عادل الأحمدي : علماء صنعاء المجددون.. مُقدمة النَاشر
منذ 9 ساعات
عادل الأحمدي بدايةً، أشكر الباحث والمُؤرّخ بلال الطيب على هذا المجهود الطيِّب في هذا الكتاب الّذي يُعَدّ خلاصة كتبٍ مهمّةٍ جدًّا تتحدّث عن صفحةٍ مضيئةٍ من نضال اليمنيّين ضدّ الإمامة
هذه الصّفحة يمكن تلخيصها بالحكمة اليمانية الّتي كانت ناجحةً وفريدةً في زمانها ومكانها، وتحديدًا في صنعاء الّتي أبدعت في ابتكار آليّاتِ مُواجهةٍ ذكيّةً تُفَكّك الإماميّة الوثنيّة الّتي استوطنت في مناطق عدّة في شماليّ يمننا الحبيب منذ قرون
دلف هؤلاء الأعلام المجدِّدون الّذين يتحدّث عنهم الكتاب، فضاءَ الاجتهاد من أوسع أبوابه، ولقد كان اجتهادًا تحت عباءة الزّيديّة يفضـي دائمًا إلى نقض الزّيديّة نفسها
وحديثُنا هنا عن الزّيديّة بوصفها البرنامج السّياسيّ لأصحاب مطلبٍ سلطويّ يحصـر الأمر في البطنين
تنبـع أهميّة هذا الكتاب في هذا التوقيت لأسبابٍ عدّة؛ إذ إنّ الوقوف على نضالِ علمائنا ومفكِّرينا في القرون الأخيرة التي سبقت قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، مُهِمٌّ لـ: (فهم كيف استمرّت الإمامة جاثمةً برغم تلك الجهود)، و(تثمين إسهامات أولئك العلماء المجدِّدين الّذين ذاع صيتهم فتجاوز حدود اليمن)، و(تقييم مراحل التّجديد وآليّاته)
وليس ثمّة شكّ في أنّ صنعاء واحدة من منارات العلم والفكر طيلة العهد الإسلامـي، فقد أنجبت علماء أعلامًا في الفقه أمثال إسحاق بن إبراهيم الدَّبَريّ وصولًا إلى الأعلام المذكورين في هذا الكتاب، وليس انتهاءً بالأخـــوين محمّد وإسماعيل ابْنَي عليٍّ الأكوع الحِواليّ، وهما امتدادٌ ناضجٌ وكبير لهذه الحـــــركة العلمائيّة الّتي يتحــــدّث عنها هذا الكتاب
وكذلك درّة العقد فقهيًّا، شيخ الإسلام محمّد بن إسماعيل العَمْرانيّ الّذي يُعدّ حُجّةَ عصـره، وهو من أبناء صنعاء، وكان مثالًا للمجتهد الجهبذ الّذي استدرك على علمائنا الأوائل ما لم يدركوه لظروف زمانهم؛ لكنّهم نجحوا الى حدٍّ كبير في إعادة البيئة الصنعانيّة لطبيعتها الفكريّة الصّافية
وبذلك فإنّهم وفق باحثين كثيرين، عبّدوا الطّريق لقدوم الحركة الوطنيّة المعاصـرة الّتي تبلورت منذ بدايات القرن العشـرين، وتكاملت فيها الرُّؤى الفقهيّة والقيم الوطنيّة مستمدّةً ركائزها من رموز اليمن الكبار الحسن بن أحمد الهَمْدانيّ ونشوان بن سعيدٍ الحميريّ طيّب الله ثراهما
لقد أسّست المدرسة الّتي يمثّلها أعلام هذا الكتاب، لحركةٍ اجتهاديّةٍ تجديديّة تجـــــاوزت المذهبيّة ونبذت التّقليد وارتبطت مباشـرةً بالدّليل من الكتاب وصحيح السّنة، ولذلك طارت شهرتها في عموم البلدان العربيّة والإسلاميّة
يركز هذا الجهد النّوعي الّذي قدّمه الأستاذ بلال الطّيّب على المدّة من القرن الثّامن إلى أواسط القرن الثالث عشـر الهجريّ، بدءًا ببروز نجم العلّامة محمّد بن إبراهيم الوزير صاحب (العواصم)
