كيف قُتل الصحفي المقداد مجلي؟
منذ 8 أشهر
في السابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2016، كان الصحفي المقداد محمد مجلي في مهمة عمل صحفية لإذاعة صوت أمريكا في منطقة جارف جنوب العاصمة صنعاء
وبينما كان يقوم بالتغطية الإخبارية أصبح هو الخبر، إثر غارة جوية استهدفت المكان، فقتلته وأصابت اثنين آخرين بجروح
في هذا التحقيق، نتتبع المهمة الأخيرة للصحفي مجلي استنادًا إلى أدلة تجمع بين الشهادات وصور الأقمار الاصطناعية وتسجيلات الفيديو التي تم تصويرها قبل الهجوم
كعادته استيقظ عند الخامسة صباحًا استعدادًا لمهمة جديدة: نقل مشهد آخر من فصول الحرب القاسية
ارتدى ملابسه الميدانية: بنطلون جينز أزرق مع قميص مُخطط عموديًا وكنزة سوداء منسوجة من خيوط الصوف
ثم تسلح بقلمه ودفتر ملاحظاته متجهًا صوب الميدان برفقة المصور باهر حميد والسائق عبدالباري ناجي السماعي
“لقد كان بصحة جيدة ويتمتع بالنشاط المعهود في حياته فقد كان يستيقظ باكرًا حتى وإن لم يكن لديه عمل”، يقول شقيقه عبدالله
عند حوالي الساعة الثامنة صباحًا، وصل مجلي وزميلاه، إلى جارف بعد رحلة استغرقت ساعة ونصفًا
كانوا هناك للمرة الثانية لتغطية آثار غارات جوية استهدفت المنطقة ذاتها قبل ذلك اليوم بخمسة أيام، أي في الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني
كان المكان هادئًا، ما يكفي لدرجة أن يشعروا بالأمان
“لم يكن هناك أحد سوى نحن الثلاثة، ورابعنا أحد السكان المحليين [يدعى عمر سروب] الذي انضم إلينا
فقد سبق أن رافقنا في الزيارة السابقة”، بحسب إفادة السائق السماعي في حديث لموقع “المشاهد”
يعطي تحليل صورة الظل اللوحة المكتوب عليها “حمام جارف” باستخدام “SunCalc“، أن الوقت الذي بدأ المصور فيه بأخذ لقطات لمكان الحادثة يتراوح ما بين الساعة 7:50 و8:00 صباحًا
كانت هذه الزيارة هي الثانية لمجلي إلى جارف؛ لقد كان هناك قبل يومين لتوثيق شهادات الناجين من القصف السابق، كما يفيد شقيقه عبدالله، لكن إدارة مكتب إذاعة” صوت أمريكا “في الشرق الأوسط أبلغت المقداد بوجود “اهتزاز في التصوير السابق”، وعليه طلبت منه إعادة تصوير مقاطع الفيديو بجودة عالية
لذلك كان عليه العودة إلى مكان الحادث مرة أخرى
في 12 يناير/ كانون الثاني 2016، شنت قوات التحالف العربي بقيادة السعودية، ثلاث غارات استهدفت مسجد وحمام جارف بمديرية بلاد الروس، جنوبي صنعاء، على الطريق الممتد إلى محافظة ذمار المجاورة، نتج عنها مقتل 14 شخصًا وإصابة 17 آخرين، بينهم أطفال ونساء، وفق تقرير حقوقي، ذكر أن هؤلاء الأشخاص جاؤوا إلى المنطقة للاستجمام والتداوي من مياه الحمام الطبيعي
شنت مقاتلات التحالف العربي في 17 يناير 2016، نحو 19 غارة على مناطق متفرقة في صنعاء من أصل 33 غارة جوية على مناطق مختلفة من البلاد، وهذا العدد يساوي الغارات التي أطلقها التحالف في اليوم الأول من حملته الجوية واسعة النطاق في اليمن، أواخر مارس 2015
