عدالة بقرون وتمشي على أربع
منذ 2 ساعات
صنعاء – غادة الحسينيفي بلدٍ تتداخل فيه السلطة بالعُرف، ويغيب فيه صوت الدولة خلف ضجيج القبيلة، برز “الثور” فجأة كـحلٍّ جاهزٍ لفصل النزاعات
وكأنه أصبح سلطةً محليةً بديلةً تحسم الخلافات في ساعاتٍ، بينما تستغرقها المحاكم لسنوات
تحوّل الثور من مجرد حيوانٍ إلى رمزٍ للحل السريع، والكفّارة، وطي صفحة الجرائم، حتى في القضايا التي تتطلب عدالةً دقيقة لا تساهل فيها
هذا التقرير لا يروي قصة ثورٍ، بل يروي قصة دولةٍ تراجعت، وعدالةٍ انهارت، ومجتمعٍ وجد في العُرف ملاذًا بديلًا حين ضاقت به الوسائل
إنها حكاية اليمن اليوم، حيث بات الثور يفصل، والدولة تُشاهد
في إحدى القرى الجبلية، بمديرة دمت، محافظة الضالع، كان الصباح يبدو عاديًا، حتى سمع الناس أزيز الرصاص يقطع الهدوء، في دقائق، تجمعت الوجوه، ارتفعت الأصوات، وانقلبت الحكاية من خلافٍ صغير إلى جرحٍ كبير
بعد يومين فقط، عاد المشهد مختلفًا، رجال القبيلة يسيرون في صفٍ واحد، يتقدمهم ثورٌ ضخم، يغرس حوافره في تراب القرية، يجر خلفه كل الألم
توقفوا أمام بيت الضحية
نطق شيخ القبيلة بكلمته، وأعلن أحدهم بصوتٍ مرتفع: “تم الفصل وانتهى الخلاف”
ربما انتهى الخلاف على الورق
لكن في قلوب النساء، ووجوه الأطفال، وصدر الأب المكلوم، كانت الحكاية لا تزال تشهق
في قلب المشهد القبلي، حيث تختلط الحكمة المتوارثة بقيم النخوة والمسؤولية الاجتماعية، يظل الشيخ هو الصوت الذي يُفسر العُرف ويُمثل ميزانه
ومع التحولات المتسارعة التي تشهدها البلاد، برزت ممارساتٌ قبلية، على رأسها التحكيم بــ”الثور” لتصبح جزءًا من النقاش الوطني حول العدالة، والضغط الاجتماعي، وحدود العُرف
ولأن هذه الظاهرة لا يمكن فهمها بمعزلٍ عمن يُشرفون عليها ويتحملون تبعاتها، كان لا بدّ من العودة إلى الجانب القبلي المعروف بسجله الطويل في التحكيم وفضّ النزاعات
يقول مدير البرامج في إذاعة مأرب، مبخوت السيفي، لـ”المشاهد”: “من خلال العادات والتقاليد في مجتمعنا القبلي وحضوري وإشرافي على قضايا عديدة؛ أرى استخدام الثور (كعقيرةٍ) في الفصل ببعض القضايا القبلية”
وأضاف: “هو سلوك يحمل دلالةً ثقافية ترتبط بالعادات والتقاليد، وبمثابة ردّ اعتبار، وصيانةً للمكانة الاجتماعية، والتفسير الحرفي لها يقصد به أن إراقة دم العقيرة يمثل تطهيرًا لما نال الاعتبار الاجتماعي للخصم، وهذا يرد اعتباره ويقيم مكانته الاجتماعية”
ويواصل السيفي: “هذا الأسلوب لم يأتِ من فراغ، بل يمثل مفردةً من مفردات العُرف القبلي، وإن تعارض في مضمونه مع تعاليم الدين الإسلامي (في ذبح البهيمة لغير الأكل)”
“ولكن يمكن تحويره بتعديل (الهجر) من استخدام الحيوان (الثور) إلى استبداله بمبلغٍ مالي يتناسب مع نوع القضية، وهذا ما أصبح متبعٌ في كثير من المناطق والقضايا التي يُبّت فيها دون اللجوء إلى إراقة دم الحيوان”
يقول السيفي
ويشير إلى أن (الهجر) يُستخدم في القضايا المتعلقة بالاعتبارات الاجتماعية والمساس بها، أو ما يقدح بها أو يمس بالكرامة