هذا الرّجل الّذي جاء من داخل الأسـرة الهاشميّة حاملةً لواء الإمامة ومناط مكاسبها، بعد أن أحكمت قبضتها على تلك المناطق وتفنّنت في التّجهيل، إلى أن بات اليمنيّون حينها موزَّعين على هذا الإمام أو ذلك الإمام من دون وجود شـريحةٍ علمائيّة يُعتدّ بها بعد نشوان وعلماء المُطَرِّفيّة النّوابغ الّذين تعرّضوا للإبادة على يدِ الكاهن عبد الله بن حمـزة
وبرغم تمسّكه ببعض الدّيباجات الّتي تراعي مذهب التّشيّع وجمهوره، إلّا أنّ ابن الوزير حاول في عموم أفكاره هدم الأساسات الواهية للتّشيّع عمومًا، والزّيديّة ما هي إلّا أحد وجوه التّشيّع
وهنا علينا أن نؤكد أنّه ليس من المجدي الغوص كثيرًا في الفروقات بين الاثنا عشـريّة والزّيديّة والإسماعيليّة وغيرها من مسميّات التّشيّع إلّا من باب معرفة الشـّيء والعلم به، إذ الأصوب الّذي خلصنا إليه - بعد طولِ تحقيق- هو أنّ أيّ مذهبٍ يقوم على ادّعاء حصـر الولاية في أبناء فاطمة بنت النّبي عليه الصّلاة والسّلام، فهو مذهبٌ شيعيٌّ أيًّا كانت طقوسه التّعبّديّة أو المذهبيّة
والتّشيّع بوجه خاصّ، هو منحًى سياسيٌّ أراد أن يكون لديه تأويلاتٌ وتفسيراتٌ فقهيّةٌ وعَقَديّةٌ تعتسف له المشـروعيّة ولو بنقض الدين نفسه
من هنا، نستطيع القول إنّ أوّل الصّادعين بالحقّ في هذا الجانب ومن دون مداهنة، كان العلامة المقبليّ صاحب المقولة الشهيرة: «هَبْ لي زيديًّا صغيرًا أجعل منه رافضيًّا كبيرًا»، أيّ إنّ التّشيّع بعضه من بعضٍ ويؤدّي إلى بعض
ثمّ ينتقل المؤلّف إلى الحديث عن العلّامة محمّد بن إسماعيل الأمير الصّنعانيّ، الّذي كان مُعارضًا سياسيًّا ومجتهدًا فقهيًّا، تزامن عصـره مع ثورة التوحيد في نجد ومناطق وسط الجزيرة العربيّة، بقيادة الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب، رحمهم الله جميعًا
تأثرت صنعاء بتلك الثّورة التي أتت على مظاهر الشّـِرك والقُبور والوَثنيّة، ودليل ذلك قصيدة ابن الأمير الشّهيرة إعجابًا بابن عبد الوهّاب، الّتي حاول بعض مؤرِّخي الإمامة الزّعم بأنه تراجع عنها قبل وفاته، يقول مطلعها: سَلامي على نَجْـدٍ ومَنْ حَلَّ في نَجْدِوإِنْ كانَ تَسْلِيمي على البُعْد لا يُجْدي يصل المؤلّف الكريم إلى شيخ الإسلام محمّد بن عليّ الشّوكانيّ
هذا الرجل الّذي جاء، مثله مثل المقبلي، من داخل النّسيج المجتمعيّ القحطانيّ الّذي كان عرضةً للتّجهيل الكهنوتيّ الممنهج، ثمّ أصبح هؤلاء أعلامًا كبارًا، حتّى لقد قيل إنّ الشّوكانيّ يمثّل المذهب الخامس الجامع بين الدِّراية والرِّواية
ومثلما كان الشّوكانيّ عالمًا ينافح عن جوهر التّوحيد في مقابل من يحاولون لَـيَّ أعناق الأدلّة والاستناد إلى الأحاديث الموضوعة من أجل تثبيت حكمٍ سلاليٍّ عنصـريٍّ محتَلّ، كذلك استطاع بحكمته البالغة أن يُعطّل مبدأ الخروج بوصفه شرطًا زيديًّا هادويًّا لازمًا لانعقاد البيعة للإمام الجديد، وهي نقطةٌ بحاجة إلى تصحيح؛ إذ إنّ كثيرًا من الباحثين يظنّون أنّ المذهب الزّيديّ يقوم على مبدأ الخروج على الحاكم الظّالم