يوضح سروب، الدليل المحلي الذي رافق المقداد في المكان المستهدف، أنّ المكان يضم مسجدًا إلى جانب “بدروم” (طابق تحت الأرض) تقع فيه ثلاث غُرف في كل منها ثلاثة أحواض، وهذه الغرف تُشكل الحمام الذي يبعد عن المسجد قرابة 20 مترًا، وفي الخارج يطوقهما سور مبني من طوب خرساني
وتعد المنطقة الواقعة على بُعد حوالي 32 كيلومترًا إلى جنوب العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها جماعة الحوثي (أنصارالله)، منذ أواخر 2014، إحدى وجهات السياحة العلاجية، إذ تضم منتجعًا طبيعيًا توجد فيه مياه بركانية تحتوي على نسبة من الكبريت ذات المواصفات العلاجية، ولهذا الغرض يتوافد الناس إليه من مختلف محافظات البلاد
وفي أكثر من مرة تعرض منتجع حمام جارف للقصف الجوي، وهو كغيره من المناطق السياحية والمواقع الأثرية التي طالها الاستهداف خلال سنوات الحرب الدائرة في اليمن
رافق السائق السماعي المقداد في مهام صحفية عديدة، ولم يواجها غارات متكررة على المواقع التي زاراها [كلاهما صديقان منذ الطفولة وتجمعهما صلة قرابة عائلية]
لم يخطر ببال السماعي مطلقًا أن يتعرض المكان لقصف جوي مرة أخرى، على الأقل في ذلك اليوم
يروي المصور حميد في شهادته لمنظمة مواطنة: “بينما كنا نقف فوق الركام الذي خلفه القصف، ابتعدتُ عن المقداد لآخذ بعض الصور للمكان، بينما كان هو يكتب بعض الملاحظات، وبجواره السائق عبدالباري السماعي”
بدأ المصور بأخذ اللقطات لآثار القصف، ويتنقل بالكاميرا من زاوية إلى أخرى؛ “كان المقداد يعطي التعليمات للمصور بأخذ اللقطات
وبعد مرور نحو 10 أو 15 دقيقة من التصوير، فجأة سمعنا صوت طائرة تُحلّق في سماء المنطقة”، يستذكر السماعي قائلًا: “سادت حالة من الفزع بيننا، وشعرت بخوف شديد تملّكني”
وفقًا لمعلومات من المصادر المفتوحة جمعها موقع “المشاهد”؛ فقد شنت مقاتلات التحالف العربي في ذلك اليوم، أي السابع عشر من يناير/ كانون الثاني، نحو 19 غارة على مناطق متفرقة في صنعاء من أصل 33 غارة جوية على مناطق مختلفة من البلاد، وهذا العدد يساوي الغارات التي أطلقها التحالف في اليوم الأول من حملته الجوية واسعة النطاق في اليمن، أواخر مارس/ آذار 2015
وآنذاك، تصاعدت حدة الغارات الجوية على العاصمة وضواحيها، بالتزامن مع المعارك التي كانت تدور رحاها بين قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وجماعة الحوثي في فرضة نهم، بوابة صنعاء الشرقية
بينما كان المقداد يطلب من المصور استعجال التصوير، ويخبر البقية بسرعة مغادرة المكان، كان الصاروخ أسرع في استهدافه
وقعت الغارة على بعد أمتار قليلة من المكان الذي كانوا يقفون عليه
كانت تلك الغارة رقم 5917 للتحالف منذ بدء عملياته، بحسب مشروع بيانات اليمن المختص بجمع ونشر البيانات حول سير الحرب في البلاد
“وقَعَت الغارة على مسافة خمسة أو ستة أمتار من المكان الذي كنت أقف فيه أنا والمقداد وعمر
