عبدالفتاح الصناعي : ولادة على خط النار

منذ 3 ساعات

عبدالفتاح الصناعي في أواخر الثمانينات، عند تخوم واحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخ اليمن الحديث، وُلدتُ في قرية نائية، لا يكاد يمر بها الزمن إلا ويترك عليها وشمًا من رماد الحروب

كانت البلاد تتقلب بين نارٍ توقدت للتو، وأخرى بالكاد خمدت

هكذا هو اليمن: الاستثناء فيه هو السلام، أما الأصل، فهو الحرب

جئت إلى الحياة باكيًا، لا كأي وليد، بل كمن استشرف ما ينتظره: صراعٌ طويل، ومآسٍ سترافق الطفولة والشباب وحتى الكهولة

لم يكن البكاء نبوءة، بل كان الواقع نفسه يتكفل بترسيخها

وقتها كان والدي جنديًا حديث العهد في الجيش، وقد جاء إلى الخدمة مُكرهًا بعد دخول قوات صنعاء منطقتنا وفرضها التجنيد الإجباري

ولدت في قرية صغيرة، تقع عند نقطة تماسٍ بين الشمال والجنوب، بين الاشتراكية والرأسمالية، بين الحداثة والتقليد

ولدتُ على أطلال حربٍ لم تهدأ، في ظل صراعٍ لم يمنح السلام فيه أكثر من هدنة عابرة

أشبه باستراحة محارب قبل جولة أخرى

لم أختر أن أولد زمن الحرب، لكنها اختارتني

ومنذ لحظتي الأولى، حُملت باسمٍ سياسي بامتياز: عبدالفتاح، تيمّنًا بعبدالفتاح إسماعيل، القيادي اليساري ورمز الحزب الاشتراكي الجنوبي، وضحية مجزرة 1986 الشهيرة

كان اسمًا ثقيلاً، مشبعًا بالرمزية، لا يشبه أسماء الأطفال، ولا يسمح لحامله بأن يبقى محايدًا

ومع ذلك، لم أره عبئًا

على العكس، وجدت فيه نافذةً لفهم الذات، ومرآة أتأمل بها التناقضات التي نشأت في قلبها

كثيرون حملوا الاسم نفسه، لكن ما ميّزني هو ذلك التوافق النادر بين اسمي واسم والدي، ما منحه وقعًا خاصًا، وأحيانًا

وقعًا مريبًا في بيئة محافظة

وعيت على قرية تشبه ثكنة عسكرية، لا في شكلها فقط، بل في روحها

حطام الطائرات المنفجرة، وبقايا الدبابات والمدرعات، تحوّلت إلى أسقف منازل، وأدوات للمطبخ

الحرب لم تكن عابرة، بل مقيمة، تحاصرنا في تفاصيل الحياة اليومية

حتى باطن الأرض لم يسلم، فقد ظلت الألغام المدفونة تتربص بنا، تنفجر فجأة لتذكّرنا أن الهدوء، في اليمن، ليس إلا استراحة قصيرة بين موتين

وكان الفكر المتطرف، لا يقل فتكًا

زُرع في العقول كما زُرعت الألغام في الأرض

كانت قريتي مسرحًا لصراعات متوالية، الجيش دخلها بالطائرات والمجنزرات، والشباب سُحبوا قسرًا إلى المعسكرات

أبي كان أحدهم، وجدي، شيخٌ تقليدي بسيط، وجد نفسه متعاونًا مع السلطة في صنعاء رغم عدم إلمامه بخيوط السياسة

تقول الروايات إن من اختار اسمي كان عمي غير الشقيق شايف، المتأثر باليسار والجبهة الوطنية، وكأن الاسم كان في حد ذاته موقفًا، أو صرخة تحدٍّ ضد القتلة

كبرتُ وسط هذا الخليط المتفجر

أدركت مبكرًا أن الاسم في اليمن ليس تعريفًا، بل ساحة معركة

ولأني نشأت بين بيئة محافظة، ثم لاحقًا بيئة متدينة، شعرتُ دائمًا بالتناقض بين اسمي ومحيطي

اقتربت من الفكر اليساري في شبابي، لكني لم أستسلم له

شغفي لم يكن بالانتماء، بل بالفهم

وكنت أوقّع مقالاتي دائمًا بـعبدالفتاح الصناعي، متجنبًا اسم أبي إسماعيل لتفادي إسقاطات أيديولوجية جاهزة، خصوصًا حين أكتب آراء مستقلة

قرأت كثيرًا عن عبدالفتاح إسماعيل

تأملت مقتله، شخصيته، إرثه السياسي

لكن انحيازي الحقيقي كان للرئيس سالمين، الزعيم الذي حاول أن يخرج من عباءة الأيديولوجيا ويصنع وطنًا برفقة الحمدي شمالًا

كنت أرى فيه مشروعًا وطنيًا جادًا تم اغتياله قبل أن يرى النور

كتبت عنهما كثيرًا، لا لأُصنّف نفسي، بل لأفهم: لماذا قُتل كل من أراد الخير لليمن؟في طفولتي، كنت أرى الجبل القريب من قريتنا، جبل العود، مسرحًا لمعارك قديمة، لكني لم أكن أعلم أنه يخفي تحته تاريخًا أعمق

في بداية الألفينات، جاءت بعثة ألمانية للتنقيب، فاكتشفت مدينة حميرية بأكملها

قصور، تماثيل، نقوشٌ لملكة تُدعى شمس

كنت وقتها طفلًا، أرقب الحدث من بعيد، وأشعر أن تحت كل صراع، هناك حضارة تنتظر أن نرفع عنها الركام

بدأت أتمرد على فخرنا بأننا أبناء منطقة اشتباك

صار يؤلمني هذا المجد الملوّث بالدم

وبدأت أنقد الجميع: اليسار واليمين، التقليد والحداثة، كل ما لم يوقف نزيف الحرب

أنا عبدالفتاح، لم أكن يومًا مجرد اسم

أنا ابن الحرب والسلام المؤجل

أنا الباحث عن معنى يعيد لتراب هذا الوطن روحه، ولذاكرته حضارتها

لا حروبها

في تلك الأجواء، ولدت كابن ثالث لعائلة متواضعة، وسُميت باسم زعيم سقط قتيلًا في صراعٍ داخلي

في منطقة كانت تمثل نقطة تماسٍ مشتعلة، كان مجرد اسمٍ كاسمي كفيلًا بأن يرسم ملامح قدرٍ لم أختره

واليوم، وقد أحرقت الحرب زهرة عمري، كما أحرقت أعمار الملايين، أدركت أن السلام ليس ترفًا، بل معركة مصيرية

ولذلك، قررت ألا أكون ابن الحرب فقط

بل أن أعيش من أجل السلام