والصّواب أنّ الزّيديّة كانوا يعدّون الخروجَ ودعوةَ الإمام لنفسه وخروجَهُ شاهرًا سيفه، شـرطًا من شـروط استحقاق الإمامة لطالبها
ولهذا كان تاريخ الدّويلات الإماميّة المتقطّعة في اليمن منذ مجيء الرَّسّيّ يحيى بن الحسين سنة 284 هجريّة من منطقة الرَّسّ، سلسلةً من الصّـراعات أفنت معها أجيالًا متعاقبة من أبناء اليمن، وطمست عمرانه؛ ولذا قام القاضي الشّوكانيّ بعقد البيعة من إمام إلى إمام من دون الحاجة إلى الحروب
وهكذا حقّق نوعًا من الاستقرار، وهي المرحلة التي وصفها المؤلِّف الطّيّب بـ «عهد محمّد بن عليّ الشّوكانيّ»
وسنلاحظ في تضاعيف الكتاب أنّه ما إن مات الشّوكانيّ سنتة 1250 هجريّة حتّى تمزّق شمل آل القاسم شَذَرَ مَذَر
أُحيِّي الباحث المتميّز الدّقيق على هذا الجهد المركّز في هذا الكتاب، وأُحيِّي صنعاء العظيمة الّتي أنجبت وما تزال تُنجب آليّاتٍ ذكيّةً عظيمةً في تفتيت الفكر العنصـريّ الوَثنيّ القابع في جلباب الهادويّة والزّيديّة
مع ضـرورة التّنبيه على أنّه بعد قراءتنا واستيعابنا لكلّ جهود هؤلاء، فإنّهم نسفوا جملةً من أساسات الزّيديّة، ولكنّهم فعلوا ذلك كلّه تحت الغطاء الزّيديّ
الأمر الّذي دفع كثيرًا من الباحثين داخل وخارج اليمن، إلى الخلط بين الزّيديّة الشّيعيّة وبين ميراث الشّوكانيّ وابن الأمير وابن الوزير والمقبلي وإرثهم، الّذي يُعَدّ تراثًا سنيًّا
وبالنّظر إلى ظروف ذلك الوقت فإنّ هذا المجهود الّذي لم ينسف التّسمية والمصطلح، يُعَدّ إنجازًا ينبغي البناء عليه لا التّوقف عنده
ورأينا بعد ذلك أن اكتمال هذا المجهود جاء من خلال الأخوين الحِواليّين ومن سار نهجهما في عصـرنا، نحو العالم المجدِّد محمّد بن إسماعيل العَمْراني، رحمه الله، والمفكّر القدير حارث عبد الحميد الشّوكانيّ حفظه الله
وهناك كوكبة صاعدة من المُجددين يشقون طريقهم بثبات لنسف الخرافة واقتلاعها من جذورها، أمثال الشيخ الدكتور عبدالوهاب الحميقاني، والعلامة الدكتور فضل مراد، والشيخ الدكتور أحمد بن البُتيت وآخرون
اعتمدت السياسات التعليمية بعد قيام ثورة سبتمبر على منهج الإصلاح الدّيني، إذ حاولت تقديم الزّيديّة على أنّها تراث هؤلاء المجدِّدين، الأمر الّذي لم يستقم، فتَمَّ الحفاظ على التّسمية وعدم المساس بها ومن ثَمّ الإبقاء على المذهب (عربون الإمامة) والفقّاسة الّتي تنتج دائمًا التّمرّدات الخبيثة، وتعيد إنتاج الإمامة العنصـريّة
وآخر نتاجاتها الدمّوية المنظورة هي الحوثيّة الّتي دأبت منذ ثمانينيّات القرن الماضي على تحذير أتباعها من أن يتعرّضوا للخديعة، مؤكّدةً أن الشّوكانيّ ليس زيديًّا، وتقدّم لهم الزّيديّة بناءً على مؤلّفات الكهنة الكبار كالرَّسِّيّ وابن سليمان وابن حمزة