أما المصور فقد كان يبعد عنا ٤٠ مترًا، فيما المسافة الفاصلة بيني وبين المقداد لا تزيد عن واحد متر”، يقول السائق السماعي
صورة أقمار اصطناعية من جوجل إيرث تظهر مكان الحادث وأماكن تجمع الأشخاص الأربعة أثناء وقوع الغارةركض الثلاثة باتجاه السيارة التي كانت تبعد عن مكان الحادث بنحو مائتي متر، فيما المصور كان في مكان مرتفع بعيد عنهم
لاحظ السماعي جرحًا ينزف من رجله اليسرى فقد أصيب بشظايا الصاروخ
نَزع من رأسه قطعة قماش تسمى “شال”، ولفه على مكان الإصابة لإيقاف تسرب الدم
“كان مرافقنا عمر يركض خلفي ويليه المقداد”
أصيب عمر سروب بجروح في رأس فخذ الرجل اليسرى، ولايزال يعاني منها إلى اليوم فعندما “أمشي لمسافة طويلة أو أثناء العمل أشعر بألم شديد”، كما يقول
“عندما وقعت الغارة كان المصور يستعد لالتقاط مشاهد للدمار من زاوية أخرى، وحينها كانت الكاميرا مغلقة”، يفيد عبدالله مجلي نقلًا عن إفادات السماعي وحميد عندما شرحا له تفاصيل ما جرى في يوم الحادث
يؤكد عبدالله والسماعي أنّ المقداد وحميد لم يكونا يرتديان خوذات وسترات واقية مكتوبًا عليها “صحافة” بأحرف بيضاء كبيرة في ذلك اليوم
في اليوم الذي قتل فيه الصحفي المقداد مجلي بغارة جوية، كان ولي العهد السعودي حاليا، محمد بن سلمان يشغل منصب وزير الدفاع، كما شغل منصب قائد التحالف الدولي في عملية عاصفة الحزم في اليمن منذ 26 مارس/ آذار 2015، بحسب موقع وزارة الدفاع
فقد المصور حميد، الوعي، إذ قذف به الانفجار حوالي ثلاثة أمتار
وعندما عاد إلى رشده وجد المكان مليئًا بالغبار والشظايا، ومجلي مصابًا بجروح خطيرة في مكان قريب، حسبما أفاد في تصريحات سابقة للجنة حماية الصحفيين ومنظمة مواطنة
ألحقت الغارة الجوية بالمقداد إصابات خطيرة في صدره ورقبته ووجهه وظهره ويده اليسرى -كما تظهر الصور التي حصل عليها المشاهد ويتحفظ عن نشرها بسبب طبيعتها الصادمة
يروي السماعي تفاصيل اللحظات الأخيرة للمقداد: “بينما طلب مني أن أضمد إصابته في اليد كان معظم جسده مغطى بالدم
أمسكت بيده للمشي باتجاه السيارة لكن لم يستطيع كانت خطواته تتباطأ بشكل كبير
عندما طلب منا ربط [جرح أصيب به] في يده اقتربنا منه وهو لم يعد يستطيع الوقوف مسكنا به ثم استلقى على ظهره
قبل أن نحمله إلى الجزء الخلفي من السيارة”
طلب المقداد من رفاقه أن يضمدوا جروح يده، ثم صمت إلى الأبد
“ما إن وصل إلى السيارة كان قد فارق الحياة”، يضيف السماعي، موضحًا أنه في تلك الأثناء حاول قيادة السيارة، لكنه لم يستطع، فقد كان يشعر بالدوار بسبب الإصابة والمجهود الذي بذله في نقل المقداد إلى السيارة، ونتيجة لذلك طلب من المصور أن يتولى القيادة، لكنه “لم يكن كفؤًا، فأوقفته، وعدت لقيادة السيارة”
تولى السماعي المسؤولية، وقاد بأقصى سرعة ممكنة “لقد كان وضع المقداد صعبًا
اعتقدت للحظات أن غارة ثانية ستقع علينا، فالطائرة الحربية كانت لاتزال تحلق في سماء المنطقة، لكن حاولت ألا أهتم لذلك، فالموت كان بين أعيننا”