ولفت إلى أنه لا يمكن استخدام هذا النوع من الحلول بصورةٍ مفروضة على الطرف الآخر، ولا يتم اتخاذه إلا ضمن حُكمٍ قبلي يضم مجموعة إجراءاتٍ للفصل في القضية، و(الهجر) جزءٌ من الحل وليس الحل كاملًا
ويؤكد السيفي أن العُرف القبلي مصدرٌ من مصادر القانون المعترف بها، ويمكن التعاون بين المؤسسات القضائية ومن يُمثل العُرف القبلي (المشايخ)، وهناك قضايا كثيرة تحيلها المحاكم إلى العُرف القبلي عند تراضي أطرافها على ذلك
بين انهيار مؤسسات الدولة وتنامي ثقل العرف القبلي، أعاد المجتمع تشكيل أدواته الخاصة لحل النزاعات، حتى غدا “الثور” رمزًا اجتماعيًا يتجاوز كونه مجرد عُرفٍ ليتحوّل إلى تعبيرٍ عن فراغٍ سُلطوي واسع
وفي خضم هذه التحولات، يصبح الصوت الأكاديمي ضرورةً لفهم ما يحدث تحت السطح
فقراءة الظاهرة اجتماعيًا تكشف ما هو أبعد من التحكيم نفسه، فهي تفتح الباب أمام أسئلةٍ حول السلم الاجتماعي، وصورة القانون لدى الجيل الجديد، ومآلات مجتمعٍ اعتاد تجاوز المؤسسات الرسمية لحل مشكلاته
وفي هذه الفقرة، يضع الباحث الاجتماعي خطوطًا تفسيرية لهذه التحولات، ويقدم رؤيته حول مستقبل الظاهرة إن استمر اتساعها دون معالجةٍ جذرية
يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، الدكتور محمود البُكاري، لـ”المشاهد”: “الثور له رمزيته في المجتمع اليمني، ولذلك جعلت منه الأعراف الاجتماعية وسيلةً لكسب التقدير من الأطراف المتخاصمة، بمعنى أنه لا يوجد ما هو أكثر قيمةً من الثور في حل خلافات المتخاصمين”
أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، الدكتور محمود البُكاري، لـ”المشاهد”: “الثور له رمزيته في المجتمع اليمني، ولذلك جعلت منه الأعراف الاجتماعية وسيلةً لكسب التقدير من الأطراف المتخاصمة، بمعنى أنه لا يوجد ما هو أكثر قيمةً من الثور في حل خلافات المتخاصمين”
ويشير البُكاري إلى أن الحرب والأزمات لم يكن لها تأثير كبير، فالأعراف والتقاليد الاجتماعية مترسخة في المجتمع اليمني، ويتم توارثها جيلًا بعد آخر؛ لما لها من أهميةٍ في إصلاح ذات البين، إلى جانب وجود المؤسسات الضبطية القضائية والرسمية
ويضيف: لا تنتشر هذه العادة إلا في المجتمعات المحلية التي لا تزال النزعة القبلية مترسخةً فيها، وضاربةً بجذورها في العمق الاجتماعي
و”هناك مناطق ومجتمعات محلية بدأت تعزف عن ممارسة هذه الظاهرة؛ لأن مستوى التمدن والتعليم أثّر كثيرًا على طبيعة الوعي الاجتماعي في هذا المجال”، بحسب البُكاري
ويرى البكاري أن الظاهرة طوعية لمن أراد اللجوء إليها، وهي ليست قسرية أو مفروضة؛ ولذلك لا توجد مؤشرات لزيادة توسعها وانتشارها، ولا تشكل أولويةً في حياة الناس إلا في جوانب محددة
في الوقت الذي تتسع فيه الفجوة بين المجتمع ومؤسسات القضاء الرسمي، يبرز (الهجر) كأحد أكثر الأساليب العُرفية انتشارًا في فضّ النزاعات
حتى بات (الهجر) يشكل في نظر الكثيرين بديلًا شبه ثابتٍ عن مسار التقاضي، ورغم أنه ممارسةٌ متجذرة في الأعراف القبلية، إلا أن لجوء الناس إليه اليوم يثير أسئلةً قانونيةً حساسة حول مشروعيته، وحدود نفوذه
