادة تعريفها من منطلق الحق الإلهي المزعوم، لا من منطلق الإرادة الشعبية الجامعة
إن الأزمة اليمنية، بعد أكثر من عقد على انقلاب الحوثيين، لم تعد في تصوري مجرد حالة صراع داخلي عادي أو عابر، بل باتت مشروعاً انقلابياً مكتمل الأركان، يسعى إلى إعادة صياغة الدولة والمجتمع، وفق رؤية ثيوقراطية بحتة تنفي التعدد
هذا المشروع، القائم على العنف والهيمنة، فرض واقعاً خانقاً يتجاوز حدود الجغرافيا اليمنية ليهدد بنية الدولة الوطنية ويزعزع استقرار الإقليم
لذلك يصبح الحديث عن استعادة الدولة ليس ترفاً سياسياً، بل استحقاقاً وطنياً مصيرياً يستوجب مواجهة شاملة تعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الجامعة والعادلة، فكيف السبيل إليها؟مرور نحو 11 عاماً منذ انقلاب الحوثية على الدولة بقوة السلاح في الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2014، فترة زمنية طويلة بلا شك، وتكشف بوضوح عن عمق المأزق الذي وضعت فيه هذه الميليشيات البلاد تحت هيمنتها الحديدية، إذ تواصل القمع والبطش الممنهج في حق كل من يعارضها، أو حتى من تسول له نفسه التفكير في كيفية الخلاص منها
في الواقع لم تكن الأعوام الماضية سوى مسار متدرج لبناء سلطة ثيوقراطية وفق نظام ولاية الفقيه، تسعى الميليشيات من خلاله إلى إعادة تشكيل بنية المجتمع والدولة على أسس لا وطنية تتناقض جذرياً مع فكرة الدولة الوطنية الجامعة
المفارقة المريرة هنا أن الجهة المناط بها استعادة الدولة، وهي الحكومة الشرعية المعترف بها إقليمياً ودولياً، لم تنجح حتى اللحظة في إنجاز المهمة الجوهرية التي وجدت من أجلها، وليس مرور 11 عاماً إلا دالة على هذا الإخفاق
إن الواقع يشير إلى أن هذه الحكومة، على رغم شرعيتها المعترف بها، ظلت أسيرة اعتبارات معقدة وشائكة، تتراوح بين قصور أدواتها الذاتية وتناقض أهداف الكيانات التي تتشكل منها أو تشكل هذه الحكومة، فضلاً عن حسابات إقليمية ودولية زادت المشهد تعقيداً، وكلها مجتمعة حالت دون استعادة الدولة
ولسائل أن يسأل باحثاً عن إجابة لسؤال اللحظة وكل لحظة: كيف السبيل إلى استعادة الدولة أخيراً؟قبل ستة أعوام ماضية وتحديداً عام 2019 كتبت التالي: كل حركة قامعة لا تقمعها إلا حركة أخرى، وفق قانون لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وهو ما يعني - بلا مواربة - أن أمر استعادة الدولة لا يمكن أن يجري بغير قوة مسلحة واحدة موحدة قادرة على القيام بما عليها القيام به بما يكفي ويلزم لإنجاز هذا الأمر
ليس هذا مجرد استنتاج نظري، بل تؤكده تقارير رسمية ذات صدقية، ومنها التقرير الصادر عن فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الدولي أواخر 2020، الذي خلص إلى أن الاقتتال الداخلي والمصالح المحلية والإقليمية والتنافس على الموارد بين مختلف القوى المناهضة للحوثيين يحول دون وجود جبهة موحدة ضدهم
هذه الخلاصة تضعنا أمام حقيقة مرة: غياب وحدة القرار السياسي والعسكري لدى الأطراف المناهضة للحوثيين، يمثل العقبة الأكبر أمام استعادة الدولة
ومع ذلك لا يمكن إغفال مؤشرات إيجابية عملت على وقف الاقتتال الداخلي المذكور أعلاه، مما أدى إلى استقرار عسكري ملاحظ على الأرض في ما يعرف بالمناطق المحررة بعد إعلان نقل السلطة من رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، وأسفر عن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في السابع من أبريل (نيسان) 2022 برئاسة رشاد العليمي، وسبق لي أن كتبت في الذكرى الثانية لتشكيل هذا المجلس أن صموده لعامين من دون انفراط عقده يعد أمراً إيجابياً على رغم كل التحديات، وهو ما يستدعي دعم هذا المسار بما يتوافق مع نص إعلان نقل السلطة، وترسيخ مفهوم الفصل الواضح بين مهمات المجلس الرئاسي كقيادة سياسية ومهمات الحكومة (رئاسة الوزراء) كجهاز تنفيذي، حتى لا تتحول الشرعية نفسها إلى عبء إضافي على مشروع استعادة الدولة
