مبادرات ذاتية تروي عطش العابرين في ريف اليمن 

منذ 7 ساعات

تعز- رهيب هائل في كل صباح، تبدأ أسرة عبدالله الفلاج، في مديرية سامع، محافظة تعز، يومها بطقس إنساني ثابت

أحد أفراد الأسرة يقوم بوضع “تُرمُس” بلاستيكي يتسع لأربعين لترًا، مليئًا بالماء ومصحوبًا بكأسٍ، جوار منزلهم المطل على الطريق الفرعي المخصص للمارة

يمثل هذا الماء على الطريق نقطة توقف لشرب المياه  للعابرين باستمرار، رجالًا ونساءً، ورعاة الأغنام وغيرهم، دون انقطاع

يعد انتشار هذه المبادرات أمرًا حيويًا للمارة في الطرق الريفية

إذ أنّ هذه الطرق تخلو من البقالات التي تبيع الماء أو أماكن لتقديم الطعام والشراب

غالبا يتم وضع “ترمس الماء” في غرفة صغيرة بنيت خصيصا لهذا الغرض وتكون في موقع مرتفع يسمح بوصول الهواء البارد إلى اناء الماء لضمان استمراره باردا

رائف الفلاج، البالغ من العمر 27 عامًا، يروي حكاية هذه المبادرة التي تحوّلت إلى عادة يومية راسخة في حياة أسرته، فيقول لـ”المشاهد”: “منذ أن كنتُ في الخامسة من عمري، اعتادتْ أسرتي تقديم الماء للعابرين باستخدام دبة مياه “مشلّته” (مغطاة بلباس قطن يساعد على تبريد الماء) سعتها خمسة لترات بشكلٍ مستمر؛ حتى تبرّع أحد الأهالي قبل أربع سنوات بـ(ترمس) كبير يسع أربعين لترًا”

يضيف: “كثيرًا ما يأتي وقت الظهيرة وقد نفد الماء من (الترمس) فنُسارع إلى تعبئته من جديد، لامتلاك أسرتي خزّانًا طبيعيًا لحصاد مياه الأمطار، وإن كان صغيرًا

كما نحرص على تنظيفه بانتظام لضمان بقاء الماء نقيًا وآمنًا للشرب”

يتابع: “لم نمل أو نقطع المياه فهي مرتبطة بقيّمنا وشعورنا بالمسؤولية تجاه كل من يمرُّ في هذا الطريق”

مشيرًا إلى أنّ “أسرته تضطر إلى تقديم المياه بـ(الدبة المشلَّتة) سعة خمسة لترات للعابرين، عوضًا عن (الترمس) بسبب شح المياه، وحتى لا يعبث بها الأطفال”

رائف الفلاج، مواطن من مديرية سامع: “لم نمل أو نقطع المياه فهي مرتبطة بقيّمنا وشعورنا بالمسؤولية تجاه كل من يمرُّ في هذا الطريق”

لا يتجاوز نصيب الفرد من المياه في اليمن 83 مترًا مكعبًا سنويًا، مقارنةً بالحد الأدنى 500 متر مكعب

كما أنّ نصف السكان تقريبًا لا يحصلون على مياهٍ صالحةٍ للشرب أو صرف صحي موثوق، وَفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، في أبريل 2024

وحسب المنظمة فإنّ اليمن يصنف كأفقر بلدٍ في العالم مائيًا

وعلى الرغم من تحذير الأمم المتحدة من تفاقم أزمة المياه، جرّاء الجفاف وعجز أكثر من 16 مليون شخص الحصول على المياه الكافية لاحتياجاتهم  اليومية، لا تزال الأسر في الريف اليمني مستمرةً في تقديم هذه المبادرات من خزاناتهم الطبيعية، بشكلٍ مستمر دون توقف

وتؤكد المواطنة أم محمد، البالغة من العمر 55 عامًا، تسكن في مديرية سامع  محافظة تعز، أنّ “مبادرات توفير مياه الشرب للعابرين على الطرقات تُعد من أفضل الأعمال الخيرية التي يحرص عليها الريفيون بشكل مستمر؛ لنيل الأجر والثواب من الله تعالى