وهذا هو الحقّ، لم تكذب الحوثيّة في ذلك حينما قالت إنّ الزّيديّة وصف لا يطلق على تراث من نقضوها، لأنّها تعلم أن أولئك المجدِّدين الشّوكانيّ والمقبلي والجلال وابن الأمير، كانوا على النّقيض من الزّيديّة، لكنّهم نشأوا في بيئتها حينئذٍ، والآن مطلوب منّا الوقوف بحزمٍ أمام المسمّى نفسه، إذ لا يوجد مذهبٌ لزيد بن عليّ، وكلّ ما يؤثر عنه هو من وَضْع الرَّسّيّ، وهو محض تعصبٍّ ووثنيّةٍ جاهليّةٍ تحاول إعادة نفسها باسم الإسلام
بعبارة أخرى، مثلما ابتدع العلماء اليمنيّون المجدِّدون آليّاتٍ للتّحايل على النّظريّة الوثنيّة الكهنوتيّة ومحاولة إنتاج زيديّة سنيّة، تنبهت الزّيدية أو الهادويّة لمثل هذا الأمر فبدأت تحصّن نفسها كما أسلفنا، وبدأت تعيد تقديم نفسها مستغلّةً بقاء الاحترام للمصطلح
وهذا مأزق يجب ألّا نستمرّ فيه، ويتوجّب أن يتنبّه عليه واضعو مناهجنا التّعليميّة، ومعلومٌ أنّ هناك دوافعَ عدّةً لم تجعل هؤلاء العلماء موضوع الكتاب، وآخرين بعدهم، يقودون حربًا على المصطلح ذاته، لأنّ المصطلح صار فيه التباس مع التّقادم، وصار يتداخل فيه المدلول المذهبيّ بالمدلول الجغرافيّ، حتى لكأنّ الزُّيود هم أبناء منطقة ما وليس أتباع مذهب ما، على أنّه خرج من داخل المناطق المنسوبة للزيدية علماء مجدِّدون كبار لعلّ آخرهم العلامة المحدِّث مقبل بن هادي الوادعي، رحمه الله
هناك دلالة أخرى استوقفتني وأنا أتصفّح هذا الكتاب، وهي أن عدد المجتهدين المنتسبين إلى الهاشميّة الثّائرين على النّظريّة والخالعين العنصـريّة كانوا بالأمس أكثر منهم اليوم
وهنالك أسباب منها أن الماكينة الإماميّة لا تكفّ عن إنتاج حلول البقاء؛ ولذا عملت على تشويه ابن الأمير وابن الوزير
ومن المؤسف اليوم أن تجد أحفاد ابن الأمير الصّنعانيّ متمسّكين بخرافة حاربها أبوهم
إننّا في مركز نشوان الحميريّ من خلال هذا الإصدار نؤكّد على قيمة كلّ كلمة حقٍّ تنسف زيف النّظرية الوثنيّة
فعندما نقف ضد التّفسير السُّلاليّ والعائليّ للدّين، فذلك من منظور توحيديّ مكتمل الرُّؤيا، ومنظور وطنيٍّ مكتمل الوضوح
ومثما نشيد بهذا الجهد الّذي بذله ابن الوزير وابن الأمير فإننا نأسف لعدم تحوّل مثل تلك الأصوات إلى ديناميكيّة متصاعدة في نسيج السُّلالة
الوقفة الأخيرة الّتي أريد توثيقها في هذا التّقديم هي أنّ هذا الكتاب برهان كبير على تاريخيّة العلاقة بين رئتي الجزيرة العربية: اليمن والمملكة العربية السعودية، إذ إنّ أيّ ثورة تصحيح وتنوير في أحد البلدين تنتقل إلى الآخر
والآن فإنّ اليمن بعد نثرة الحوثيّة يحتاج إلى عملٍ كبير جدًّا لترسيخ مفاهيم التّوحيد الحقّ الّتي لا تبقي للضّلالة أرضيّةً تتوسّع فيها أو آذانًا تصغي إليها، وهذا الأمر يحتاج لاستراتيجيّة وطنيّة تشمل مناهج التّعليم ومعاهد البحوث ومنابر الإرشاد ومنصّات الإعلام
مجدَّدًا أشكر الأستاذ الطّيّب وأكرّر التأكيد على ضـرورة مواصلة جهود التّجديد، ومغادرة مربّع الاستيراد والتّقليد، والإقلاع عن محاولات إصلاح البذرة المسوسة
فلقد آن أوان بلورة مدرستنا الفقهيّة التّوحيديّة الوسطيّة اليمنيّة، فـالإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية، والفقه يمان