فتحي أبو النصر : في مديح أديس أبابا: عاصمة السعادة ومفترق الروح
منذ 3 ساعات
فتحي أبو النصر وها أنا، بعد مضغ القات الأثيوبي العظيم، أجد نفسي منفتحا على ترددات كونية نادرة، كأن هذا النبات الطقسي قد أزاح عني غبار المدن الصاخبة، وأعادني إلى صميم الوجود
والآن في شوارع أديس أبابا، تنبعث موسيقى الريغي من مكبرات الصوت المرتجلة، ويعلو صوت بوب مارلي فوق الضجيج، كأن نبوءاته القديمة كانت تمهيدا لهذه اللحظة بالذات
تخيلوا
شارع كامل تحول إلى ساحة احتفال
لا دعوات رسمية، لا بطاقات دخول، فقط فرح خام وموسيقى شباب وشابات وقُدامى وأطفال وسياح من كل القارات
أفارقة بجمالهم الفطري، أوروبيون يذوبون في الإيقاع، آسيويون بعينين مدهوشتين، وعرب يتنفسون حرية جديدة لا تباع ولا تُشترى
ذلك لأن أديس أبابا ليست عاصمة إثيوبيا فحسب، بل عاصمة السعادة الخام، عاصمة المطر الأول والقهقهات الأولى
والقات هنا ليس مجرد نبتة، بل هو مفتاح لتجليات داخلية عميقة
والبن الأثيوبي، الذي أطلق ثورة الصباح في العالم، يُشرب على مهل، متوجا بالعسل، وكأنك ترتشف تراب هذا البلد مع كل رشفة
ثم هناك الخط المسند، الجذر العميق للهوية، الممتد من مأرب إلى أكسوم، ليشهد على وحدة الحضارات القديمة تحت سماء واحدة
والحق يقال إن الشعب الأثيوبي، بأناقته الطبيعية، يعلمك درسا غير مكتوب في الذوق والكرامة
فيهم وقار الملوك وبهجة الصوفيين، وابتسامة من يعرف أنه واقف في قلب العالم، لا على هامشه
فيما أديس أبابا ليست مدينة، بل مزاج كوني
بل ليست فقط ملتقى الأمم، قدر ما هي مرآة لما يمكن أن يكون عليه العالم إن نحن أعدنا الاتصال بجذورنا
وهنا، تنصهر الموسيقى، والقهوة، والرقص، والنصوص القديمة، والسماء الماطرة، في خلطة لا مثيل لها
بل في أديس أبابا، أنت لست سائحا، بل عائدٌ إلى بيتك الأول
!والزهرة الجديدة، هذا هو معنى أديس أبابا ، وكأن الاسم ذاته نبوءة تتجدد كل صباح
اذ ليست المدينة مكانا فقط، بل حالة من التفتح الدائم، زهرة لا تذبل لأن جذورها مغروسة في قلب الروح
فيما كل قطرة مطر تسقي فيها ذاكرة الزمن، وكل رقصة في شوارعها تُعيد للعالم إيقاعه الأصلي
وصدقوني إن أديس أبابا لا تكبر، بل تتفتح، تتجدد، كل يوم ، و تتنفس كأنها كائن حي، يقاوم الذبول بالحب، والجمود بالإيقاع، والنسيان بالاحتفال
كذلك فإنها قصيدة مستمرة، تُكتب بأقدام الراقصين، وتُغنى بأصوات لا تعرف الانطفاء أبدا