سامي الكاف : يمن بلا سقف... حين تتحول الدولة إلى منصة تهديد إقليمي

منذ 5 ساعات

سامي الكاف أتصور أن الأزمة في اليمن ليست مجرد نزاع سياسي عالق بين أطراف محلية، بل هي تجل مأسوي لفقدان الدولة كمعنى، وانهيارها كضامن للسيادة الوطنية في وجه مشاريع عابرة للحدود

في قلب هذا الانهيار، لا تقف الحوثية بوصفها طرفاً داخلياً ينازع الشرعية، بل كامتداد عضوي لمنظومة إيرانية تسعى إلى إعادة هندسة الجغرافيا وفق خرائط النفوذ لا وفق منطق الانتماء

وعليه، فإن كل شحنة سلاح، وكل خلية خبراء، وكل قصف ينفذ من عمق الأرض اليمنية، ليس سوى برهان متكرر على أن الدولة حين تغيب، لا يملأ فراغها سوى نسخ مشوهة تتكلم باسمها، وتدير خرابها، وتحولها إلى منصة لحروب الآخرين

إنها، ببساطة شديدة، لحظة فارقة تفرض سؤالاً وجودياً بلا أدنى شك: هل لا يزال ممكناً استعادة اليمن كدولة؟ أم أننا صرنا نعيش على حافة وطن يعاد إنتاجه كتهديد، لا كملاذ؟دعوني أدخل في صلب الموضوع مباشرة: أعتقد أن الأسلحة ليست هي ما يشكل الخطر الأكبر حين تتدفق إلى أرض منكوبة بالحرب، بل الفكرة التي تحملها هذه الأسلحة في داخلها، كأنها رسائل موقعة بالدم لا تحتاج إلى ترجمة

حين أعلنت قوات المقاومة الوطنية في اليمن عبر قائدها عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق محمد عبدالله صالح في تغريدة نشرها في حسابه في موقع التواصل الاجتماعي إكس عن ضبط شحنة أسلحة إيرانية ضخمة كانت في طريقها إلى الميليشيات الحوثية، بدا أن المشهد لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان كاشفاً، إذ لا جديد في أن إيران تزود وكلاءها بالسلاح، لكن الجديد هو هذا الإصرار الوقح على تكريس اليمن، ليس كساحة حرب فحسب، بل كبنية هجومية إيرانية كاملة تتشكل على مرأى من العالم وصمته

تقول الرسالة بوضوح تام: نحن أمام نظام إيراني مارق حد الوقاحة، لم تكن هذه الشحنة عادية في حجمها ولا في نوعيتها

أكثر من 750 طناً من العتاد الحربي المتطور: صواريخ كروز مضادة للسفن، وصواريخ أرض - جو، ورؤوس حربية، وطائرات مسيرة هجومية، ومنظومات توجيه دقيقة، ومحركات طائرات من دون طيار، ورادارات كشف وتتبع، وأجهزة اتصالات مشفرة، وصواريخ موجهة مضادة للدروع، ومدفعية، وبنادق قنص طويلة المدى، وذخائر متنوعة، بل ودليل تشغيل بالفارسية

لم تكن مجرد أدوات قتل، بل ملامح مشروع كامل

مشروع لا يقوم على مجرد السيطرة أو النفوذ، بل على هندسة الصراع بحيث يصبح مستداماً، دائم الاشتعال، لا يسدل عليه الستار إلا لكي يفتح من جديد

 في اعتقادي هذا النوع من التسليح لا يستخدم في الدفاع، بل في خلق واقع جديد

واقع يدار من طهران وينفذ عبر الحوثيين، وترسم خرائطه على مقاييس الحرس الثوري الإيراني، لا على حاجة اليمنيين إلى السلام

إنها الأسلحة ذاتها التي قصفت قرى ومدناً يمنية، واستهدفت منشآت نفطية في دول الجوار، وضربت السفن التجارية في البحر الأحمر وباب المندب، وصولاً إلى حادثة غرق السفينتين MAGIC SEAS وETERNITY C ومقتل وفقدان عدد من طاقميهما

هذا المشهد الصادم والمحبط في آن لم يعد معزولاً في جغرافيا محلية، بل صار جزءاً من تهديد ممرات التجارة العالمية، وأمن الطاقة، وسلاسل الإمداد الدولية

وكل ذلك باسم قضية مختلقة، ولخدمة مشروع إمبراطوري متهالك، يحاول عبر حروبه بالوكالة تعويض ما خسره في بيروت ودمشق

إن التمادي الإيراني في استثمار اليمن كمنصة متقدمة للابتزاز الجيوسياسي، لا يعبر عن عبقرية استراتيجية بقدر ما يعكس غياب الردع، فحين تنجح طهران في تمرير هذا الحجم من السلاح، مع الأدلة التقنية والبشرية على وجود خبرائها في الميدان، من دون رد حازم وحاسم، فهي تعيد تعريف الممكن في النظام الدولي نفسه