وأوضحت أنّ “موسم الصيف يشهد انتشارًا واسعًا لهذه المبادرات في الأرياف من قبل الأهالي، بينما تقل نسبتها في الشتاء بسبب شح المياه وعدم امتلاك العديد من السكان  خزانات طبيعية لحصاد مياه الأمطار”

وشددت على ضرورة أن تهتم السلطة المحلية والمنظمات بهذه المبادرات وتدعمها، من خلال توفير “ترامس”

  ووسائل تنقية المياه للمحافظة على سلامتها وجودتها

ويفيد الصحفي والناشط المجتمعي محمد الوجيه أنّ “العديد من المواطنين في المناطق الريفية باليمن يقدّمون مبادراتٍ إنسانيةٍ نبيلة، من خلال وضع دبّات مياه على جوانب الطرقات بشكل تطوعي لسقي العابرين”

يضيف لـ”المشاهد” أنّ “الأهالي يحرصون على اختيار مواقع هذه الدبّات بعناية، في الطرقات الرئيسية، أو المرتفعات والمسافات الطويلة، التي تشهد أجواءً حارة وجافة، بالإضافة إلى وضعها جوار منازلهم المطلة على الطرق الرئيسية والفرعية”

ويؤكد الوجيه: “هذه المبادرات مستمرة حتى اليوم، وتعبّر عن روح التكافل والعطاء لدى اليمنيين رغم التحديات، وقد تحولت إلى عادةٍ راسخةٍ في الكثير من المناطق، حيث يتسابق الأهالي على تعبئة المياه ومتابعة امتلاء الدبّات باستمرار، في مشهدٍ يجسد الإحساس الإنساني الرفيع وخدمة الآخرين دون مقابل”

يعد تقديم المياه للعابرين عبر مبادرات شعبية سلوكًا إنسانيًا نبيلًا، لكنه قد يتحول إلى مصدر لانتقال الأوبئة إذا غابت الاشتراطات الصحية الأساسية

ويقول الدكتور شاكر السامعي، مساعد طبيب عام بوحدة صحية في مديرية خب الشعف التابعة لمحافظة الجوف، أنّ “مياه الشرب في الطرقات قد تشكل مخاطر صحية كبيرة، إذ يمكن أن تؤدي إلى تكاثر البكتيريا المسببة للإسهال والتسمم، والفيروسات مثل التهاب الكبد الوبائي (A)، بالإضافة إلى الطفيليات مثل الجيارديا، والتي تسبب أمراضًا معويةً خطيرة”

شاكر السامعي، مساعد طبيب عام “يجب غسل الأواني (مثل التراميس ودِبب الماء) والكؤوس يوميًا بالماء والصابون، وتعقيمها أسبوعيًا بمحلول الكلور المخفف، مع الحرص على عدم تركها مكشوفة”

يضيف: :يمكن أن تسهم في انتشار الأمراض الجلدية والفطرية الناتجة عن ملامسة الكؤوس والأواني غير النظيفة؛ ما يؤدي إلى تشققات في الشفاه وحساسية في الجلد”

ويشير إلى أنّ “هذه الأمراض تؤثر بشكلٍ خاص على الفئات الضعيفة، مثل الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي المناعة المنخفضة، إذ يكونون أكثر عرضةً للإصابة بمضاعفات خطيرة”

ويشدد السامعي على ضرورة تعقيم المياه بالكلور، وإغلاق الخزانات بإحكام لمنع تعرضها للأتربة والحشرات، واستخدام الفلاتر عند التعبئة، وتنظيف الخزانات مرة واحدة على الأقل سنويًا

وأردف: “كما يجب غسل الأواني (مثل التراميس ودِبب الماء) والكؤوس يوميًا بالماء والصابون، وتعقيمها أسبوعيًا بمحلول الكلور المخفف، مع الحرص على عدم تركها مكشوفة”

ويختتم حديثه: “هذه المبادرات بحاجةٍ إلى دعم التوعية الصحية المستمرة عبر مكاتب الصحة ووسائل الإعلام وخطباء المساجد، حتى تبقى مصدرًا للخير لا وسيلةً لنقل الأوبئة”

ليصلك كل جديدالإعلاميون في خطرمشاورات السلام كشف التضليل التحقيقات التقارير