استعان السائق بأحد أقاربه في المنطقة لقيادة السيارة بدلًا عنه
“لقد كنت أتألم لشدة إصابتي، مذعورًا ومصدومًا من هول ما حدث، وقلقًا على المقداد”
كان أقرب مستشفى يبعد عنهم 29 كيلومترًا
“نُقل إلى مستشفى 48 الطبي في صنعاء، وعندما وصل كان قد فارق الحياة
كان ذلك عند الساعة التاسعة والنصف صباحًا
هناك أبلغني الأطباء أن شظية أصابت الرئة، وتسببت في وفاته”، حسبما يفيد شقيقه عبدالله
لم يكن مجلي الصحافي الأول الذي فقد حياته أثناء تغطية أحداث الحرب، ولن يكون الأخير
فالعمل الصحفي في ظل الصراع أصبح محفوفًا بالمخاطر، وبات العاملون فيه هذا المجال عُرضة لأشكال متعددة من الانتهاكات، لا سيما في ظل إفلات الجناة من العقاب
وبالنظر إلى الجانب التشغيلي لأنشطة التحالف العسكري في اليمن، فقد كانت حينها “تجري تحت سيطرة السعودية والإمارات”، وفق تقرير للجنة خبراء الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أن “العمليات الجوية تجري تحت السيطرة التشغيلية لمقر مشترك تقوده المملكة في الرياض، مع خلية استهداف ومراقبة تشرف على عمليات تحديد الأهداف وإسناد المهام”
وآنذاك كان يشغل محمد بن سلمان منصب وزير الدفاع، كما شغل منصب قائد التحالف الدولي في عملية عاصفة الحزم في اليمن منذ 26 مارس/ آذار 2015، بحسب موقع وزارة الدفاع
كما لعب مسؤولون كبار في الجيش السعودي دورًا قياديًا في هيكلية التحالف، أبرزهم: رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية السابق (2014-2018) قائدَ القوات المشتركة، الفريق عبدالرحمن البنيان الذي تولى قيادة “عمليات عاصفة الحزم”
وبحسب النموذج التشغيلي على موقع وزارة الدفاع، تخضع جميع القوات المسلحة السعودية، بما في ذلك القوات الجوية، لسلطة رئيس الأركان الذي يخضع هرميًا لوزير الدفاع
وخلال الفترة من يونيو/ حزيران 2015 إلى فبراير/ شباط 2018، تولى اللواء الطيار ركن محمد بن صالح العتيبي قيادة القوات الجوية
فكر (المقداد) عدة مرات في الفرار من اليمن، لكنه قرر في النهاية البقاء وتوثيق معاناة شعبه
ظل محايدًا وموضوعيًا دائمًا
حافظ على مهنيته في أصعب الأوقات
لقد كان يقول دائمًا إنه يريد إخبار العالم بما يحدث لبلاده”
كما شاركت الإمارات بشكل فاعل في العمليات العسكرية في اليمن، بما في ذلك شنّ غارات جوية
ولعب مسؤولون في الجيش الإماراتي دورًا في تلك العمليات؛ أبرزهم: قائد القوات الجوية الإماراتية اللواء إبراهيم ناصر العلوي، ورئيس الأركان العام الفريق الركن حمد محمد ثاني الرميثي (2005-2023)
كما تشير تقارير إعلامية إلى تولي الشيخ طحنون بن زايد، أحد أشقاء محمد بن زايد، قيادة التنسيق بين أبوظبي والرياض في ما يتعلق بالعمليات العسكرية لعاصفة الحزم