إن صمت العالم لا يمنح الحوثية قوة مضافة فحسب، بل في اعتقادي يفتح لإيران مجالاً رحباً لإعادة تموضعها في قلب شبه الجزيرة العربية، كفاعل تخريبي قادر على تهديد العالم من خاصرته الأضعف

في هذه المعادلة، لم تعد الحوثية في تصوري طرفاً في نزاع داخلي، بل تحولت إلى بنية عسكرية متقدمة يديرها الحرس الثوري الإيراني، وتمول من تجارة الحرب، وتشرعن وجودها عبر خطاب ديني زائف، وتسلح بأسلحة نوعية موجهة ضد اليمنيين أولاً، ثم ضد جوارهم والعالم ثانياً

هذا ليس توصيفاً عاطفياً، بل استقراء موضوعي لحقيقة تتكرس يوماً بعد يوم على الأرض

وإزاء هذا الواقع، فإن بقاء الوضع كما هو عليه ليس حياداً كما أرى، بل مشاركة سلبية في إعادة إنتاجه

لأن تجاهل خطورة هذا التحول يعني، في المحصلة، التسليم بتحول اليمن من دولة غائبة إلى قاعدة صاروخية ثابتة

وكل تأخير في استعادة الدولة هو عملياً وقت إضافي ممنوح للمشروع الإيراني ليترسخ ويتحور، فالدولة ليست شعاراً سياسياً مجرداً، بل الملاذ الآمن الذي يمكن أن يحول دون تحويل اليمن إلى كيان وظيفي تخريبي تابع للخارج

وحين تنهار الدولة، لا تسقط المؤسسات فقط، بل يعاد تشكيل وعي المجتمع على يد من يحتكر السلاح ويصادر الكلمة ويحتكر الحقيقة

إن المعركة في جوهرها لم تعد بين الحكومة والانقلابيين فحسب، بل بين اليمن واليمن المؤمم لصالح طهران، بين الفكرة الوطنية الجامعة والفكرة السلالية الإقصائية، بين السيادة والتبعية، بين الأرض باعتبارها وطناً، والأرض باعتبارها منصة لإدارة الحرب نيابة عن نظام خارج الحدود

لذلك فإن الموقف المطلوب ليس مجرد استنكار دبلوماسي من الجهة المنوط بها استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح، أو كتابة سلسلة تغريدات في مواقع التواصل الاجتماعي ومن ثم الجلوس على مقاعد المتفرجين، بل تحرك فعلي متعدد المستويات

كما أن دعم الحكومة الشرعية ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي في معركة استعادة الدولة، لم يعد خياراً ضمن سلة الاحتمالات، بل ضرورة تاريخية تمس جوهر الأمن الوطني والإقليمي والدولي

فضلاً عن ذلك أرى أن الموقف الدولي لم يعد يحتمل المواربة، يجب وقف الدعم الإيراني للحوثيين، وفرض رقابة صارمة على تهريب الأسلحة والخبراء، وملاحقة الشبكات المتورطة، وفرض عقوبات فعالة، والمضي في تصنيف الحوثية كجماعة إرهابية من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وسائر الفاعلين الدوليين مثلما فعلت من قبل الولايات المتحدة ومعها دول عدة

اليمن لا يحتاج إلى بيانات شجب، بل إلى اعتراف صريح بأن استمرار الحوثية في وضعها الحالي هو تهديد وجودي، ليس لليمن وحده، بل للمجتمع الدولي

إنه تهديد للبنية الدولية ذاتها، حين تترك جماعة طائفية مدعومة من نظام يتحدى القانون الدولي، لتسيطر على ممر بحري يعد شرياناً حيوياً للعالم

أكرر على نحو واضح لا يحتمل اللبس: إن استعادة الدولة ليست خياراً محلياً محدود الأثر، بل ضرورة استراتيجية لإنهاء حال الفوضى وإعادة توجيه المسار نحو سلام شامل وعادل ومستدام لا يقوم إلا على أنقاض المشاريع التي تصنع من الحرب مهنة، ومن الطائفة دولة، ومن الدين وسيلة للهيمنة

وفي اللحظة التي يختلط فيها السلاح بالمعتقد، وتدمج الجغرافيا في خرائط غير وطنية، فإن التهاون ليس حياداً، بل انحياز ضمني للفوضى

واليمن، في جوهره، لم يكن يوماً ساحة للفرز الطائفي على هذا النحو المدمر للنسيج المجتمعي، بل وطناً جامعاً بطبيعته، لا يمكن إعادة بنائه إلا باستعادة فكرته الكبرى: الدولة

نقلا عن اندبندنت عربية