سعيد المذحجي.. الفقيه الثائر الذي أرعب الأئمة وصلبته الإمامة في "الدنوة"

منذ 5 ساعات

عبر قرون من الهيمنة، استباحت الإمامة الزيدية في اليمن دماء وأموال السواد الأعظم من أبناء الشعب اليمني، متذرعةً بأن ذلك جهاد في سبيل الله

لم يكن ذلك فقط حكمًا سياسيًا، بل عقيدةً صريحة نسجت عبر فتاوى التكفير والتشنيع على كل من رفع رأسه مطالبًا بالكرامة أو العدالة

في قلب هذا الظلم، بزغ نجم رجلٍ صوفي، فقيه، قائد، ومُلهم، عرف باسم سعيد بن صالح بن ياسين العنسي المذحجي، وسُمي لاحقًا بـصاحب الدنوة

هذا الرجل الذي ملأ القلوب أملًا، وملأ صدور الأئمة خوفًا، قررت السلطة الإمامية أن تلصق به لقب سعيد اليهودي، متهمةً إياه بالشعوذة وادعاء المهدوية

ولم تكتفِ بذلك، بل شيطنته على ألسنة فقهائها، وحرّضت القبائل على دمه، فسفكوه

قال عنه أحد مؤرخي البلاط: أكبر أهل الطغيان، شق عصا المسلمين، وتبع هواه وعصى، وصارت البلاد جميعها جندًا للباغي الطاغي سعيد، واصفًا ثورته بـالفتنة، ومريدوه بـالمارقين

لكن سعيد لم يكن طاغية، بل ثائرًا قادته التقوى إلى الاصطدام بالظلم

قرية الدنوة

من محراب الزهد إلى مركز الثورةاعتكف سعيد أربعين عامًا في قرية الدنوة التابعة لمحافظة إب، متبتلًا في زاويته، يُحيي موالد الذكر ويجمع الناس على الدين والحق

قصدته الجموع من أنحاء اليمن، فكان ملاذًا للضعفاء، ومصلحًا بين الناس، حتى صار له مريدون وأتباع ومكانة روحية كبيرة

في ظل الإمامة القاسمية، التي استباحت البلاد ووزعت أراضي اليمن الأسفل للقبائل الشمالية الغازية، تفشى القهر والنهب، وغرقت البلاد في ظلمة الجباية والإقطاع، حتى عم الخوف وسُدت السُبل

عندها، أعلن سعيد بن صالح الثورة، وأعلن نفسه إمامًا للشرع المطهر، وبدأ بتحرير الحصون، واستعادة الأراضي المغتصبة من قبائل النهب

سعيد الثائر

يعلن الدولة في اليمن الأسفلفي العام 1256هـ (1840م)، وقف سعيد في جامع الجند خطيبًا، ودعا اليمنيين لنصرته

لم تكن دعوته مجرد وعظ، بل ثورة حقيقية انتزعت أكثر من 360 حصنًا من أيدي القبائل الموالية للإمامة، ونصّب الولاة، وضرب العملة الفضية باسمه، وخُطب له على منابر تعز، وإب، وزبيد، وعدن

امتدت سلطته من زبيد غربًا إلى يافع شرقًا، وأصبح حصن الدنوة مركز دولته الوليدة، بينما كانت الإمامة القاسمية تتهاوى، وقد توفي إمامها الأقوى، المهدي عبدالله بن المتوكل، وانفرط عقدها

صراع مع الإمامة

وملحمة في نقيل سمارةتوجه سعيد إلى يريم، وسانده رؤساء محليين كحسين يحيى عباد وعبدالله بن مثنى فاضل

حين علم الإمام الهادي محمد بن المتوكل بتحركاته، خرج من صنعاء إلى ذمار فصام رمضان هناك، ثم توجه إلى يريم، وراسل الفقيه الثائر

سعيد، الذي كان قد أسر بعض زعماء قبائل ذي محمد في بداية ثورته، عفا عنهم وضمهم إلى جيشه، فحاصروا الإمام الهادي في يريم، وكاد أن يُسقطه، لولا خيانة قادة القبائل الذين أطلق سراحهم سابقًا

قاد الخيانة النقيب حسين بن سعيد أبوحليقة وعلي بن علي الهيال، فأسرا مقادمة جيش الفقيه، وانقلبت الكفة

تقهقر جيش الفقيه، ودارت معركة دموية عند نقيل سمارة، انتهت بانهيار الثورة

النهاية الدامية

والصلب في إبلاحق الإمام الهادي الفقيه سعيد حتى قريته في الدنوة، حيث أسره، ثم أمر بجلبه إلى مدينة إب، وهناك أُعدم الفقيه الثائر، وصُلب جسده في مشهد دموي أراد منه الأئمة أن يكون عبرةً، لكنه تحوّل إلى رمز

فقيه تقياً أم ساحر يهودي؟اتهمته الإمامة بالسحر والزندقة وعبادة الحسان من النساء والمردان، كما جاء في فتاوى الإمام القاسم التي حرّضت على قتله وقتل أتباعه، بل واعتبرت من أحسن إليهم كافرًا

لكن التاريخ حفظ للفقيه سعيد صورته كعالم متصوف زاهد، اختار أن يقاتل من أجل كرامة الفلاحين وأبناء الأرض، ضد ظلم القبائل الغازية وتسلط أئمة الجباية

من التاريخ إلى الأسطورةاليوم، بعد قرنين من استشهاده، لا يزال اسم الفقيه سعيد المذحجي حيًا في ذاكرة اليمنيين

رجلٌ من عامة الشعب، لم تدفعه شهوة الحكم بل واجب الدفاع عن المستضعفين

ثار، حَكَم، ثم قُتل، لكن ظلاله لا تزال تخيم على أسئلة التاريخ اليمني: كيف حُكم الناس باسم الدين، وكيف ثاروا على من ظلمهم باسمه؟إنها قصة ثورة لم تكتمل

لكنها لن تُنسى