وفقًا للمعلومات التي حصل عليها معد التحقيق، لم يكن في المكان الذي استُهدف فيه مجلي أي أنشطة عسكرية أو مقاتلون، مما يجعل استهدافه كهدف عسكري “أمرًا غير مبرر وغير منطقي، فالمكان في الأصل حمام طبيعي”، حسبما أفاد شقيق المقداد وسروب وأربعة سكان محليين آخرين
وإلى إفادتهم يضيف السماعي: “كان المكان خاليًا من الناس، لم يكن يوجد أحد سوانا”
شهادات الشهود تتطابق مع مشاهد حصرية تعرض للمرة الأولى حصل “المشاهد” عليها وثقت المكان قبل الغارة الجوية
بدت المنطقة الواقعة على تل تتخلله أشجار غير مثمرة قاحلة وغرف صغيرة بعضها بدون أسطح، هادئة تمامًا، ولم تُسمع فيها سوى أصوات العصافير ونباح الكلاب، ويظهر في أحد مقاطع الفيديو المقداد والسائق ومرافقهما يتجولون فوق كومة من الأنقاض التي خلفتها الغارة الجوية السابقة
يؤكد حمزة، أحد سكان المنطقة، أن “الغرف الصغيرة التي تقع جوار مكان الحادثة بناها السكان لتأجيرها بمبلغ زهيد على الناس القاصدين الحمام الطبيعي، وهي موجودة من قبل الحرب”
وتتطابق هذه المعلومة مع إفادة سروب الذي يضيف أن “مرضى الروماتيزم الذين يأتون للعلاج من مياه الحمام، يسكنون في هذه الغرف”
من خلال مطابقة المعالم الظاهرة في المقاطع المُصوّرة، فإن المكان الذي تعرض للاستهداف يقع على مقربة من الحدود الجغرافية الفاصلة بين محافظتي صنعاء وذمار، وبالتحديد في عزلة ربع العبس بمديرية بلاد الروس؛ ويبعد كيلومترًا واحدًا عن منتجع وادي جارف السياحي، الذي سبق أن قصفته مقاتلات التحالف العربي أواخر سبتمبر/ أيلول 2015
يوجد بالقرب من المكان مجرى مياه يصب في عين حمام جارف، وتحيط به تلال، وفي المقابل توجد قرية سكنية تقابلها غربًا أراضٍ زراعية واسعة
الموقع الجغرافي لفيديوهان حصل عليهما المشاهد واللذان يظهران المكان قبل وقوع الغارةيُسمع في أحد مقاطع الفيديو صوت تحليق طائرة في المنطقة
إن تحليل الظل للمنازل الظاهرة في الفيديو الذي يُسمع فيه صوت الطائرة، يعطينا توقيتًا قدره 8:10 صباحًا، ومن الممكن أن نكون أكثر ثقة في هذا التقييم، لأن ظل المنازل الموضح في هذا الفيديو، يبلغ حوالي 20 درجة، وهو ما يعطينا بدوره زاوية سمتية قدرها 119 درجة، وبالتالي توقيتًا قدره 8:10 صباحًا بتوقيت اليمن
كما تشير شهادتا السماعي وعبدالله مجلي، بالإضافة إلى التحليل السابق لظل المنازل، إلى أن الغارة وقعت ما بين 8:15 و8:20 صباحًا
لقطة شاشة من أداة تحليل الظل ” suncalc” – أعلى – وصورة من فيديو يُسمع فيه طائرة قبل استهداف المقداد فحص معد التحقيق ما يزيد عن عشرين مقطع فيديو -تتراوح مدة كل مقطع ما بين 15 و30 ث- وثقت المكان من عدة زوايا، ولم يلحظ فيه ما يشير إلى وجود أهداف عسكرية أو بالقرب منه قبل لحظات من الهجوم
تعرض المكان [مسجد وحمام جارف] للاستهداف أول مرة في عام 2016، وظل مدمرًا حتى أُعيد بناؤه في 2021، حسبما أظهرت صور الأقمار الاصطناعية للمنطقة، كما بينت أن أقرب المواقع العسكرية كان معسكر صبرا وشاتيلا، ويقع على بُعد حوالي 11 كيلومترًا إلى الشمال