لكن الرهانات إقليمياً ودولياً على تدخل خارجي لمعالجة المعضلة الحوثية تبدو رهانات قاصرة، فالدراسات الحديثة، ومنها دراسة لمنتدى الشرق الأوسط الأميركي، تشدد على أن الاكتفاء بالاعتماد على القوات العسكرية الأميركية أو قوات الحلفاء لم يحقق نتائج مستدامة، وتدعو إلى تمكين الجيش اليمني بالقدرات التي تجعله قادراً على مراقبة وردع وضرب قوات الحوثيين بصورة مستقلة
هذه المقاربة الواقعية تنطلق من إدراك عميق لطبيعة تكتيكات الحوثيين غير المتكافئة، التي تستدعي استراتيجية دفاع متعددة الطبقات، تبدأ من امتلاك منظومة دفاعية وهجومية متكاملة تشمل أنظمة الصواريخ والطائرات والقوة البحرية والاستخبارات الميدانية والقوات الخاصة
بعبارة أخرى أكثر دقة باتجاه الحسم: يجب أن تكون لدى الجيش اليمني القدرة الكاملة على المراقبة والردع وتوجيه الضربات ضد قوات الحوثيين ذاتياً، من دون الاعتماد على التدخل الغربي في كل مرة تصعد فيها طهران
والمماطلة في الحسم، تحت أية ذريعة كانت، لا تعني في اعتقادي سوى مزيد من تمكين الحوثية كأمر واقع، وهو ما يمثل خطراً وجودياً على الدولة اليمنية بمفهومها الوطني الجامع، وعليه فإن خوض المواجهة الوطنية المصيرية لاستعادة الدولة يظل خياراً لا بد منه ولا مفر
إن استمرار الوضع الراهن، حيث تكتفي الحكومة الشرعية بسياسة رد الفعل وتظل رهينة توازنات تأبى أن تكون كتلة وطنية واحدة موحدة تتوافق مع روح ونص إعلان نقل السلطة، لن يؤدي إلا إلى مزيد من إطالة أمد الانقلاب الحوثي (وفقاً لـديفانس لاين، نقلاً عن مصادر يمنية، فإن الميليشيات الحوثية قامت خلال الأسابيع الماضية بنقل صواريخ ومنصات إطلاق ومنظومات طائرات مسيرة ومعدات توجيه إلى محافظتي الحديدة وحجة والمناطق الغربية في ريمة وذمار والمحويت وإب، وفي المناطق الغربية الخاضعة لسيطرة الجماعة بمحافظة تعز، ونقلت بطاريات صواريخ وأنظمة رادارية إلى مواقع قريبة من مدينة وميناء الحديدة والكثيب ومناطق بالتحيتا والصليف ورأس عيسى وعبس وميدي شمالاً
كما أعادت الجماعة نشر أصول بحرية وجوية في مواقع حيوية بالمرتفعات الجبلية الاستراتيجية المطلة على مياه البحر الأحمر وباب المندب، في حين تشير معلومات إلى أن الحوثية تواصل منذ بضعة أشهر ماضية حشد مقاتليها في عدد من الجبهات)
إن معركة استعادة الدولة ليست خياراً سياسياً تكتيكياً، بل استحقاقاً وطنياً مصيرياً لا يقبل التأجيل أو المراوغة، فمشروع الحوثية مشروع شمولي مدمر يهدد ليس اليمن وحده، بل ويهدد استقرار الإقليم بأسره، ولا يمكن إسقاطه إلا عبر مشروع وطني جامع، مدعوم بقوة مسلحة حقيقية تمتلك الإرادة والقدرة على المواجهة والحسم
في الواقع إن استعادة الدولة ليست مجرد استحقاق سياسي مؤجل، بل هي امتحان لجوهر المعنى نفسه: هل نقبل بدولة تحكمها الميليشيات باسم الحق الإلهي، أم ننتصر لفكرة الدولة بوصفها عقداً وطنياً جامعاً لكل الناس بلا استثناء أو تمييز، ويحتكم إلى الإرادة الحرة لا إلى الوصاية؟ فالحسم هنا لا يعني فقط إنهاء الانقلاب، بل كسر وهم أريد له أن يتحول إلى واقع دائم، إذ لا بقاء لوطن تحكمه سلالة، ولا مستقبل لشعب تختزل سيادته في فوهة بندقية، لذلك فإن مواجهة المشروع الحوثي ليست معركة عسكرية فقط، بل معركة وعي وهوية ووجود، لا تحتمل الحياد، ولا تقبل التأجيل
نقلا عن اندبندنت عربية