فبين من يراه اعتداءٌ على اختصاص القضاء، ومن يعتبره صمام أمانٍ يُخفف العبء عن المحاكم، يظل (الهجر) نقطة اشتباكٍ بين القانون والعُرف، وبين غياب الثقة وتراجع حضور الدولة
يقول عضو نيابة مأرب الابتدائية، القاضي محمد نمي، لـ”المشاهد”: “بالنسبة للهجر في العُرف القبلي، فهو تستند إلى وثيقة العُرف القبلي، والتي تتضمن قواعد عُرفية وقّع عليها مشايخ عدة في الماضي، وليس في الوقت الراهن”
عضو نيابة مأرب الابتدائية، القاضي محمد نمي، لـ”المشاهد”: “بالنسبة للهجر في العُرف القبلي، فهو تستند إلى وثيقة العُرف القبلي، والتي تتضمن قواعد عُرفية وقّع عليها مشايخ عدة في الماضي، وليس في الوقت الراهن
هذه الوثيقة انتهى العمل بها باستفتاء الشعب اليمني على الدستور، وسنّ القوانين وقيام المحاكم وتعيين القضاة”
وعلّق القاضي نمي عليها: “هذه الوثيقة انتهى العمل بها باستفتاء الشعب اليمني على الدستور، وسنّ القوانين وقيام المحاكم وتعيين القضاة، بعد إنشاء المعاهد والكليات المتخصصة بدراسة الفقه والقضاء والشريعة والقانون”
ويضيف: “لو كانت تلك القواعد العُرفية بتلك الأهمية التي يدّعيها من ينادي بها لتم تدريسها أو إقرارها في مجلس النواب والجهات التشريعية في البلاد من حينه”
ويواصل: “للعلم
يوجد تعارض بين الهجر وبين أحكام الشريعة الإسلامية والتي تحتّم عدم جواز العمل به، كما أنها مستمدةٌ من وثيقة العُرف القبلي، وقواعدها وأعرافها أصبحت غير معروفة وغير متوائمة مع مستجدات وتطورات العصر والواقع المعاش”
“هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فأحكام وثيقة العُرف القبلي ونصوصها غير واضحةٍ، وتحتاج إلى مفسرّين وشرّاح ومترجمين لفهمها، وإذا فهمناها فهي غير صالحةٍ للتطبيق لعدم اتفاقها مع الواقع، كما أن أحكامها جائرةٌ وغير رادعةٍ”، بحسب القاضي نمي
ويتابع: “ثمرة الهجر غير رادعة للأغنياء الذين لا يهمهم ثور أو عشرة، مادام لا يوجد فيها حبس ولا إعدام ولا مصادرة لأداة الجريمة، بعكس الفقير والمُعدم الذي سيترك حقه يُهدر إذا عجز عن توفير وإحضار (العدال) وقِطع السلاح التي تتطلبها القواعد العُرفية الجائرة”
وأوضح القاضي نمي، “أن كل ما سبق يجعل الأعراف المدونة في الوثيقة، مع ما سبق ذكره من أسبابٍ ومبررات غير صالحة للتطبيق، ولا يجوز العمل بها أو التحاكم إليها”
ونوّه نمي أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات كما في دستور الجمهورية اليمنية، وأي تحكيمٍ قبلي يشترط ليكون صحيحًا -عرفي أو غيره- ألا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، وأن يكون قد صدر وفقًا لما نصّ عليه قانون التحكيم اليمني من شروط
مضيفًا: “كما أن هناك مجالاتٍ يجوز التحكيم القبلي فيه، مثل القضايا الجنائية والفسخ واللعان، وهو ما يوجب على أي محكّمٍ أن يكون مطلعًا على قانون التحكيم وملمًا بأحكام الشريعة الإسلامية؛ ليتجنب بطلان حكمه فيما بعد أمام محكمة الاستئناف”
واعتبر القاضي نمي أن محكمة الاستئناف هي المختصة بنظر دعاوى بطلان أحكام التحكيم وتنفيذها فيما لو لم ينفذ المحكوم عليه حكم التحكيم اختيارًا أو لم يوافق عليه