المعسكر سُمّي نسبة إلى المخيمات التي نصبتها الحكومة اليمنية في المكان للاجئين الفلسطينيين عام 1982م، وتعرض خلال سنوات الحرب لغارات متكررة من قبل التحالف
صورة توضح المسافة الفاصلة بين مكان الحادث ومعسكر صبرا وشاتيلا (لقطة شاشة من جوجل إثرث)ولا يقتصر مسجد وحمام جارف على كونهما المنشأة المدنية الوحيدة التي تعرضت للقصف من قبل التحالف في مديرية بلاد الروس، فقد تعرضت كلية المجتمع في الثامن والعاشر من الشهر ذاته، لأربع غارات
وخلص تحقيق منظمة حقوقية إلى عدم وجود دليل يشير إلى أن المنشأة كانت تستخدم لأي أغراض عسكرية، أو أن هناك أي أهداف عسكرية أو بالقرب منها وقت الهجوم
تعد بلاد الروس ضمن أربع مديريات تشكل البوابة الجنوبية للعاصمة صنعاء، وترتبط حدودها الجغرافية مع مديرية سنحان التي ينحدر منها الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح الذي كانت تتهمه تقارير بتحويل مسقط رأسه إلى “مخزن ضخم من الأسلحة، والعتاد”
وكان صالح تحالف مع الحوثيين أواخر 2014 حتى مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2017 عندما قُتل على أيديهم
في العام 2016 تحقق فريق الخبراء البارزين المعني باليمن من ثماني ضربات جوية للتحالف العربي، ولم يجد ما يدل على أن الغارات استهدفت أهدافًا عسكرية مشروعة
وكان التحالف العربي أعلن في 31 يناير/ كانون الثاني 2016، تشكيل الفريق المشترك لتقييم الحوادث، ووعد بمواصلة “اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين والعاملين في المجال الطبي والمنظمات الإنسانية والصحفيين في اليمن”
ومنذ ذلك الحين حقق الفريق في العديد من الادعاءات والوقائع الناتجة عن عمليات التحالف في اليمن، إلا أنه لم يتطرق إلى حادثة حمام جارف سواء تلك التي قُتل فيها الصحفي المقداد أو التي وقعت قبلها بأيام
لم يصدر عن التحالف العربي أي تعليق حول حادثة الصحافي مجلي
كما لم ترد وزارة الدفاع السعودية على أسئلة أُرسلت عبر البريد الإلكتروني مرارا بشأن حادثة مجلي، قبل نشر هذا التحقيق
تتهم أسرة المقداد “دول التحالف” بالوقوف وراء مقتله
كما أن لدى عبدالله مجلي شكوكًا بأنه استُهدف “بطريقة مباشرة، وكان هو المقصود “، حد قوله
وبالنسبة له فإن شكوكه مبنية على “طلبهم (يقصد إذاعة “صوت أمريكا”) من المقداد الذهاب للمكان مرة أخرى لإعادة التصوير، على الرغم من أنه لم يحدث معه ذلك من قبل خلال عمله أن تحصل أخطاء في التصوير”
السماعي يعتقد أيضًا أن الاستهداف “كان مُتعمدًا”، ما يجعله يعتقد ذلك هو “أن التغطية الإخبارية التي قام بها المقداد عن استهداف مركز للمكفوفين في صنعاء، أحدثت ضجة في حينها، كما كان يحدثني في أيامه الأخيرة”
بموجب القانون الإنساني الدولي، فإن استهداف المدنيين عمدًا؛ بمن في ذلك الصحفيون، يشكل جريمة حرب
كان الصحفي المستقل المقداد مجلي (35 عامًا) واحدًا من قلة من الصحفيين اليمنيين الذين يعملون مع وسائل إعلام دولية
فعلى مدى تسعة أعوام (2006 -يناير 2016) عمل للعديد من وسائل الإعلام المحلية والعالمية، مثل صحيفتي “يمن تايمز” و”يمن أوبزرفر” المحليتين، الناطقتين باللغة الإنجليزية، ووكالة الأنباء الإنسانية التابعة للأمم المتحدة (إيرين) -المعروفة حاليًا باسم “نيو هيومانيتريان“- والصحيفة البريطانية “ذي تلغراف” وإذاعة “صوت أمريكا”
ففي سيرته الذاتية التي اطلعنا عليها، يُقدم المقداد مجلي نفسه كصحفي ومصور ومترجم ومنتج إعلامي مستقل متخصص في التقارير الصحفية عن الصراع والقضايا الإنسانية في اليمن
صورة شخصية للمقدادأسهم بمقالاته في التركز على قضايا اجتماعية حاسمة مثل قضايا الثأر وانتشار الأسلحة، وظاهرة تسرب الأطفال من المدارس، وتهريب الأطفال، بالإضافة إلى مشكلة زواج الصغيرات
وعندما اندلعت الحرب ركز المقداد في تقاريره بشكل لافت على الوضع الإنساني والأزمة الاقتصادية، بالإضافة إلى المنشآت التي دمرتها الغارات الجوية في البلاد، “وصدحت تقاريره في الإذاعات والصحف العالمية مثل التلغراف ونيويورك تايمز”، يقول شقيقة عبدالله
كما لفت مجلي الانتباه في أعماله الصحفية إلى الفئات الأكثر تهميشًا وعرضة للعنف كالأقليات والمعاقين والنساء والأطفال
كما ساعد مجلي بشكل متكرر الصحفيين الأجانب في تغطية الوضع في اليمن، كمنسق ومترجم في لقاءاتهم الصحافية مع مسؤولين حكوميين
يشير عبدالله إلى أن “المقداد لم يكن منحازًا (في تغطيته) لأي طرف سياسي، ولم يكن يحب السياسة، وكان جل اهتمامه في الجانب الإنساني فقط
كان مولعًا بالصحافة، ولديه شغف كبير”
ويضيف: “لقد كان ضد تدخل [التحالف العربي] في اليمن، وكان يوثق انتهاكاته وجرائمه ضد المدنيين، وكان أكثر موضوع أثر عليهم (يقصد التحالف) توثيق استهدافهم لدار المكفوفين”
في كثير من الأحيان تعرض “لمخاطر شخصية جمة”، كما أفادت شبكة الأنباء الإنسانية في نعي رحيل المقداد، وقالت: “إنه فكر عدة مرات في الفرار من اليمن، لكنه قرر في النهاية البقاء وتوثيق معاناة شعبه
ظل محايدًا وموضوعيًا دائمًا
حافظ على مهنيته في أصعب الأوقات
لقد كان يقول دائمًا إنه يريد إخبار العالم بما يحدث لبلاده”
ويعد مجلي واحدًا من 11 صحافيًا وعاملًا في وسائل الإعلام قتلوا خلال عامي 2015 و2016 أثناء تغطيتهم للحرب في البلاد، وفقًا للجنة حماية الصحفيين
وسجل مرصد الحريات الإعلامية (غير حكومي) 37 حالة انتهاك ضد صحفيين وعاملين في مجال حرية الرأي والتعبير في اليمن، مارستها قوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، منذ بداية الحرب، من بينها 12 حالة قتل لصحفيين وعاملين في مؤسسات إعلامية، كما يفيد خليل كامل، مدير برنامج الدعم الطارئ في المرصد
منذ بدء الحرب قبل تسع سنوات من الآن، يواجه الصحفيون اليمنيون ضغوطًا غير مسبوقة إذ تعرضوا لنحو 1700 حالة انتهاك، ناهيك عن مقتل 45 منهم، بحسب نقابة الصحفيين اليمنيين