ويشير إلى أن التوصيف القانوني هو “حكم مخالف للقوانين النافذة وأحكام الشريعة الإسلامية”، سواءٌ في الحدود أو التعزير، ولا يعتبر حكمًا نافذًا، فالنافذ ما كان موافقًا لأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين النافذة
ولفت إلى أن انتشار التحكيم القبلي كحلٍ مجتمعي يختلف وجوده من محافظةٍ إلى أخرى، من خلال النظر لجغرافيا اليمن ككل
“ففي المناطق الجبلية تعتمد عليه منذ عشرات السنين إلى يومنا هذا، مع تحسنٍ طفيف بعد إنشاء المحاكم والنيابات في المديريات”
يقول القاضي نمي
ويزيد: “بينما في المدن، فإن نسبة الهجر لا تبلغ 20 %، أما باقي مناطق اليمن غير الجبلية يكاد ينعدم فيها، إلا نادرًا”
وحول علاقة السلطات القضائية في انتشار التحكيم، يقول نمي: “ليس هناك علاقة نهائيًا، بل كانت جزءًا من الحدّ منه، ولم نرَ حكمًا قضائيًا أيّد الأحكام المتعلقة بالهجر، بل نقضت أحكام القضاء عدة أحكامٍ، كما نصّت قوانين نافذة بالعقوبات الشرعية التي تحدّ من الهجر”
وبيّن أن الهجر يتعارض مع القانون، خصوصًا قانون التحكيم والدستور والشريعة الإسلامية “مصدر التشريعات”، ويعد عاملًا من العوامل التي تجمد نفاذ القانون
وعزا نمي سبب ذلك إلى أن من خصائص القاعدة القانونية “العموم والتجريد، والزجر والردع”، ولم يكن الهجر داعمًا بل ناقضًا، ولا توجد قضية لم يقنن المشرع عقوبتها وحكمها، فيما باب الاجتهاد مفتوح فيما لا يوجد فيه نص
وأكمل: “هناك أسباب تجعل المواطنين يفضّلون التحكيم القبلي على القضاء، أهمها ضعف مستوى التعليم، غياب وضعف بسط نفوذ الدولة لكل شبر من البلاد بإنشاء نياباتٍ ومحاكم وأقسام شرطة؛ نظرًا لأسبابٍ البُعد الجغرافي”
“إضافة إلى السرعة في الحكم بالهجر وبطيء الفصل في قضايا المحاكم؛ لقلة القُضاة، وغيرها من الأسباب التي تجعل المواطن غير مقتنع بالمحاكم الشرعية”، وفقًا للقاضي نمي
ويختتم حديثه: يمكن للقضاء أن يستعيد ثقة الناس من خلال التشريع بحظر أحكام الهجر، والاهتمام بالتعليم للقضاء على الجهل، وتغيير ثقافة المجتمع، وتفعيل السلطة القضائية ورفدها بالكوادر المؤهلة، وإنشاء الأقسام والنيابات والمحاكم في كل القرى والمديريات”
أمام واقعٍ تتبدل فيه الموازين، ويُختصر فيه حق الإنسان في “ثور” تعيش العدالة في اليمن لحظة اختبارٍ تاريخية، فبين بُطء الدولة وسرعة القبيلة، وجد المواطن نفسه معلقًا بين قانونٍ غائبٍ وعُرفٍ حاضرٍ بقوة
ويبقى السؤال الأهم مفتوحًا: هل يستمر الثور كوسيلة تفصل القضايا بدلًا عن الدولة، أم تنجح مؤسسات العدالة في استعادة مكانها الطبيعي؟ وإلى أن يحدث ذلك سيظل الثور شاهدًا على زمنٍ غابت فيه العدالة، وحضرت الأعراف بكل ما تحمله من سطوةٍ وتأثير
ما رأيك بهذا الخبر؟سعدنا بزيارتك واهتمامك بهذا الموضوع
يرجى مشاركة رأيك عن محتوى المقال وملاحظاتك على المعلومات والحقائق الواردة على الإيميل التالي مع كتابة عنوان المقال في موضوع الرسالة
بريدنا الإلكتروني: almushahideditor@gmail
com تصلك أهم أخبار المشاهد نت إلى بريدك مباشرة
الإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقاريرمن نحن