وكان مجلي واجه قبل عام من مقتله مضايقات من جانب جماعة أنصار الله، وأبلغ حينها لجنة حماية الصحفيين أنه يخشى أن تحتجزه الجماعة انتقامًا لتقاريره
يقول عبدالله مجلي، بأن شقيقه “تعرض لبعض المضايقات في ما يخص استقدام الصحفيين الأجانب، ولكن سرعان ما حل هذه الإشكالية مع وزارة الإعلام بصنعاء، وأصبح يستقدم الصحفيين بتصاريح رسمية من وزارة الإعلام، ويقوم مندوب من الوزارة بمرافقته هو والصحفي الأجنبي”
وتُعدّ قضية المقداد واحدة من بين العديد من جرائم القتل التي طالت الصحفيين في اليمن، مما يسلط الضوء على أهمية العمل على اتخاذ خطوات لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات بحق الحريات الإعلامية
حتى اليوم لم تُقدم أسرة المقداد شكوى ضد أية جهة، على الرغم من مطالبتها بمحاسبة مرتكبي الانتهاك بحق نجلها
وفي هذا الصدد هناك بعض الإجراءات لمساءلة المتورطين في مقتل المقداد، يقول كامل إنها تتمثل في “توثيق الحالة وتقديمها للجهات الدولية المختصة مثل محكمة الجنايات الدولية والمحاكم الأوروبية لحقوق الإنسان، بمحاسبة قتلة الصحفي المقداد، على الرغم من ضعف دور هذه الجهات والآليات خلال هذه المرحلة، إلا أن الجرائم لا تسقط بالتقادم”
ونظرًا لتعدد أطراف الصراع في اليمن، فإنه “ينبغي تضافر كافة الجهود من منظمات محلية مدنية وحقوقية ومنظمات دولية ومؤسسات ومدافعين عن حقوق الإنسان، لتوثيق وحفظ حقوق الضحايا في الذاكرة الوطنية، تمهيدًا لتطبيق عدالة انتقالية بعد انتهاء الحرب لملاحقة ومحاسبة جميع الأطراف المتسببة بارتكاب جرائم وانتهاكات حقوق الانسان في اليمن”، كما تقول المحامية هدى الصراري، رئيس مؤسسة دفاع للحقوق والحريات
وتضيف الصراري، في حديثها لموقع “المشاهد”، أنه ينبغي أيضًا “تهيئة المؤسسات التنفيذية والقضائية وإعادة تأهيلها حتى تكون ضامنة لحقوق الإنسان، وتعويض وجبر ضرر كافة اليمنيين الذين تضرروا بسبب النزاع المسلح”
كان المقداد مجلي الابن الأكبر في عائلة مكونة من سبعة أفراد، وترك وراءه نجله الوحيد عبدالعزيز البالغ من العمر حاليًا 14 عامًا
يتذكر عبدالله حياته مع شقيقه: “كانت أكبر طموحاتنا إكمال التعليم والتميز فيه (…)، وعملنا معًا لتحقيق ذلك
وكنا نتشارك في مساعدة أسرتنا، إذ لم نكن من الأسر الغنية
لقد كان مكافحًا منذ صغره، ومسالمًا”
وتسبب مقتله بصدمة كبيرة لدى مجلس العموم البريطاني ووسائل إعلام دولية
كما شكّل رحيله ألمًا حادًا لجميع أفراد عائلته، و”أكبر فاجعة” مرت في حياة شقيقه، مضيفًا: “كان للمقداد العديد من الأمنيات، أهمها أن يوفر حياة آمنة وسعيدة لمستقبل ابنه عبدالعزيز”
يتذكر السماعي: “عرفته شخصًا اجتماعيًا ذا خصال نبيلة، لا يتهاون في عمله
لقد كان نموذجًا يحتذى به
مثّل رحيله فاجعة لا تُنسى، وخسارة كبيرة على الوطن والصحافة”
ليصلك كل جديدالإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقارير